حول مقاطعة جلسات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور - عين ليبيا

من إعداد: د. البدري الشريف

يدور بعض الجدل حول مقاطعة بعض اعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، لإعمال الهيئة التأسيسية ويخلط البعض بين الغياب عن حضور الجلسات وبين المقاطعة المسببة.  فمقاطعة اعمال وجلسات الهيئات السياسية سواء النيابية منها او الدستورية للتعبير عن موقف ولتعطيل النصاب هو من الأعراف الديمقراطية المتبعة للتعبير عن الرأي. وتكاد لا تخلوا مؤسسة سياسية من هذه المؤسسات وخاصة في الدول التي تشهد صراعات سياسية وتمر بمراحل انتقالية من هذه الظاهرة.

لقد شهد المجلس التأسيسي التونسي العديد من اعمال المقاطعة من قبل الأعضاء والكتل السياسية الموجودة فيه وعندما بلغت الأزمة السياسية دروتها فقد تم تعليق نشاط المجلس المكلف بكتابة الدستور لعدة أشهر ولم يستثنى من ذلك اللجان المختصة بصياغة الدستور. وبعد تدخل 4 منظمات تونسية على رأسها الاتحاد التونسي للشغل في عملية الوساطة ثم التوصل الى تفاهمات ادت الى عودة المجلس التأسيسي لعمله وثم انجاز الدستور التونسي. كذلك الحال في جنوب افريقيا فقد قاطع حزب انكاتا في عديد المرات جلسات النقاشات الدستورية احتجاجا على بعض المواقف من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. وهذا العرف لا تختص به منطقة عن اخرى ولكنه أكثر حضورا في الدول التي تشهد تحولا نحو الديمقراطية سواء في اوروبا الشرقية او آسيا او افريقيا وينسحب ذلك على المجالس النيابية والهيئات الدستورية.

ففي ديسمبر 2014 قاطع الحزب الديمقراطي في البانيا جلسات البرلمان و التي استمرت الى حوالى 6 اشهر ولم يعودوا الا بعد الوساطات التى قام بها البرلمان الأوربى  و مشاركة اعضاء من البرلمان التشيكى و البرلمان الألمانى فى عملية الوساطة .  و قد تضمن الإتفاق على الا تتجاوز الأغلبية الأقلية فى اتخاذ القرارات وأن التشريعات المهمة  يجب الا تمرر فقط بالأغلبية البسيطة بل يجب ان يكون للمعارضة دور فيها.  و قضى الإتفاق على أن  الطرفين الأغلبية و الأقلية يعملان سويا  للوصول الى توافقات فى المسائل المهمة و يشتركان فى  مراجعة اللوائح الخاصة برفع كفاءة لجان البرلمان وفقا لأحسن المعايير الدولية فى هذا الشأن .

و فى العراق فإن القائمة العراقية  التى يتزعمها الرئيس العراقى السابق اياد علاوى قد قاطعت جلسات البرلمان و لم تعد الا فى نوفنبر 2014 اثر التوصل الى اتفاق بين الكتل السياسية و من ضمنها الغاء القرارات المتعلقة باحتتاث عدد من قيادى القائمة العراقية . و قد عبر عضو القائمة العراقية عدنان الجنابى بقوله ” ان الإنسحاب من جلسات البرلمان هو نوع من الممارسة الديمقراطية المشروعة و قد مورست فى كل البرلمانات السابقة و لا يحق لإحد حرمان الآخرين من هذا الإسلوب الديمقراطى”.

و فى مقدونيا سنة 2013 حصل خلاف بين الحكومة و التى تتمتع بالإغلبية فى البرلمان و المعارضة بخصوص الميزانية مما دفع حزب مقدونيا الإشتراكى الى مقاطعة جلسات البرلمان  لمدة شهرين و لم يعد الا بعد توسط رئيس المفوضية الأوربية و المقرر الخاص بمقدونيا فى الإتحاد الأوربى.

اما فى الهند و هى التى تعد من اعرق الديمقراطيات فى العالم الثالت فلعل اقرب نمودج للمقاطعة كان مقاطعة حزب المؤتمر اثناء انعقاد جلسات البرلمان الهندى فى دورته التى بدأت فى صيف 2015 و ذلك مطالبة باستقالة وزيرة الخارجية الهندية لتوسطها فى الحصول على التأشيرة الإنجليزية لمؤسس فريق الرقبى الهندى و المتهم فى قضية تلاعب فى نتائج احدى المباريات . و لم تحل القضية الا بعد تفاهمات بين الأغلبية الخاكمة و حزب المؤتمر عاد بعدها حزب المؤتمر الى حضور الجلسات.

اما فى تنزانيا فقد قاطعت المعارضة اجتماعات الهيئة التأسيسية للدستور  و المنعقدة فى اغسطي 2014 و ذلك احتجاجا على انحراف المسودة المقترحة كما يرون عن الأهداف التى يريدها الشعب و قد جرت وساطات عدة شارك فيها رجال الدين و بعض الشخصيات القانونية المرموقة فى نيروبى. و على الرغم من تمتع الحكومة بغالبية الثلثين  و اعلانها تحديد موعد  الإستفتاء على الدستور فى اكتوبر 2015, الا ان ذلك لم يتم و اضطرت الحكومة الى تأجيل عملية الإستفتاء .

الأمثلة كثيرة جدا و لا تحصى سواء فى البلاد العربية من الكويت الى مصر الى الجزائر الى المغرب و فى كثير من دول العالم حيث شملت هذه المقاطعات المؤسسات السياسية سواء البرلمانية منها منها او تلك المعنية باصدار الدستور.

لعل المقاربة الأكثر لوضعنا بالنسبة للهيئة التأسيسية  لصياغة مشروع الدستور  هى تجربة نيبال حيث هناك تشابه بين الإعلان الدستورى لدينا و الدستور المؤقت فى نيبال كما ان هناك تشابه نوعا فى آلية اتخاذ القرار . فقد نص الدستور المؤقت فى نيبال فى الباب السابع

المادة (63)

تشكل هيئة لصياغة دستور جديد مصدره الشعب النيبالى.

تجرى انتخابات الهيئة الدستورية  فى الموعد الذى تحدده الحكومة عند  تطبيق هذا الدستور المؤقت .

انتخاب اعضاء هيئة الدستور يكون بالإنتخاب السرى الحر حسب القانون .

المادة (64)

ما لم تحل الهيئة بقرار منها فإن مدتها سنتين اعتبارا من اول اجتماع لها . و يمكن تمديد المدة فترة 6 اشهر بقرار من هيئة الدستور فى حالة عدم استكمال صياغة الدستور فى الموعد بسبب اعلان حالة الطوارئ .

كما نص الدستور المؤقن بنيبال فى المادة (70):

تؤخد قرارات هيئة الدستور بخصوص الديباجة و المواد الدستورية بالتصويت .

لإجراء عملية التصويت فيجب ان يكون حاضرا الجلسة على الأقل ثلثى اعضاء هيئة الدستور  و يجب اقرار المشروع المعروض بالإجماع .

اذا لم يتحقق الإجماع فى الفقرة (2) بخصوص الديباجة او مواد الدستور فإن ممثلى الأحزاب فى هيئة الدستور يجب ان يعقدوا اجتماعات تشاورية من اجل الوصول الى توافقات فى تلك المسائل .

المشاورات المتعلقة بالفقرة (3) يجب ان تتم خلال مدة اقصاها 15 يوما من تاريخ اجراء التصويت و عدم الحصول على الإجماع .

اذا ما تمت الإجتماعات التشاورية وفقا للفقرة (4) يجرى تصويت جديد سواء على الديباجة او المواد الدستورية و ذلك خلال 7 ايام من انتهاء المشاورات .

اذا لم يتم التوصل الى قرار بالإجماع كما هو موضح فى الفقرة (2) حتى بعد اجراء المشاورات وفقا للفقرة (5) فيجب اعادة التصويت مرة اخرى فإذا كان الحضور بالجلسة بحد ادنى ثلثى اعضاء الهيئة الدستورية و ان المشروع قد تحصل على الأقل ثلثى الأصوات من اعضاء الهيئة التأسيسية  فيعتمد التصويت و يقر المشروع .

لقد شهدت اعمال هيئة الدستور النيبالية العديد من المشاكل المعقدة نتيجة الصراع السياسي المحتدم بين الماويين الذين كانوا يمثلون الأغلبية و لكن لم يصلوا للثلثين اللازم لإقرار الدستور على الأقل و بين الإحزاب الأخرى المعارضة و قد ادت هذه الخلافات الى تجاوز المدة المحددة فى الدستور المؤقت و مددت الهيئة لنفسها عدة مرات كل مرة 6 اشهر . و فى 25 نوفنبر 2011 حكمت المحكمة الدستورية بتحديد تاريخ   27 مايو 2012 كموعد نهائى لإعلان الدستور او اجراء انتخابات جديدة للهيئة الدستورية . لم تستطع هيئة الدستور الوصول الى توافقات حول بعض القضايا و كان الخلاف بشكل رئيسى حول 4 قضايا هى النظام القضائى و الفيدرالية و شكل الدولة و موضوع انتخاب الرئيس !! و بذلك فى الموعد المحدد و هو 27 مايو 2012 حلت هيئة الدستور بعد مضى اربع سنوات على عملها ! .

اجريت انتخابات جديدة للهيئة الدستورية فى 19 نوفنبر و تخلل اعمال الهيئة التأسيسية الجديدة العديد من الصراعات و المقاطعات لإعمالها من قبل المعارضة حتى تمكنوا اخيرا من الوصول الى توافقات بعد محاورات عديدة و توسطات و ثم اعلان الدستور الجديد  لنيبال فى 20 سبتمبر 2015 .

ما نخلص اليه ان هناك الكثير من المشتركات بين الهيئة التأسيسية فى ليبيا و الهيئة التأسيسية فى نيبال فكلاهما جاءتا عن طريق الإنتخاب السرى الحر و كلاهما حدد لهما الدستور المؤقت و الإعلان الدستورى فى ليبيا آلية التصويت على المسائل الدستورية  و المدة الزمنية و كلاهما تجاوزا المدة الأساسية المتوقعة لإنجاز الدستور . اعتقد ان هذه المقارنة و المقاربة تعطينا تجربة مفيدة حول تعقيدات العملية الدستورية فى دول تشهد صراعات حادة و تخوض تجربة التحول نحو الديمقراطية .

و كما اشرت الى اهمية الوساطات التى تدخلت فى كثير من الأزمات و على الخصوص التجربة التونسية و دور مؤسسات المجتمع المدنى ممثلة فى الإتحاد التونسى للشغل و الإتحاد التونسى للصناعة و التجارة و الهيئة الوطنية للمحامين و الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان و التى رعت الحوار السياسي الوطنى بين مختلف الأطراف السياسية  فقد ساعدت  هذه الوساطات فى الوصول  الى توافقات جنبت تونس الدخول فى اتون الحرب الأهلية .

لقد اكد الأعضاء المقاطعون لإعمال الهيئة التأسيسية استعدادهم لحل المسائل الخلافية بمشاركة النخب الوطنية الليبية بغية الوصول الى توافق و اتفاق حولها . وقد اكدوا فى بياناتهم بأن الشأن الدستورى هو شأن ليبى صرف وأن الإختلافات الموجودة فى الرؤى الدستورية لدولة ليبيا يجب حلها عن طريق مشاركة النخب الوطنية من خبراء و اعيان و مؤسسات علمية و بحثية . الأعضاء المقاطعون ليس كما يحاول البعض تصويرهم بأنهم  لا يريدون انجاز الدستور و انهم متغيبون , فهم فى واقع الحال يمثلون الشريحة الفاعلة فى الهيئة و التى لها اسهاماتها الكبيرة فى انجاز المقترحات الدستورية و التى اغلبها تتضمنها هذه المسودة .

للأسف الطريق المتبع الآن من قبل رئاسة الهيئة و بعض اعضائها و محاولاتهم المستميتة لتمرير مسودة معيبة, لن يؤدى الى  انجاز العملية الدستورية و لا يمكن بأى حال من الأحوال اقصاء كل  كل هذا العدد من الأعضاء المقاطعين و الذين حقيقة يمثلون اكثر من 50% من السكان .

ان القول بأن مسودة لجنة العمل المطروحة الآن , هى توافقية قول بعيد جدا عن الواقع  و تكرار ذلك القول لن يغير من هذه الحقيقة شيئا.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا