شمام .. تأديب التاريخ وهرولة التمساح - عين ليبيا

من إعداد: عبدالرزاق العرادي

تابعت بشيء من الحسرة المشوبة بالإشفاق مداخلة الصحفي الليبي، مالك بوابة الوسط، محمود شمام فيما أطلق عليه المنتدى الوطني للحوار الذي احتضنته تونس، الأسبوع المصرم.

وقد استوقفني كثير مما فاه به شمام في مداخلته المقتضبة نسبياً. لكني وجدت الرغبة في التعليق على بعض ما أعتبره أغاليط، وإن كان غيري من رواد الصحفي اللامع (دبل شفرة كما سمى نفسه) لا يقاسمونني نفس الرؤية، وهو أمر مفهوم إلى حد ما خصوصاً إذا علمنا أن “داعية الديمقراطية”، يزيح من حائطه كل من لا يتلقى أقاويله على أنها كتاب أنزله الله عليه أيام كان رئيس تحرير مجلة نيوز ويك، لتنوير البشرية الضالة، بقبس من تعاليم الليبرالية صافية الينبوع.

وقبل أن أنهل منها، أو أنهال عليه، ينبغي تعريف الليبرالية التي لا يمارسها شمام، فهي باختصار قيمة حضارية تعني؛ دستورية الدولة (المدنية)، والديمقراطية، والانتخابات الحرة والنزيهة، واحترام حقوق الإنسان، وحرية الاعتقاد والسوق الحر والملكية الخاصة.

لذا يمكن القطع أنه لا وجود لليبرالية في ليبيا على الإطلاق طبقاً لهذا التعريف، إلا إذا تجاوزنا اعتلاءهم للدبابة من أجل سحق وإقصاء خصومهم، كما سنرى. وفي هذه الحالة، فنحن أمام مثال صارخ على إستدعاء قيمة سياسية بإخراج عسكري، يمثل شمام أحد أسلحتها القاتلة، كآلة إعلامية دعائية، تعمل على تأجيج النزاع الأهلي وترفض التوافق الوطني والمشروع السياسي الجامع الذي يتعالى على الجهوية، ويؤسس لمشروع جامع يحقن الدماء ويحافظ على وحدة البلاد.

لاحظت في بداية كلام الصحفي الليبي، اليساري العلماني اعتقاداً، والليبرالي إدّعاءً، ذي اليد الطولى في “المهنية الممولة” محاولته “تأديب التاريخ”، بِلَيِّ أعناق الحقائق، واستبدالها، أو اجتزاء المعلومات واختزالها. وبناءُ الاستنتاجات على معلومات مشوهة، أو مزورة أو ناقصة، لينتج تحليلاً مشلولاً، أو أعور، أو أحول، في أحسن الأحوال.

ظهرت أولى “حقائقه” التي بنيت عليها المداخلة ممحصة، وموثقة، وغير قابلة للدحض بأي وسيلة لتماسكها المنطقي، وسلامة مقدماتها المنهجية. تلكم هي الهزيمة الانتخابية المتكرر التي مني بها من قاتلهم “قوات شمام” في ربوع ليبيا..!!

وهنا لا بد من ملاحظتين:

  1. أن من يقاتلون الكتائب، أو القوات التي يتحدث شمام باسمها، من غير تعيين، ولا صلة ظاهرة يعرفها الليبيون، وفي مدينة بنغازي، لا علاقة لهم بالفعل السياسي، ولا ينتمون إلى أحزابه، ومنهم من لا يراه أصلاً سبيلاً صالحاً. أما كيف دخلوا الانتخابات، وهزمهم فيها حزب شمام، الذي لا يعرف له أحد سابقة ترشح، ولا موالين خارج غرفة تحرير بوابة الوسط؟ فهذا أمر نحتاج أن  يجيب عنه شمام.
  2. الثانية أن الأرقام تقول إن الإسلاميين لم يهزموا في انتخابات المؤتمر الوطني العام في من يوليو  2012م، حتى بعد أن غيّر رفاق شمام، بالصياح داخل المجلس الوطني الإنتقالي، قانون الإنتخابات فقلصوا القوائم وزادوا في الأفراد فكانت النتيجة نقيض ما أرادوا. ومع ذلك انقلب شمام على المنتخب، بمنصّاته الإعلامية، وتحالفه مع العسكر، من أجل سحق خصومه بالسلاح. تباً لهكذا قيم.

لم يشاركوا  خصومك كأحزاب، أو قوائم، مقربة من الأحزاب في انتخابات البرلمان 2014، التزاماً بالقانون، والنظم المدنية التي يزعم شمام، والمعلقون على صفحته أنه نبيها الذي يأتيه الوحي، في مدينة الإنتاج الإعلامي في القاهرة، حيث يهنئ مع العسكر، ويحلم بخلفٍ على شاكلة العقيد الذي عارضه، في نفاق سياسي، لا تتريب عليهم فيه.

عكس ما فعلت الأحزاب التي صوتت لقانون منع الأحزاب من الترشح للانتخابات الستين، ثم البرلمان، ورشحت قادتها المعروفين، سياسياً، في مغافلة لنصوص القوانين، وتحايل سخيف على الناخب.

المثال الثاني لهذه “الحقائق المبرهنة الناصعة” التي يدلي بها نبي الليبرالية المحبوب كما يدعي، هو حديثه عن العقوبات الأممية ومن عرقلها، ومن كان مهدداً بها.

روسيا تعرقل عقوبات كانت تستهدف شخصيات من معسكر فجر ليبيا، وتستقبل رعاة الكرامة من القادة العرب، وبعض قادة الكرامة، مدنيين وعسكريين، وتعقد معهم صفقات التسليح والدعم اللوجيستي، وتقف علناً في معسكر الثورة المضادة، ومع ذلك تعرقل العقوبات التي تستهدف قادة “مليشيات فجر ليبيا الإسلامية” كما يسميهم الإعلام الأصفر الذي يتمول منه من يسمون قادة رأي في ليبيا. أرجو ممن له القدرة على الضحك من هذه البلية أن يضحك.!!!

يمكن ألا يكون القارئ لكريم مطلعاً على حقيقة هذا الأمر، لأن إعلام شمام مارس هواية القص عندما نشرت الخبر وكالات الأنباء في شهر يوليو الماضي؛ فقد نشرت وكالة رويترز نقلا عن مصادرها في الاتحاد الأوروبي أن هناك قائمة عقوبات ستعرض على مجلس الأمن، منها شخصيات من معسكر ليبيا سمتهم الوكالة، وآخرون من معسكر الكرامة سمتهم الوكالة أيضا، ولكن بوابة الوسط التي يديرها، ويجني ريع تمويلها، شمام لم تكترث وأوردت الخبر مبتوراً، كمداخلة مالكها، الذي لا شك يمولها من أملاكه الخاصة.!!

نبي الديمقراطية الذي ينتصر فيها “حزبه”، والذي آمن بها، ورضعها، أيام وضعه الشفرة الغربية، يلوم الغربيين، الذين يعترف بحقهم في التدخل في ليبيا، على عدم التدخل، ويعيد تعريف سيادة الوطن ليتواءم مع استجداء التدخل الأجنبي!! وليته كان استجداء التدخل فقط!! إنه استجداء البطانيات. هذا فصل الصيف يا شمام.

بنغازي تستحق على أبنائها البررة غير هذا، ولا تحتاج من يستجدي لها. لكن هذا كثير على شمام، الذي رفض أن تطأ قدمه أرض ليبيا إلا همساً، وهو يتولى حقيبة الإعلام في المكتب التنفيذي أيام الثورة، وبعد التحرير، مكتفياً بالحديث بالمزاج، من أحد الفنادق، أو إحدى الشاشات، ليبيا أصغر من ذلك، ويكفي أن يموت فيها الثوار، أما قادة الرأي فمكانهم الفنادق، والسجاد الأحمر، والليل الأشقر!!.

شمام الذي اكتفى بزيارة يتيمة أو زيارات خاطفة، سب فيها ثوار بنغازي، لا يمكن أن يقدم لها أكثر من دمعة تمساح، مهرول، لكن التماسيح لا تعرف الإسراع، إن اختصاصها هو الغطس في الوحل انتظارا للفريسة التي يمكن ألا تأتي..لكن جو الوحل آمن، ودافئ، ولا يحتاج إلى بطانيات كصيف بنغازي ونازحيها.

تمنيت أن يكمل شمام جملته عن الحرب في بنغازي، لكن المنصة، وأشياء أخرى، حبست لسانه، لو كان أكمل الجملة ليقول لنا:

من دمر بنغازي؟

ومن هو أول من شن فيها حرباً؟

ومن قصفها بالطيران؟

ومن فرض على أهلها النزوح؟

لوفر علينا جهدا كبيراً!!

يا سيد شمام لا نكلفك فوق ما تطيق.

قل إن المسؤولية عما يحدث في بنغازي مقتسمة بين فريقين، وإن البادئ أظلم. لا، هذا كثير عليك.

قل إن الحرب يدفع ضريبتها المدنيون، وإنه لا رابح فيها. هذا أيضا مجحف بحقك.

طالب بأن يتوقف القتال في بنغازي، كما يفعل من تصفهم بالأعداء.

اعذرني فإن الأمر يحتاج إلى شجاعة الرجال. عذراً، صحفينا اللامع.

وأنا أتابع الكلمة الجوهرة التي أدلى بها الليبرالي المؤمن بالتعدد من منصة ذات لون واحد، هالني حجم الوثوقية التي يتحدث بها، وبضمير الجمع (نا) حتى خلتني أمام زعيم أممي محمول على أكتاف الجماهير.

في الحرب يقول شمام نقاتل،

وفي الحوار يقول شمام: نفاوض.

وفي الانتخابات: هزمناهم.

وفي المجمتع الدولي: أرغمنا على الحوار!!

أنت سيد السلم والحرب، وصندوق الاقتراع والبندقية، وأنت رسول المحبة، والديمقراطية، إله الإعلام!، لا بل الإعلام القاتل.

من ينظر إلى المنصات الإعلامية لهذا الديمقراطي الذي ارتضع الديمقراطية من شفرته في نيوز ويك العربية، يرى لليبيا لوناً واحداً، وجهة واحدة، يرى ليبيا، وهي تقاتل شرذمة من شذاذ الآفاق، جاؤوا لتغيير وجه الحضارة، والإساءة إلى الديمقراطية العريقة التي بناها العسكر ببياناتهم، وعملياتهم، وإنذاراتهم للمؤسسات المنتخبة ديمقراطياً.

من يقرأ في منصات شمام (وقد قررنا أن ننهي مهزلة الألقاب الساخرة) يجد قضاء ليبيا شامخاً لأنه حكم ببطلان تعيين حكومة أحمد معيتيق، ومغلوباً على أمره، لأنه حكم ببطلان مجلس النواب الذي يتحدث شمام باسمه بلا عضوية ولا تخويل، ولا حتى ترشح.  قضاء غير نزيه ولا مستقل.

بقيت مفاجأة واحدة من سيل المفاجآت التي أغرقتنا بها مداخلة شمام؛ وقد فاجأتني كما فاجأتكم جميعاً، وهي أن شمام فوجئ بأن القوة يمكن أن تكون بديلاً، أو شيئا موازيا لصندوق الاقتراع!!.

وسبب مفاجأتي لا شك هو نفسه سبب مفاجأة شمام؛ فالقوة التي أعلنت عن نفسها، في عيد الحب في 14 فبراير 2014م، وشنت حرباً على جزء من الشعب، وفي جزء من الوطن، وأعطت الأوامر باعتقال المنتخبين، وما زالت تعربد على الضعفاء وتحصد أرواحهم، هذه القوة ناعمة وليبرالية وديمقراطية حتى النخاع.

والقوة التي أمهلت  المؤتمر الوطني العام (قبل انتهاء ولايته، إذا سلمنا أنها انتهت) ساعات لتسليم السلطة وإلا واجه الويل والثبور وعظائم الأمور، هذه ليست قوة ضد الصندوق، ولا موازية له.

تلك هي الكرامة التي أيدتها أيها الوزير السابق، عفو مسؤول ملف الإعلام بالمكتب التنفيذي، انقلبت بالسلاح على المسار ووقفت محللاً لأفعال الكرامة، بآلة القتل الإعلامية، في تناقض تام لما تدعيه من قيم.

القوة التي يوجه رئيسها الأوامر للمؤسسات المنتخبة (التي تتبع له)، ويحذر أعضاء الحكومة المنبثقة عن برلمانه المنتخب، من الاقتراب من الملفات العسكرية التي يفترض أنها جزء من عمل الحكومة، هذه القوة ناعمة وديمقراطية وليبرالية،.

من يستضيفون في المنصات الإعلامية، ومن يمولونها، يتناغمون مع أسيادها الذين يقتل رصاصهم أطفالنا في بنغازي، ويتغاضون، أو يدعمون إرهاباً يقتل أهلنا في سرت، ويعينون بالطيران، وبالهجومات البرية اليائسة، إرهاباً أرق أهلنا في درنة، وشرد خيارهم، وقتل شرفاءهم. ويعيثون فساداً في الجنوب الحبيب بمعونة بعض المرتزقة غير الليبيين.

لم تنته، ولن تنتهي مغالطات شمام، ولا أتوقع شخصياً أن يأتي الليبيين بأسوأ مما تضخه منصاته الإعلامية، ولا أن يرتفع عنده شأن ليبيا عما هو عليه، وربما لا أعود إلى مناقشة هذه الأباطيل، لأنه لا أحد يملك أن يؤدب التاريخ، ولأن التماسيح لا تهرول، وإنما تنغمس في الوحل.

أما الشرفاء فيشربون ماء التضحية الصافي، وهم يدفعون أرواحهم فداء للوطن، ويتنازلون عن امتيازاتهم من أجل الوطن والمواطن. ليبيا بحاجة إلى كلمة تجمع، وإلى اعتراف متبادل، وإلى حوار غير أحادي، وغير مدفوع الثمن، وإلى إعلام نزيه وطني صادق.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا