ديناميكيات الصراع في إفريقيا.. ديناميات إفريقية متغيرة واستراتيجيات دولية متعثرة - عين ليبيا

من إعداد: فاضل بن عاشور

شهدت قارة أفريقيا خلال السنوات القليلة الماضية تقلبات وتغيرات جيوسياسية وأمنية حادة غير مسبوقة في التاريخ السياسي الحديث للقارة، شملت عدة بلدان، وبقدر ما شكلت النتائج الجيوسياسية التي تمخضت عن تلك الديناميكيات انتكاسة وتحديا لاستراتيجيات بعض الدول الكبرى في المنطقة، فقد شكلت من جانب آخر نجاحا لبعضها الآخر.

سلسلة متتالية من حركات التمرد والانتفاضات الشعبية والانقلابات العسكرية على سلطات الدولة وعلى مؤسسات الحكم الانتقالية في دول تجمع بعضها عوامل وظروف جيوسياسية واجتماعية تكاد تكون متشابهة أو متقاربة، تمر معظمها بمراحل انتقالية في إطار التحول الديمقراطي، وتُعاني من انهيار مؤسسات الدولة أو ضعف وهشاشة تلك الهيكليات في ظل متلازمة هشاشة المجتمع والدولة أو ما يُسمى بالدول الفاشلة، وانتشار الجماعات المسلحة والمرتزقة، وتعدد مراكز القوة، واتساع نفوذ أمراء الحرب، وعدم الاستقرار السياسي والصراع القبلي والعرقي، وتعاظم النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي الأجنبي، والتدخل الخارجي بجميع أشكاله وصوره.

وقد تباينت في معظمها ردود الفعل الحكومية في مواجهة حركات التمرد والانتفاضات الشعبية، وذلك بناء على عوامل عديدة، من بينها القدرات العسكرية واللوجستية لكلا الطرفين الحكومة والجماعات المسلحة ومدى فعالية المساعدة الخارجية لكلا الجانبين، ومدى اتساع الحاضنة الشعبية لكلا الطرفين، وكذلك مدى فعالية الحراك الشعبي ومكونات المجتمع المدني في مواجهة حركات التمرد على الأجسام الشرعية، كما تباينت كذلك ردود الفعل الخارجية الإقليمية والدولية، بينما تشابهت في معظمها التدابير الاستثنائية التي اتخذتها قوى التغيير ضد الحكومات والمؤسسات الانتقالية.

تتداخل وتتشابك الروابط الثقافية والعرقية والقبلية والمصالح الاقتصادية والأمنية بين الجماعات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة عبر المناطق الحدودية المشتركة التي عادة ما تتخذ منها الجماعات المسلحة مراكز للتعبئة وإعادة التنظيم والانتشار، مثل منطقة المثلث الحدودي بين تشاد وبركينافاسو والنيجر التي تتخذ منها الجماعات المسلحة المتطرفة قاعدة استراتيجية لإدارة عملياتها العسكرية في منطقة الساحل والصحراء، وكذلك المناطق الحدودية بين ليبيا وكل من السودان وتشاد والنيجر.

ديناميكيات الصراع الدولي

تقاسمت الدول الكبرى (فرنسا والولايات المتحدة وروسيا) مناطق النفوذ في أفريقيا جيوسياسيا واقتصاديا وثقافيا، وقد اشتد التنافس بينها خاصة بين فرنسا، التي تعد الدولة الاستعمارية الرئيسية في القارة الإفريقية وتسعى جاهدة من أجل الحفاظ على مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية والاستراتيجية التي ورثتها عن الحقبة الاستعمارية وما بعدها، وبين كل من روسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، كما تتنافس الدول المذكورة، وتتصارع أحيانا، في مواجهة قوى دولية وإقليمية أخرى، كما تتقاطع معها المصالح، مثل الصين وتركيا وإسرائيل وإيران والإمارات وقطر، التي تسعى بدورها من أجل إيجاد موطئ قدم لها أو من أجل توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والتجاري والاستثماري والأمني في العديد من الدول الإفريقية، وكمثال على التحديات المستقبلية التي تواجهها تلك الدول في أفريقيا يأتي المشروع الصيني (الحزام والطريق) أو (طريق الحرير الجديد) الذي يستهدف ربط الصين اقتصاديا بأوروبا وأفريقيا وآسيا بواسطة شبكة من ممرات النقل البرية والبحرية.

الاستراتيجية الفرنسية

قامت الاستراتيجية الأمنية الفرنسية على (الالتزام بأمن منطقة غرب أفريقيا ومنطقة الساحل ومكافحة الإرهاب وتعزيز القدرات العسكرية للقوات المسلحة لدول الساحل الخمسة واستعادة الأمن والاستقرار وسيادة القانون).

في هذا السياق يمكن القول إن الاستراتيجية الفرنسية في أفريقيا تواجه انتكاسة غير مسبوقة في مناطق نفوذها الإفريقية تمثلت في فشل استراتيجيتها الأمنية في منطقة غرب أفريقيا والساحل والصحراء في مواجهة تمدد الجماعات المسلحة وتعاظم نفوذها الجيوسياسي والأمني وتوسع نشاطها الإرهابي و خاصة نجاح حركات التمرد في تشاد في قتل الرئيس إدريس دبي ونجاج الانقلاب العسكري في جمهورية مالي التي ترتب عليها تجميد قوة برخان وسحب القوات الفرنسية من مالي وغرب أفريقيا.

الاستراتيجية الامريكية

من خلال ردود الفعل الأمريكية وتصريحات كبار المسؤولين في إدارة الرئيس بايدن حول تطورات مجريات الصراع على السلطة والموارد في أفريقيا لاسيما في تشاد ومالي وتونس وليبيا والسودان، يبدو التردد واضحا، ويمكن ملاحظة غياب الاستراتيجية المتماسكة في التعاطي مع قضايا الأمن في المنطقة، ويمكن القول إن الخطوط الرئيسية التي تحكم توجهات السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الديمقراطي بايدن تتركز في:

(1) الحفاظ على الوجود والنفوذ الأمريكي في المنطقة بأقل تكلفة ممكنة.

(2) تجنب خوض مواجهات مع قوى أخرى.

(3) إدارة الصراعات المحلية.

الخلاصة

(1) فشل التجارب الانتقالية في تحقيق الغايات المنشودة والمقررة (الانتقال السلمي نحو الديمقراطية) طبقا لمواعيد محددة من خلال الوثائق الدستورية وخطط الطريق وقرارات مجلس الأمن، وذلك لعدة عوامل من بينها عدم الالتزام في التنفيذ من جانب الهيئات الانتقالية، وعدم التوافق بين القوى السياسية والمكونات الاجتماعية.

(2) فشل التجربة المتمثلة في إشراك العسكريين في إدارة شؤون الدولة (صيغة تقاسم السلطة مع المدنيين) أو السماح بوجود الجماعات المسلحة في إطار المرحلة الانتقالية، وذلك لعدم توفر الإرادة السياسية للتخلي عن السلاح خارج سلطة المؤسسة العسكرية للدولة، وعدم الثقة وعدم الانسجام بين المكونين المدني والعسكري، إلى جانب عدم توازن القوة بين الطرفين.

(3) إخفاق المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة في اتخاذ الإجراءات الرادعة ضد الانقلابات العسكرية على الشرعية الدستورية، والاكتفاء بممارسة الضغوط الدبلوماسية والوسائل الناعمة، مع اختلاف المقاربات بين الدول الكبرى وتباين مصالحها وأولوياتها الجيوسياسية والاستراتيجية في القارة.

(4) تكاثر الجماعات المسلحة باختلاف توجهاتها وانتماءاتها الإيديولوجية والعرقية والاجتماعية خاصة الراديكالية يتم بمعدلات مرتفعة ويتعاظم نفوذها وتمددها في مناطق شاسعة، من أفريقيا الشمالية والساحل والصحراء إلى أفريقيا الجنوبية، ومن منطقة غرب أفريقيا إلى منطقة القرن الإفريقي، ويتم ذلك على حساب دور الدولة ووظائفها طبقا لمفهوم الدولة في القانون الدولي، التي تآكلت في كثير من الحالات ليحل محلها مفهوم الدولة الفاشلة والدولة الهشة وناقصة السيادة.

(5) فتح الباب مجددا أمام عودة نموذج الحكم العسكري المطلق بديلا عن الحكم المدني في القارة، وذلك رغم  القبول الدولي والتماهي الأمريكي الأوروبي مع نموذج تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين كحل نموذجي يمكن تعميمه واستنساخه في حالات مشابهة في القارة الإفريقية.

(6) إمكانية القبول الدولي (الأوروبي الأمريكي) بسياسة الأمر الواقع، بأن تلعب قيادات المليشيات والجماعات المسلحة “التي تتمتع بثقل عسكري وسياسي على الأرض”، دورا سياسيا في المراحل الانتقالية، وذلك من خلال إما تقديم الدعم السياسي المباشر والعسكري غير المباشر لها أو عن طريق توفير الاعتراف الدولي بها كطرف في المعادلة السياسية.

(7) النموذج السوداني والنموذج الليبي يقدمان مؤشرا على إمكانية الاعتراف والقبول الدولي بالتعاطي مع حالات الأمر الواقع، فقد تم التعاطي الدولي مع “القائد الميليشياوي” قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دنقلو (حميدتي)، والقبول بإشراكه في عملية اقتسام السلطة رغم تزعمه لحركة جنجاويد وتورطه في إرسال عناصر من الجماعة المسلحة التابعة له كمرتزقة للاشتراك في القتال في اليمن وفي ليبيا، وجرائم الحرب التي ارتكبتها قواته وانتهاكاتها لحقوق الإنسان في دارفور، وكذلك الحال بالنسبة لليبيا حيث القبول والاعتراف الأمريكي الأوروبي بدور للجيش في المعادلة السياسية.

(8) دخول مرتزقة شركة فاغنر الروسية على خط الصراعات في ليبيا وجمهورية مالي يُشكل حلقة ضمن حلقات التمدد الروسي في قارة أفريقيا، كل المؤشرات والمعطيات تُفيد بأن الإرادة السياسية لدى الكرملين ماضية قدما في استراتيجية التمدد بواسطة الذراع الأمني لمجموعة فاغنر في الفراغات الجيوسياسية لاسيما في الدول الهشة والدول الفاشلة التي تعاني من  الصراعات والحروب الأهلية والفوضى الأمنية.

(9) تطورات الأحداث خاصة في مالي وتشاد والسودان وتونس، تعطي الحافز والدافع، لمواصلة التمرد والانقلاب على الأجسام الانتقالية والشرعية، واستنساخ التجارب الناجحة في سلسلة الانقلابات المذكورة والاستفادة من الأخطاء والتحديات التي واجهتها.

(10) تواجه مصالح وأطماع فرنسا في أفريقيا، صعوبات كبيرة وتحديات خطيرة، خاصة في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وتعد فرنسا الخاسر الأكبر بعد الشعوب الإفريقية، مما يجري في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، ويتم داخليا في الأوساط السياسية والحزبية والرأي العام الفرنسي التشكيك في أساسيات العلاقة بين فرنسا والقارة الإفريقية والمطالبة بإعادة صياغة تلك العلاقة.

(11) في ظل الظروف الراهنة يصعب التكهن بإمكانية انسحاب الجماعات المسلحة الأجنبية (المرتزقة) من الدول المعنية سواء جماعات المعارضة السودانية أو جماعات المعارضة التشادية أو مرتزقة فاغنر، خاصة إذا كان الانسحاب إلى بلدانهم الأصلية، وتظل مسألة استقبالهم من دولة ثالثة مشروطة، فيما يتعلق بالأسلحة الثقيلة التي تمتلكها هذه الجماعات، وقد بدأ ذلك واضحا من خلال تصريح وزير خارجية النيجر بعدم السماح لهذه الجماعات باصطحاب الأسلحة (نزع أسلحتهم)، وكانت كثير من الدول من بينها الجزائر قد أعربت عن ضرورة ضمان عدم تهديد استقرار وأمن دول جوار ليبيا عند التعاطي مع مسألة انسحاب المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا.

(12) أظهرت ديناميكيات الصراع في أفريقيا من خلال تطورات الأحداث التي شهدتها السودان وتشاد وليبيا ومالي وتونس، محدودية القدرة على التأثير الفعال بشكل مباشر من جانب الأمم المتحدة على حلحلة النزاعات بين الفرقاء المحليين والفشل في تسريع عملية التحول الديمقراطي، ويظل البحث عن الشركاء المحليين الفاعلين، البوصلة التي توجه السياسات الخارجية في المنطقة لكل من واشنطن وباريس وغيرها من الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة.

(13) أظهرت تلك الأحداث قدرة الكرملين على الاستفادة من ديناميكيات الصراعات والنزاعات الإفريقية المتغيرة وتوظيفها لصالح استراتيجية التمدد الروسي في الفراغات الجيوسياسية في الدول الفاشلة والهشة عن طريق تقديم المساعدات العسكرية واللوجستية وغيرها من أشكال المساعدة.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا