حصاد السبع الشداد.. الأيديولوجيا والسياسة - عين ليبيا

من إعداد: عبدالرزاق العرادي

أفرز ربيع الشعوب وما تلاه من أحداث وتفاعلات جملة من الإشكالات الفكرية والأسئلة في وجه الحركات والأحزاب الإسلامية. وبقدر ما مكنت أجواء هذا الربيع لهذه الحركات والأحزاب ودفعت بها إلى الحكم في أكثر من بلد وللتصدر في المجال السياسي في بلدان أخرى، فقد أظهرت تحديات فكرية في مواجهة هذه الحركات، كما أظهرت ضعفا لدى الحركات والأحزاب في التعاطي مع قضايا الشأن العام بمرونة تتجاوز المواقف الصلبة (الحق/الباطل) إلى المواقف الأكثر انفتاحا وقربا من الواقع (الصواب/الخطأ).

ويمكن القول عموما إن حالة الشتات التي يعاني منها التيار الإسلامي، نفسه، ربما تسببت في بعض الإرباك لأجهزة الدولة، وتسببت كذلك في بعض الإرباك للجمهور، وشكل بعضها ثقلا على كاهل الحركات والأحزاب الإسلامية التي وجدت نفسها تخوض معركة التعريف بنفسها في هذا الخضم المائج، وتحاول الجمع بين التمايز عن التيارات التي تلاحقها شبه استخدام العنف، والتكفير، بسبب تاريخها السابق، وتلك التي يتماهى خطابها مع السلطات السياسية الحاكمة أيا يكن موقف تلك السلطات من الدين، ومن الحريات العامة، ومن بناء الدولة، ومهما تكن درجة ولوغها في دماء أبناء شعبها وفي أكل الأموال العامة.

فهي تتمايز تاريخا، وفكرا، وممارسة عن كل هذه الحركات، ولكن التركيز على المرجعية المشتركة، والخلط المتعمد من طرف تيار الثورة المضادة، والخلط الناتج عن الجهل، أو الغرضية، من طرف الإعلام الغربي، أربك خطاب الحركات والأحزاب الإسلامية وشغلها عن معارك الوعي، والبناء المؤسسي والسياسي، ومحاولة تجاوز الربكة التي يحدثها التعاطي مع ملفات الدولة، بالنسبة للبعض، والعمل في فضاء مفتوح بالنسبة للبعض الآخر، كما هو في الحالة الليبية، التي أزعم الاطلاع على تفاضيلها اليومية عن كثب.

لقد أسفرت حالة التمايز عن ثلاث تيارات، تتمايز على صعيد الممارسة، والمواقف من الحالة السياسية والدولة عموما:

  • الأول: تيار عنف يرى أن التغيير المسلح هو السبيل الوحيد المتاح أمام الحركات الإسلامية، ويبني هذا التيار أطروحته علي نموذج مبسط للدولة تنطلق من الاستحواذ على رقعة أرضية والتمدد باتجاه الاستيلاء على المزيد من الأراضي ثم فرض تطبيق المفهوم الخاص بهذه التنظيمات للشريعة الإسلامية.
  • الثاني: اتجاه داعم للسلطة بالمطلق مهما بلغت من الظلم والاستبداد ، وقد رأينا فتاويه التي تبرر ظلم الشعوب وقهرها بالعنف والقوة، وتبيح للحاكم ما يشاء من منكرات، حتى قال أحد هؤلاء في درس مسجدي “لو خرج الحاكم على الهواء مباشرة يزني ويشرب الخمر لمدة نصف ساعة يوميًا فلا يجوز الخروج عليه”.
  • الثالث: اتجاه هو الذي اصطلح عليه بتيار “الإسلام السياسي”، ورغم أن هذا التيار في غلبيته العظمى يؤمن بالمشاركة، والدولة المدنية، إلا أن تاريخ المطاردات والسجون، والخيبات التي عانى منها طيلة تاريخه، جعلته ينظر بريبة إلى تصرفات أجهزة الدولة، والمنتمين لها، وأضعفت الثقة بينه وبين التيارات الوطنية بمختلف أطروحاتها الفكرية والسياسية، ومع ما يمتلكه هذا التيار من واقعية ومرونة في التعاطي مع الواقع، فإن رؤيته احتفظت ببعض الصلابة التي ليست في محلها وبعض الضبابية في العمل السياسي التي تحتاج إلى توضيح.

وإزاء هذه الأزمة العميقة التي تمر بها أمتنا ويمر بها التيار الإسلامي –الذي أعتز بأنني تربيت ونشأت في أحضانه- أرى أنه من الواجب عليّ أن أفصح عن رؤيتي، التي ما زالت تحت البحث والإنضاج، بعد سبع شداد أرى أنها قد تسهم في الخروج من هذا المأزق أو على الأقل تخفف من حدته.

في منتصف تسعينيات القرن الماضي انكشف تنظيم الإخوان المسلمين في ليبيا جزئيا، وكنت في ذلك الحين أحد أعضائه، فقدمت لقيادة الجماعة رؤية لإعادة بناء هيكليتها ورؤيتها في العمل، وبَنِيْتُ هذه الرؤية على نموذج الجامعات. فالجامعة هي عبارة عن مسارات تعليمية وتخصصات ومناهج، وأعضاء هيئة تدريس، وموظفين، وطلاب يقبلون في الجامعة ثم يتخرجون وتنتهي علاقتهم بالجامعة بمجرد التخرج، إلا ما بقي من عاطفة تجاه الصرح الذي زودهم بالعلم، ومنحهم الشهادة، ومدهم بملامح قيم المهنة التي سيقبلون عليها.

تقبل الجامعات المتفوقين وتخضعهم لامتحانات قبول وتضع لهم المناهج الدراسية للتخرج ونيل الشهادة الجامعية التي تؤهلهم لخدمة أوطانهم والبدء في حياتهم الوظيفية. وكذلك يجب أن تكون الجماعات الإسلامية مؤسسة تخرج المواطن الصالح وتحمله بالقيم وتدفع به في وسط المجتمع، دون أي يستمر الرابط أو القيد التنظيمي.

هكذا كانت رؤيتي حينها لوظيفة الجماعات الإسلامية في غير مواطن المقاومة ومقارعة المحتل، وقد زادتني الأيام قناعة بهذه الرؤية وتمسكا بها.

وبالإضافة لهذا فإنني أرى أنه على الإسلاميين من أجل الخروج من مأزقهم الحالي الذي جعلهم يدورون في حلقة مفرغة؛ كلما سلكوا مسارا للتغير أعادهم للمربع الأول، أن يقوموا بجملة من المراجعات لجملة من القضايا؛ بعضها فكري يتعلق بالرؤية والتصور، وبعضها عملي يتعلق بالتعاطي والممارسة.

ومن أهم القضايا  الفكرية التي تحتاج إلى مراجعة –في نظري- وإعادة بناء الموقف منها أربع قضايا:

أولاها: الموقف من الدولة الحديثة: وأرى هنا أنه ينبغي للإسلاميين أن يتجاوزوا المثالية الحالمة وشكل الدولة الذي لا يوجد إلا في مخيلتهم، وأن يدركوا أن الدولة اليوم (“الدولة العقارية” كما سماها الدكتور محمد المختار الشنقيطي) هي دولة اشترك الجميع بمختلف أديانهم وأفكارهم ومواقفهم السياسية في بنائها، وهي دولة “لايمكن أن تحصر  (…) أهلها في معتقد معين، أو تُسند وتدعم تياراً دينيا دون آخر”[1]، فلا يصح أن يعمل فصيل سياسي أو فكري على فرض رؤيته أو هيمنته على بقية التشكيلات الوطنية أو إقصائها وحرمانها من حقوقها، وأولها الحق في رعاية الدولة لها، والاستظلال بمظلتها.

ومثال ذلك حق المواطنة وما ينبني عليه من التساوي في الحقوق السياسية والمدنية بمختلف أشكالها، فهو حق مكفول في الدولة العقارية الحديثة، بغض النظر عن الديانة أو الرؤية الفكرية والرأي السياسي، مما يعني ضرورة تجاوز الرؤية الفقهية التي تحرم غير المسلم والمرأة من الترشح للولاية العامة، وتقسم المواطنين إلى قسمين: مواطنين من الدرجة الأولى ومواطنين من الدرجة الثانية[2].

والقضية الثانية: هي مصدر التشريع في الدولة الحديثة وهي قضية محسومة إلى حد بعيد، على مستوى ليبيا التي أعرف على الأقل. التشريع بالمعنى الإجرائي يوجد بأيدي مشرعين تضمهم مؤسسة البرلمان، ولكنه بالمعنى المرجعي يعود إلى وثيقة العقد الاجتماعي الذي يترجمه الدستور، وهو في الأصل وثيقة تمثل الإرادة الجماعية لمواطني الدولة، بما فيها الثوابت الثقافية التي يبنون عليها تصوراتهم بشأن العلاقة بالدولة، والعلاقات بالمجتمعات الأخرى.

وتعد هذه الوثيقة هي الضامن الأساسي لمرجعية التشريع، لما تمنحه للجمهور من حق الرقابة على أداء المشرعين الذين هم المسؤولون عن تنفيذ مقتضيات الدستور إجرائيا.

ومن هنا فإن اتفاق الليبيين على أن الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع، وبطلان ما شرع مخالفا لها، وتضمين ذلك في الوثيقة الدستورية؛ سواء تعلق الأمر بالإعلان الدستوري، أو مسودات الدستور الدائم؛ فقد جاء في الاتفاق السياسي في فصل المبادئ الحاكمة “الالتزام بأن الشريعة الإسلامية هي مصدر كل تشريع وكل ما يخالفها يعد باطلا” كما جاء في مشروع الدستور الذي أعدته الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور أن “الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية مصدر التشريع”.

إن هذا يرفع الخلاف بشأنها، ولا يدع سببا لتخصيص جزء من الليبيين نفسهم بالمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية.

فالتحدي الآن ليس في تضمين الشريعة في القوانين، ولا في مصدر هذه القوانين، بل في أن يكون الناس جميعاً في ليبيا، باختلاف أديانهم وأجناسهم، سواسية أمام القانون.

والقضية الثالثة: الشكل القانوني، فالحركات الإسلامية بطبيعتها حركات شمولية، تخلط بين مجالات عمل مختلفة تحت مظلة مؤسسة واحدة، وهذا يخلق اشتباكا مع النصوص والقواعد القانونية المنظمة للحياة المدنية في الدولة الحديثة.

لا توجد نصوص قانونية أو قواعد يمكن من خلالها تأسيس كيان قانوني يسمح بممارسة العمل السياسي والدعوي والاستثماري والرياضي والتعليمي والصحي والاجتماعي والثقافي معاً، وذلك لأن هناك أشكالا قانونية وأغراض محددة لكل صنف من هذه المؤسسات لا يسمح القانون بمزاولة الأصناف الأخرى.

بل إن القانون يحمل ممارسيها مسؤولة هذه الممارسة بدون ترخيص. وبالتالي فإن الممارس للعمل السياسي عليه أن يؤسس حزبا سياسيا والذي يسعى لإقامة مشروع استثماري عليه أن يؤسس شركة تجارية وهكذا بقية الأصناف، وإلا عد مخالفا للقانون.

ورغم أن الحركات الإسلامية قد قطعت شوطا جيدا في الفصل بين مجالات عمل الأحزاب السياسية، والحركات الدعوية، فإن هذا الأمر لم يتحول بعد إلى ثقافة فردية لدى أبناء هذه الحركات، فما زالت أغلب القيادات تعتبر هذه الحركات حاضنا مركزيا للحزب، وبقية المؤسسات المدنية -التابعة لها- تدور في فلكها، والأصل أن وحدة الفكرة لا تمنع أن تتوزع في مؤسسات منفصلة لكنها مستقلة بالكامل عن بعضها البعض.

والقضية الرابعة: هي ما يتعلق بفهمنا للمرجعية الإسلامية للأحزاب: فالأحزاب من الناحية السياسية والقانونية مرجعيتها القانون والدستور وكل أعمالها وممارساتها محكومة بهما وإليهما تتحاكم، وبهما يقضي القاضي حين يقضي في أي أمر يعرض عليه. فإضافة وصف المرجعية الإسلامية إلى الأحزاب التي توصف بأنها إسلامية هي إضافة عاطفية ولا قيمة لها أمام القانون والقضاء.

إن حضور أبعاد فلسفية، بغض النظر عن مصدرها، في خطاب أي حزب وبرامجه، وثقافته المؤسسية، ودعوة المنتمين له إلى الالتزام بمقتضيات هذه الفلسفة، وتكوينهم عليها أمور معروفة، ويسمح بها القانون، وهذا يمكن أن يكون المبرر الوحيد لوضع المرجعية الإسلامية في نظم الأحزاب السياسية، مع ضرورة التنبيه إلى أن هذه المرجعية لا تعني تعاليا على القوانين المحلية، أو الدساتير.

هذا عن القضايا الفكرية، وأما القضايا التي تتعلق بالأساليب العملية والشأن الإصلاحي، فأرى من أبرزها وأكثرها إلحاحا:

أولا: فصل الإيديولوجيا من الممارسة السياسية؛ ذلك أن الإيديولوجيا مبنية على القيم المطلقة، والسياسية مبنية على المصلحة، والخلط بينهما سيوقع صاحبه في مشاكل كبيرة. ونعني بفصل الإيديولوجيا عن السياسة أن نتعاطى مع الفرقاء السياسيين منطلقين من المنطق السياسي وعلى أساس المصلحة، وليس بناء على رؤيتنا الفكرية التي لا تلزم غيرنا. أي أننا ينبغي أن لا نكون عائقا أمام الآخرين في تحقيق مصالحهم -على أساس أنها غير مشروعة- ما لم يكن فيها جور أو اعتداء أو ظلم. نحمل قيم الإسلام، ندعوا إليها ولا نلزم بها غيرنا ولا يتسرب إلينا عكسها.

لا شك أن القيم والمبادئ التي جاء بها الإسلام ثابتة، ولكن في مجال التطبيق ومع مواجهة الظروف يتعامل الإسلام مع الواقع، ليقدم الحلول العملية تبعا للمصلحة السياسية في إطار القواعد الفقيهة المشهورة مثل: “الضرورات تبيح المحضورات، وأنه يجوز في وقت الضيق والاضطرارا ما لا يجوز في وقت السَّعة والاختيار، وارتكاب أخفَّ الضررين وأهون الشرين، واحتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وقبول الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما”[3].

وثانيا: الأساليب التنظيمية والتربوية التي عزلت الإسلاميين عن المجتمع، وجعلتهم يعيشون في خيالات وأحلام بعيدة عن الواقع ومعيقة للتأثير وصنع التغيير.

وأرى هنا أنه بدلا من أخذ الناس وجعلهم في محاضن خاصة منعزلة عن المجتمع، ينبغي أن نترك الناس في المجتمع كما هم، وأن نسعى للنهوض بالمجتمع ككل، ونزرع في أفراده القيم دون أن نعزلهم عنه أو نجعلهم يرتبطون بنا برابط تنظيمي، وذلك من خلال الخطاب العام ووسائل التربية الموجهة للمجتمع، وهذا مسار بطيء ويستغرق أجيالا وأجيالا ولكنه الأضمن والأجدى وهو المطلوب شرعا “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.

[su_divider top=”no” divider_color=”#1b77b6″ size=”1″]

[1] ) أحمد العريبي، المبادئ والمصالح أساس العلاقات السياسية، موقع جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية.

[2] ) الدكتور محمد المختار الشنقيطي، الفقه الإمبراطوري والدولة العقارية المعاصرة، مجلة التشريع الإسلامي والأخلاقي.

[3] ) أحمد العريبي، المصدر السابق.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا