جيوش الدكتاتوريات البدوية - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

كل يوم يتسأل المرء إلى متى يستمر إضرام الأزمات، إما مفتعلة أوعن جهل في الكثير من الأحيان، هذه الأزمات يتم تأجيجها وإستثمارها من إعلام له مراسلين ومحللين ومتداخلين مدفوعي الأجر، ودول شقيقة داعمة لطرف دون آخر، نتج عن ذلك مراكز قوى متناحرة سياسيا وكثل تُنشاء بلا برامج سوى التشنيع من الغريم على وسائل الإعلام. هذا الإحتقان السياسي (المراهق) أوجد تحشيد جماهيري مناطقي أو قبلي بقوات عسكرية (صبيانية في معظمها) لها مجال جغرافي متصل أو منفصل، ترصد لها ميزانيات تدريب وشراء سلاح وذخيرة مهربة وتجنيد مرتزقة والدفع بالأبناء إلى ساحات الحرب ليكونوا ضحايا الزعامات الجهوية المتخلفة، والجميع في غبطة وسرور من الإنتصار الوهمي الموشح بالتكبير، أما ثمن ذلك فهو مستقطع من أرواح الشباب المغرر بهم ومن أطرافهم التي لن تعود، ومن ثمن رغيف الخبز ومن ساعات الإضاءة اليومية أو من دين مؤجل لمكاسب دول شقيقة لسنوات قادمة.

في غياب مراكز أبحاث لها خط وطني تنويري، يسود التفكير المنكفئ على ذاته (التفكير داخل الصندوق)، وينتشر بين العامة بفعل الإعلام الشعبوي، والذي ساعد على إستمرار الدجل السياسي المدافع عن تسليح الجيش العربي الوطني الليبي (خوذ نفس على قولة خوتنا المصريين) ، وإحترام وتقديس قيادات الجيش العربي، وإعطاء تسهيلات للجيش العربي، وتحشيد القبائل لمساندة الجيش العربي. بالمقابل، من يعتقد أن المجموعات المدنية المسلحة بديلة للجيش والحرس الوطني والشرطة فهو واهم، فهذه المجموعات تدرك في قناعة نفسها وعند قادتها أنها وسيلة مرحلية لضبط الأمن إلى حين إنشاء مؤسسات أمنية فاعلة، ومن هذه قوة الردع الخاصة، وفي الحالتين لن تكون الدولة الليبية قريبة من إنشاء جيش عسكري نظامي على أسس حديثه، ولذا التأني في إعادة تأسيس وهيكلة الجيش النظامي، والإتجاه إلى توفير الأمن عن طريق الشرطة والحرس الوطني سبيلا فاعلاً لتوفير أمن المدن بقوة الشرطة وأمن الحدود والمعابر والمنشأة الحيوية وما بين المدن بقوة الحرس الوطني (المسمى حاليا الحرس الرئاسي).

تاريخيا (وللتاريخ عبره وإمتداد إلى الحاضر) لم يكن لليبيا جيش نظامي بالمفهوم الحديث (قوى عسكرية لا أيديولوجية سياسية أو دينية لها، تشتغل وفق تراتبية عسكرية، وتهتم بالدفاع عن حدود الدولة من الغزو الخارجي ولا شأن لها بالأمن الداخلي)، فمثلا القوات المسلحة في العهود الإسلامية هي قوى مؤدلجة تابعة للسلطان أو الأمير وكثيراً ما يكون جيشاً للقبيلة أو العرق أو الجهة، ولذا شاب أعمال غزواته الكثير من التجاوزات المسيئة لروح الإسلام مثل السبي والغنائم وإلزام أقوام بدفع الجزية وهم مسلمون..

في العصر العثماني كان جيش السلطان وجيش القبيلة طرفان رئيسيان في زعزعة الإستقرار السياسي للدولة وأداة للدسائس والقرصنة، مثل جيش قورجي وقوات المحاميد وقوات سيف النصر، وقوات المكني.  في وجود الجيوش القبلية وجندرما السلطان العثماني فقدت ليبيا شريط حدودي عمقه 60 كم (بداية من بحيرة البيبان وبن قردان إلى ماطوس بالقرب من غدامس) للدولة الفرنسية المحتلة لتونس ولازالت كذلك منذ 1892م، ناهيك عن القتل والتهجير بسبب المكوس وجمع الأخماس والعشور، وإحتكار البضائع لبطانة الوالي بقوة السلاح.

بالمثل في العهد الإيطالي لم يكن هناك جيش ليبي موحد، بل زعامات قبلية متناحرة مولها المستعمر وقدم لها التسهيلات والمزايا، مثل الدعم بالسلاح والمال وقبول أبنائهم للدراسة في جامعاتها، وجعلهم يتقاتلون (وما أشبه ذلك بالحكومات الحالية وتمويلها من المصرف المركزي)، مما أطال الحرب وزرع الضغينة إلى يومنا هذا.

أما عن جيش السنوسي (الجيش المرابط) الذي تأسس في 9 أغسطس 1940م بمصر فهو جيش لمناصرة الإنجليز في حربهم ضد قوات المحور، وما أن هزمت إيطاليا حتى تم حل الجيش ولم يستطيع تحرير البلاد بل ساعد على إستبدال مستعمر بمستعمر. أخيرا جيش إمارة برقة لم يدم طويلاً فالإمارة كانت لأقل من سنتين فقط.

في أوائل الخمسينات كان جيش المملكة بقيادة ضباط لهم عقائد الدول الدارسين فيها، من بعثيين وناصريين وغربيين، ومهامهم لا تعدو أن تكون شكلية، فحماية حدود الوطن إلتزمت به القواعد الأمريكية والبريطانية التي تدفع إجار ومعونات بالإضافة إلى الحماية.

المشهد الأخير للجيش الليبي هو جيش الجماهيرية البالغ عدده 70 ألف، جلهم من الضباط العالية الرتب، الجيش الذي حشر القذافي فيه كل من هب ودب لإرضاء غروره، ومرغ شرفة بزجه في معارك خاسرة من مصر إلى تشاد إلى لبنان إلى قفصة، ورغم إهدر المليارات عليه؛ فمثلا في العيد العاشر كان الإحتفال في بنغازي وكان عدد الدبابات يزيد عن ألف دبابة وأكثر من 200 طائرة حربية. وهكذا تبخرت المليارات في شراء مئات الأطنان من الذخيرة والسلاح، والتي قدرت ب 550 مليار دولار خلال عمر الجماهيرية العظمى. حديد خردة لا هدف له إلا الطنطنة الإعلامية.

ما نعانيه اليوم هو إنعكاس لكل الحقابات السابقة والأكثر إيلاما حقبة العهد المنهار، والتي صنعت قيادات كل جيوش الدكتاتوريات البدوية، ففي الشرق هناك جيش حفتر وجيش برقه المنتهي عهده، ثم جيش جضران وفي الغرب هناك جيش القبائل (الأخضر) وربيبه جيش داعش، وتشكيلات الصواعق والقعقاع القبلية، والتشكيلات التابعة للمنطقة الغربية والدروع. أما ما أصبح طارئا على المشهد الليبي هو رجوع قادة الكتائب الأمنية مثل علي كنه لتزعم بعض الطوارق، ومحمد بن نايل لتزعم قوات القدادفة بالإضافة إلى قوات التبو في الكفرة وربيانه وأباري.

خلاصة القول أن تفكير المراقب للمشهد الليبي،  يشده إلى أن الخروج من الوضع الحالي ليس بتسليح جيوش الدكتاتوريات البدوية شرقا أو غربا أو جنوبا، وليس بتدفق المال والسلاح لهذه المجموعات، ولكن بإلغاء دورها، وإلزام قياداتها على التقاعد وتفكيك هياكلها، ومنع تمويلها، وفك الإرتباط بينها وبين البلديات، وبخطوة موازية دعم الشرطة ودعم وتدريب الحرس الوطني (الحرس الرئاسي) ليقوم بحراسة المؤسسات العامة من حقول النفط والمصارف والدوائر الحكومية والبوابات بين المدن، ويستمر هذا النهج إلى أن يكون لليبيا دستور دائم ينظم الحياة السياسية للدولة، ويبعد الشعب عن شبح النزال المسلح بين تكثلات مجلس النواب. وفي هذا الإطار إستطاع ليون فك مجموعة فجر ليبيا وإنهاء تكثلها بخلق زعامات موازية داخلها، وإقترب كوبلر من إنهاء دور الكرامة بنفس الأسلوب السابق. أما المجموعات الصغيرة مثل جضران فقد يكون أسلوب العصاء والجزرة مجزياً، بتلازم العمل الإستخباراتي مع الحوار المباشر مع قادتها لإنهاء دورها.

إن وضع جيوش الدكتاتوريات البدوية وكذلك مجلس النواب الحالي لا يعدو أن يكون بمثابة كيس المرارة و الزائدة الدودية في جسم الإنسان، فما إن إلتهبت إحداها أو كليهما فلا تفكر في علاجها أو زرع غيرهما بقدر إستئصالها والتخلص منها، فليبيا في مرحلة إنشاء الدولة ولا وقت لها لخوض المعارك الجانبية المعطلة لقيام مؤسسات الدولة، وهذا يعطي مسئولية لكل الشعب للدخول في عصيان مدني، مطالباً برجوع النواب إلى دوائرهم الإنتخابية وتجميد عضويتهم، مما يؤدي إلى تجميد مجلس النواب مرحليا إلى ما بعد إصدار الدستور تحت إشراف المحكمة العليا، ويستمر المجلس الرئاسي وحكومته في أداء عملهما لتصريف أمور المواطنين.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا