حينما يكون الحاكم غبياً - عين ليبيا

من إعداد: عبدالرزاق العرادي

لمحاولة فهم منطق السياسة الأمريكية في التعاطي مع الأزمة الناشئة عن قطع دول خليجية علاقاتها مع قطر، لا بد من العودة إلى طبيعة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة، التي يعتبر الثابت الوحيد فيها، هو محاولة استجلاب أكبر قدر من المال من هذه المنطقة الغنية، وعدم ترك نموذج تنموي محلي ينمو فيها بشكل مستقل، وكذلك منع توجيه المال الخليجي إلى دعم مجالات قد تشكل تحديا للسياسة الأمريكية. هذا طبعا دون إغفال سعي ترامب ليكون رئيسا خارج التوقع، يستطيع إرباك كل المحللين، ولا يمكن توقع خطوته الموالية.

غموض الإطفائي

الوضوح والغموض في السياسية الأمريكية معتبر طبقاً لما تستدعيه مقتضيات الخطط الآنية المرتبطة بالإنتخابات واستطلاعات الرأي، وكذلك الخطط طويلة المدى المرتبطة بسياسات أمريكا المستقرة.

على سبيل المثال السفيرة الأمريكية في بغداد أبريل غلاسبي، قالت لصدام في سنة 1990: “ليس لدينا أي رأي حول الصراعات العربية العربية مثل نزاعك مع الكويت”، “وجهني الوزير جيمس بيكر إلى التأكيد على التعليمات التي أعطيت لأول مرة للعراق في الستينيات.. من القرن الماضي بأن قضية الكويت ليست مرتبطة بأمريكا”. هذا تقريبا هو النص المنشور لحديث السفيرة ألأمريكية في بغداد، في حديثها إلى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.

وعندما سئلت لاحقا عن سبب فهم صدام حسين بأن هذا اعتبر ضوءً أخضر لغزو الكويت قالت:”يبدو أننا لم ندرك أن صدام كان غبيا”. قد يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استنسخ النص الأول حين قابل حكام السعودية والإمارات، في القمة الإسلامية في الرياض قبل شهر، وكان سيكون سعيدا لو أتيحت له الفرصة لاستنساخ النص الثاني في مناسبة لاحقة.

بغض النظر عن دقة دلالة ما قاله ترامب لحكام السعودية والإمارات، وما أشار إليه في تغريداته اللاحقة على أزمة حصار قطر من قبل الدول الثلاث، وألمح إليه في أحد الخطابات فإن هذا هو منطق السياسة الأمريكية بالنسبة لدول الخليج؛ الغموض أثناء صناعة الأزمة، والوضوح، بل والوقاحة عند ارتداء ثوب المنقذ من الأزمة التي تشابكت خيوطها بفعل التغاضي، أو الغموض المفتعل.

لو استيقظ العالم صبيحة الخامس من يونيو 2017 على قوات برية سعودية في الدوحة، لارتدى ترامب قناع المبدئية الأخلاقية، وظهر منافحا عن سيادة دولة حليف للولايات المتحدة، عضو بالأمم المتحدة، ليس لأن يقظة الضمير شيء كامن فيه، أو لأنه كان غافلا، أو غير مدرك لما سيؤدي إليه غموضه السابق، ولكن لأن الغموض قد أدى الدور المطلوب في إشعال الحريق، ولم يبق أمام مصاص البترول غير ارتداء بدلة رجل الإطفائي.

جاءت مرحلة الغموض بمآت المليارات من السعودية والإمارات، وكانت مرحلة الإطفائي ستأتي بمآت أخرى من دول ربما تكون من بينها قطر والكويت.

ترامب كان صريحا خلال حملته الانتخابية في أنه لن يساعد العراق إلا إذا تقاسم معه عائدات النفط وقال الأمر ذاته على ليبيا. كما كان صريحا منذ مدة طويلة بأنه لو حكم أمريكا لجاء بنفط الخليج.

تركيا ثم قطر.. لا.. قطر ثم تركيا

يكاد يجمع المراقبون للأحداث في المنطقة على أن الخطوة الموالية بعد نجاح انقلاب تركيا، لو نجح، كانت البدء في إجراءات إنهاء وجود قطر. ذلك أن هاتين الدولتين، هما ما بقي من أمل في دعم حركات الشعوب، وطموحها نحو التحرر، وكانا حصن الربيع العربي الذي أوى إليه حين تصاعدت موجة الثورة المضادة.

لقد عدلت غرفة العمليات هذه المرة خطتها، وعكست الترتيب، فبعد هزيمتها في أنقرة، وعودة نظام الرئيس رجب طيب أردوغان بأقوى مما كان، وبخطاب أكثر وضوحا وصراحة تجاه ملفات المنطقة، وتفويض شعبي في الداخل، تبين أن غرفة العمليات لن تنال مرادها بالاستهداف المباشر لتركيا، لكنها ظنت أن بإمكانها أن تخنقها عن بُعدٍ قبل توجيه الضربة القاضية.

وكانت غرفة العمليات تعول على أن حجم التبادل التجاري بين #دول_القطيعة وتركيا سيجعل الأخيرة تفكر بمنطق المصلحة الاقتصادية المباشرة، وتنسى الخطر الاستراتيجي الكامن في الاستفراد بها، وفقدانها ثقل الدوحة المالي، والإعلامي والعلاقاتي.

يصل حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول الخليح، حسب أرقام 2016، إلى حوالي 17 مليار دولار بينها 9 مليارات مع الإمارات وحدها. وربما عولت غرفة العمليات على أن تركيا لن تنشط في الدفاع عن حليفها الاستراتيجي لصالح زبائنها التجاريين، أو أن ضغوط الزبناء ستحد من اندفاع تركيا في الانخراط في الأزمة الخليجية وفق رؤيته الاستراتيجية للمنطقة.

إن هذا التصور يتناسى شيئا آخر في طبيعة السياسة الأمريكية في المنطقة ورؤيتها للدور التركي، فالسياسة الأمريكية رغم قيامها على نزعة رافضة لدور تركي ريادي، إلا أنها لا تستطيع تجاهل الدور التركي بالمطلق، وبالتالي فإن الموقف التركي سيظل مؤثرا لدى صناع القرار في واشنطن، نظرا لإدراك العقل الاستراتيجي الأمريكي خطورة نشوب أزمة واسعة تكون تركيا طرفا فيها.

نسبية الانفراد بالعالم

لقد أخطأت غرفة العمليات للمرة الثانية في فهم بعض الأبجديات في السياسة الأمريكية، أو ظنت أن مكانة أركانها لدى أمريكا، وشفعاءهم الإسرائيليين يمكن أن تغطي على أي حسابات أمريكية أخرى، كما ظنت أن أمريكا يمكن أن تنفرد بقرار حرب كبيرة في العالم لوحدها، وهو ما يبدو أنه صعب. فمنطقة الخليج ليست ليبيا، ولا مصر، ولا سوريا، وأي صراع فيها سيرفع أسعار الطاقة في العالم بشكل جنوني، ويخل بالتوازن الاقتصادي العالمي.

إن انفراد الولايات المتحدة بالعالم صحيح، لكنه انفراد نسبي خصوصا إذا اصطدم بثوابت الاقتصاد العالمي، كما أنه انفراد لأمريكا، وليس انفرادا لرئيس أمريكا، إن دونالد ترامب ليس ملكا أمريكيا، وإنما رئيس تزاحمه في السلطة مؤسسات دستورية راسخة، واثقة من نفسها، وتطارده ملفات وتحقيقات في كل زاوية من البيت الأبيض.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا