حفنة من تراب القبر - عين ليبيا

من إعداد: ابراهيم عثمونه

أن تدفن يا صاحبي مدرسك تحت الأرض وتمشي وتتركه للدود وللتراب ، هو عمل فيه الكثير من القسوة ، وحتى الكثير من نكران الجميل.

ولكن كيف ولا أحد سيخلد فيها.

حتى ساعة وقف الإمام ليصلي بنا عليه ويعيد علينا كلماته الشهيرة (هذا ما وعد الرحمن وأنجز وعده ، تفنى الخلائق ويبقى الملك لله وحده) كدت أخرج من بين الصفوف وأقول له إن المدرس يا سيادة الإمام ليس كبقية الخلائق .

لكنني خشيتُ يومها أن أتهم بالكفر فسكتتُ وتقبلتُ فكرة أن المدرسيين كبقية الخلائق ، وأنهم يموتون ويدفنون ويأكلهم التراب كما كل البشر ، وإن كان من استثناء لهم لن يكون في وجودهم المادي بيننا بل في وجود من نوع آخر.

وصليتُ مع المصليين تحت ظل شجرتنا الكبيرة التي تقف داخل سور المقبرة ، وشاهدتُ ذويه يحملونه على الأكتاف.

وشاهدتهم يعيدون عليه تراب القبر ويثبتون فوقه حجران .

وكم تمنتُ قبلها لو ميَّزت قريتي قبور مدرسيها كما تفعل وتميز قبر الذكر من الأنثى ، ويعرف لو دخل غريب مقبرتها أن هذا قبر لذكر وهذا أنثى وذلك مدرس .

لكنها لم تميز شيئاً.

بل خرجنا وتركنا قبر الأستاذ “علي” عادياً كما كل القبور، ووقفتُ يا صاحبي عند باب المقبرة ، وأدرتُ لفتة قصيرة له ولمدرسيين آخرين سبقوه في المكان ، وشعرتٌ بحجم نكران الجميل الذي نمارسه في حقهم ، ولكن ما الحيلة أمام موت يستوي عنده الجميع بما فيهم المدرسين.

مؤخراً وبطلب من منظمي التأبين للمرحوم أن أكتب شيئاً عنه ، ذهبتُ لزيارته وأخذ حفنة من تراب قبره لعلها تلهمني سطراً أو سطرين ، وهناك وقفتُ على مقربة منه.

مازال ترابه جديداً ، ومازال فوقه حجران عاديان مثله مثل أي موظف في شركة ، ومازال كل المدرسين فوقهم حجران عاديان ، حين اقتربتُ أكثر وجلستُ وامتدت يدي له ، وكم كانت فرحتي كبيرة ساعة وجدتُ جذور تلك الشجرة الكبيرة وقد تخطتْ قبوراً كثيرة لتصل إليه.

قلتُ في نفسي لابد ان هناك مَن أسَّر لها من تحت الأرض بنبأ يفيد أن في قبور المدرسين ما يطيل عمر الأشجار ، وإلا ما كان لجذورها أن تتلوى وتختار من بين قبور الناس قبر مدرس.

بقيتُ في مكاني أتأمل قدرة الشجرة على معرفة وفرز رفات المدرسين عن غيرهم.

ثم بلطف أعدتُ حفنة التراب إلى مكانها ووقفت وتراجعتُ خطوتين ، وشعرتُ وأنا أجيل طرفي في محيط مقبرتنا أن في هذه الأشجار الحية القريبة منها حياة مختلفة عن حياة الأشجار ، وأن المدرسين حتى وإن ماتوا هم أغصان حية ترزق بيننا ، وأن ذلك الغصن العالي من شجرتنا لابد أنه غصن الأستاذ علي ، والغصن الآخر لمدرس آخر ، وأن كل هذا العرش بمجمله وبأوراقه الخضراء هو عرش مكون من مجموعة مدرسين ينامون اليوم هنا . فطوبى لكل أم أنجبت مدرساً وطوبى لكل أم زرعت غصناً.



جميع الحقوق محفوظة © 2025 عين ليبيا