ضرورة المصالحة وضرر الاستبداد وحصاده المر - عين ليبيا

من إعداد: عبدالرزاق العرادي

العرادي (1)

إن الشعوب التي ابتليت بأحكام استثنائية رعناء تدفع ضريبة من أعمار أجيالها وجهود أبنائها لترميم ما أفسده الطغيان؛ وذلك لأن ضرر المستبدين لا ينتهي بانتهائهم، ومشكلاتهم لا تتوقف بإسقاط أحكامهم لأنهم زرعوا في كل شبر من الوطن مشكلة، واستنبتوا في كل دقيقة من أوقات حكمهم المقيت معضلة تستعصي على الحل، فكلما ظن الثوار الأحرار أنهم اقتربوا من لحظات البدء في تأسيس دولة القانون التي تسع كل الناس، وينال فيها كل مواطن حقه، وتصان فيها كرامة كل إنسان أطلت معضلة برأسها من تلك المعضلات التي تنتمي للعهد المظلم الذي دفع الناس أعمارهم وأوقاتهم وفلذات أكبادهم للإطاحة به وتجاوز مراراته، وهذا من نكد الدنيا على الأحرار والمصلحين الذين جعلت المطبات في وجوههم تثبيطا للهمم وإيغالا من أعوان الطغاة في نشر اليأس بين الناس حتى يحمدوا عهد الطغيان والاستبداد لكن هيهات!.

لن نعود للقيود

على شعبنا الأبي أن يعرف ويعلم علم اليقين مكمن الداء وأصل المشكلة، ولابد أنه قد بلغ سن الرشد وذاق طعم الحرية بعد تضحيات جسام، وعاش نشوة النصر، وآثر المنية على الدنية، وأقسم أن لا يعود إلى القيود والسلاسل، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، أقول هذا لأنه تواتر في الأسابيع المنصرمة دعوات من تلك الدعوات التي تدس السم في العسل كما تعود أهلها خلال أربعين عاما من تحريف القول عن مواضعه وتسمية الأشياء بغير أسمائها؛ أليسوا هم من دعم حكم الفرد المتسلط بحكم الشعب؟  الدعوة الجديدة التي جمع القوم جهودهم للترويج لها من أجل شغل الرأي العام عن الانتصارات التي حقق الأبطال الأحرار من حاضنة الثورة وعمودها الفقري مصراتة على نابتة الغلاة الدواعش الذين يتمتعون بحلف استراتيجي مع بقية المتباكين على العهد البائد والحالمين بعودة الزعيم الأوحد. الدعوة الجديدة تغازل بعض أركان ثورة السابع عشر من فبراير، وهي دعوة تمتطي ظهر المصالحة الوطنية، والمصالحة أمر يصبو له كل العقلاء الراشدين من أبناء هذا الوطن لما لها من دور في تضميد الجراح ولمِّ الشمل وإنهاء النزاعات المسلحة وغيرها، وهذا يدعونا للوقوف على تعريف المصالحة واستكناه حقيقتها، ومعرفة آليات استمرارها؛ لأن معرفة مصطلحات المفاهيم الصحيحة مفتاح لإدراك كل حقيقة، ولم يُجْنَ على شيء في عصرنا هذا كما جُنِيَ على المصطلحات التي حرفت ومزقت مفاهيمها كل ممزق.

نعم للمصالحة

المصالحة في أشهر تعريفاتها تعني “إيجاد سبل للعيش بين أعداء سابقين” وتعني في تعريف آخر “الرجوع إلى مجلس واحد، والعمل في انسجام جماعي، واستعادة حالة العلاقة السلمية التي لا يسبب فيها أي طرف الضرر للآخر، وحالة يأمن فيها الكل من حصول ذلك الضرر من جديد، وحيث يلغى الانتقام من قائمة الخيارات المتاحة”، فهذا التعريفان يحيلان إلى جملة من القضايا تحتاج إلى توقف؛ ففي التعريف الأول ثمة أعداء سابقون فرضت عليهم الظروف -التي توصل المتخاصمين عادة إلى طريق مسدود- إيجاد سبلٍ للعيش المشترك، وذلك الإيجاد لا يتطلب منهم محبة قلبية ولا مودة أخوية، بل يوجب عليهم فقط أن يعرفوا أن هذا الجلوس ضرورة لدفع ما هو أنكى وأشد ألما في قابل الأيام على ضوء ما حدث سابقا، وهذا يستدعي من كل طرف الكف عن البغي والتعدي على الآخر حفاظا على ما تبقى، وضمانا لمستقبل أكثر سلاما وأمانا.

والتعريف الثاني أكثر تحديدا وتفصيلا لأنه حدد آلية العيش المشترك حيث جعلها مجلسا واحدا مع عمل منسجم بين المتخاصمين سابقا ليصلوا إلى استنبات علاقة سليمة يأمن فيها الجميع من حدوث أعمال عدوانية تلحق ضررا بأي من المتخاصمين.

هذا الجهد النبيل الذي حث عليه الإسلام وسماه القرآن صلحا وجعله خيرا يحتاج إلى شروط للحصول عليه أولا، وضمان استمراراه ثانيا؛ من أهم تلك الشروط:

  1. وجود الأكفاء النزهاء المقبولين من جميع الأطراف.
  2. قبول المتخاصمين جلوس بعضهم إلى بعض جلسة الند للند.
  3. إظهار القابلية الحقيقية للتفاهم بين الطرفين.

وفي ضوء هذين التعريفين وهذه الشروط نلاحظ أن بعض دعوات المصالحة المتباكية على عهد الاستبداد إنما هو ذر للرماد في العيون؛ لأنه إذا كان الداعي للمصالحة يطلب من المتضررين الذين فقدوا كل غال ونفيس في سبيل حريتهم العودة إلى القيود مقابل استمتاعه هو بميزات مادية فقدها مع أفول نجم الطغيان، ويغلف ذلك التباكي على المصلحة الشخصية والنفوذ الزائف بالدعوة إلى المصالحة التي يشترط فيها عند المتباكين أن يتوب الأحرار من ثورتهم على الاستبداد، وأن يندموا في اليوم الذي قالوا فيه لا للطاغية الأكبر، خاب العقلاء وخسروا إن أصغوا لمثل هذه الدعوة الفاشلة.

مصراته ضد الطغيان وضد الإرهاب

ركزت إحدى تلك الدعوات على أهل مصراته لما لهم من تاريخ نضالي مشرف وحاولت أن تجعل مصراتة التي ضحت بكل ما تملك هي السبب الرئيسي في مشكلات راكمها نظام أربعيني أهلك الحرث والنسل وعاقب كل حر قال لا بملء فيه، ولم يعاقب أحدا كما عاقب مصراتة وأهلها، وقد استكثرت الدعوة البكائية على أهل مصراتة وقوفهم في وجه الطغيان، والحقيقة أنه ما كان يليق بأهل مصراتة النبلاء إلا أن يقفوا مع ومضة الحرية التي أشرقت يوم السابع عشر من فبراير، فإن من جاهد أجداده الاستعمار ومخلفاته لا يليق به إلا أن يقارع الاستبداد الذي هو استعمار داخلي، وهذا ما وفق الله له أهل مصراتة وغيرهم من أحرار الوطن الغالي؛ ألا يستحي أولئك الذين يحملون أهل مصراتة وزر من كان يدكهم بالصواريخ والمدافع ومن شرد الآمنين وحاصرهم الليالي ذوات العدد، وكان شعارهم حينئذ “صفيهم بالدم ياقائد”، كل ذلك حرصا على كرسي زائل وقد زال شر إزالة.

مكاسب لصالح الوطن

لقد كسبت مصراتة من وقوفها مع الحق مكسبا عظيما حيث جدد أهلها عهد أجدادهم وشاركوا في كتابة التاريخ الليبي الحديث بدماء أبطالهم التي امتزجت مع بقية المدن الأخرى، وذلك موقف مقدر وتاريخ مصون لأهل مصراتة يعرفه لهم الأحرار في كل مكان، كما أنها ستبقى غُصَّة في حلوق كل من يحاول الاستكبار بغير حق في بلدنا الحبيب، ألا يكفي مصراتة شرفا أن الله عصم بها وحدة القطر الليبي الذي حاول المقبور أن يقسمه نصفين إرضاء لنزوته الطغيانية وتشبثا بالكرسي الذي أرهق الليبيين من أجله، وإن تباكيَ أركان ذلك العهد البائد على المميزات التي فقدوا لن يغير من الواقع شيئا، ولن يرجع طغيانا انقضت أيامه، ولهم الحق في الالتحاق بداعش وأخواتها لكن الثوار الأحرار بالمرصاد لكل من تسول له نفسه الطغيان، كما أن أيديهم ممدودة لكل المخلصين الذين يؤلمهم الوضع الذي تسببت فيه سنوات الاستبداد العجاف وملحقاتها التي لا تزال تعمل ليلا نهارا من أجل تعكير الجو وبث الفرقة وشيطنة المصلحين وتشويه الثوار.

وطن خال من الاستبداد ومن الإرهاب

علينا أن نعلم أن مقومات المصالحة الوطنية متوفرة في ليبيا؛ لما حباها الله من وحدة الدين، واتحاد المذهب، والتداخل والتناغم القبلي، والتفاهم الجهوي، والتمازج الأسري، ولا تحتاج إلا إلى رجال مخلصين يأخذون على أيدي السفهاء من كل قوم ثم يجمعون الناس على كلمة سواء تستبعد الاستبداد والمستبدين، وتطهر البلاد من الإرهاب، لما علم مقدما من خطورتهما، وما شاهد الناس من فظاعة آثارهما.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا