ضريبة الفرصة البديلة - عين ليبيا

من إعداد: د. أحمد معيوف

في الاقتصاد توجد نظرية تعرف بنظرية تكلفة الفرصة البديلة، وهذه التكلفة هي عبارة عن القيمة في الفرق بين خيارين إثناء إتخاد قرار ما، عدم الأخد بالاختيار البديل قد ينتج عنه خسارة الإستفادة من المزايا التي ربما يتمتع بها هذا الإختيار البديل.

حسب قاموس أكسفورد الجديد، تعرف تكلفة الفرصة البديلة بأنها خسارة الأرباح أو الفوائد من الفرص البديلة الأخرى عند اختيار بديل واحد، وهذه الكلفة لا تقتصر على التكاليف النقدية أو المالية، وإنما تشمل الناتج الضائع والوقت الضائع وكل الفوائد الأخرى التي تتحقق من الاختيار الآخر.

من الأمثلة البسيطة التي توضح بجلاء تكلفة الفرصة البديلة حالت طالب تخرج حديثا من الجامعة، أمام هذا الطالب خيارين، إما أن يطرق سوق العمل ويتحصل على وظيفة أو يستمر في دراسته العليا للحصول على شهادة أعلى في خلال “فرضا” ثلاثة سنوات من تخرجه.

في الحالة الأول، خيار طرق سوق العمل والحصول على وظيفة، سيتمكن الطالب في ثلاثة سنوات “الافتراضية” من الحصول على خبرة جيدة ستعمل على رفع مستواه الوظيفي الى مستوي أعلى وتؤهله إلى الإرتقاء في السلم الوظيفي في الأعوام القادمة، وسيرتفع تبعا لذلك راتبه وربما يتحصل على مزايا أخرى، كما انه سيجني مدخرات من مرتب السنوات الافتراضية الثلاث.

بالمقابل، في الخيار الثاني، عليه أن يدفع أقساط الدراسة وينتظر ولوج سوق العمل بعد إنهاء دراسته، وقد يفشل.

من الواضح هنا وجود كلفة الوقت والفرق المادي في الحالاتين.

الآن لنأتي إلى الخيارات الخاطئة والصريحة في الأزمة الليبية، قضية “تحرير طرابلس” كما يحلو لحفتر ومؤيديه تسميتها وكلفة الفرصة البديلة.

كان من المزمع القيام بمؤتمر ليبي في مدينة غدامس في منتصف شهر أبرايل الماضي، فقد أعلن المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا غسان سلامة، في شهر مارس الماضي عن المؤتمر الليبي الجامع، بهدف وضع «خريطة طريق» لإخراج البلاد من أزمتها العميقة.

ووفقا لما أعلنه سلامة في مؤتمر صحفي عقده يوم الأربعاء 20 مارس 2019، بمقر البعثة الأممية في مدينة طرابلس، فإن الملتقى الوطني سيعمل على تحديد تاريخ الانتخابات التشريعية والرئاسية، التي سبق أن أعلن عن إجرائها في أكتوبرمن هذا العام.

هذا الموعد تم الاتفاق عليه في الاجتماع الأخير بأبوظبي بتاريخ الأربعاء 27 فبراير 2019، والذي جمعت فيه دولة الإمارات المؤيدة لحفتر بين المشير حفتر ورئيس المجلس االرئاسي السيد فائز السراج ورئيس البعثة الأممية الدكتور غسان سلامة.

ما تسرب عن الاجتماع محدود، كثرة التكهنات به، لكن من المؤكد في هذا الاجتماع تنازل حفتر عن سقف التفاوض الذي كان يُفترض أن يضغط به على حكومة الوفاق، وفي المقابل تنازل السراج عن تعنت حكومته وداعميه في ما يخصّ الاستفتاء على الدستور قبل الانتخابات، ونحن نعلم جيدا أسباب رفض حفتر ومؤيدية في البرلمان لمسودة مشروع الدستور.

كما كشف مصدر من مجلس النواب الليبي، الداعم لحفتر، عن بعض تفاصيل اللقاء وقال إن السراج رفض مقترح إلغاء منصب القائد الأعلى للجيش، وهو المنصب الممنوح للسيد فائز السراج بحكم اتفاق الصخيرات، إلا أن التغلب على هذا الأمر جاء عن طريق اقتراح إنشاء مجلس أمن قومي مصغر تتوزع فيه صلاحية القائد الأعلى بين حفتر باعتباره القائد العام بقرار البرلمان والسراج باعتباره القائد الأعلى بنص الاتفاق السياسي.

على الجانب الآخر، فإن المعلومات التي سربها مسؤولون بحكومة الوفاق تقول إن حفتر وضع العديد من الشروط لإنهاء مرحلة الانتقال السياسي، من ضمنها تكوين لجنة للإشراف على صياغة الدستور، هذا الشرط يصطدم بشرعية لجنة صياغة الدستور المنتخبة من قِبل الشعب، وبالتالي لا يمكن تمريره، كما اشترط أن يكون طرفا مؤثرا ورئسي في القرارات الأمنية بالبلاد.

هذه التفاهمات والتفاهمات السابقة التي ضمت أطراف النزاع في باريس وباليرمو كان يمكن أن تكون داعمة للملتقى الوطني الذي كان سيعقد في غدامس، إلا أن السيد حفتر، ربما لقراءة خاطئة في تقدير قوة خصمه، وتقته في الدول الداعمة جعله يفضل خيار الحرب والمعالجة الأمنية التي تبناها منذ أن بدأ عمليته المسماة بالكرامة، أي قبل أن ينال تعيينه وتسميته بالقائد العام للقوات المسلحة من قِبل البرلمان.

خيار حفتر الذي دفعته إليه مصر والامارات، وباركته السعودية في لقاء المشير حفتر مع الملك سلمان الذي جاء بدعوة رسمية من المملكة بأسبوع قبل العملية، ودعمته فرنسا وروسيا وحتى الإدارة الأمريكية، هذا الخيار سبب حتى الآن في تهجير أكثر من 120 الف شخص، ومات من الطرفين ما لا يقل عن 1000 قتيل، وتجاوز عدد الجرحى 5000 جريح، ودمر أحياء كاملة في العديد من ضواحي المدينة الجنوبية، ناهيك عن النهب الذي نال الأحياء التي تدور فيها رحى الحرب، والشرخ الذي أحدثه في النسيج الاجتماعي، ضف لكل ذلك هدر الوقت وتعطيل الحلول السلمية، وكلفة القتال المادية، وعدم وضوح نهاية لهذه الحرب غير المبررة.

وفي تقديري، ربما عدم وضوح نهاية الحرب من أخطر الأمور التي ستواجه وتعمق الأزمة الليبية، ذلك فإن كسب أحد طرفي النزاع للحرب لن يحقق ما يرجوه المواطن الليبي الذي لم يكن طرف فيها.

فما الذي سيحدث اإن افترضنا مثلا انتصار قوات حفتر وسيطرتها على العاصمة ثم البلاد؟.

حسب تصريحات القيادة العامة بقيادة حفتر فإنه عند “تحرير طرابلس” كما يطلق عليها من قِبل الجيش، ستدخل ليبيا في مرحلة انتقالية منضبطة، يتم فيها حلّ كافة الميليشيات ونزع سلاحها، كم سيتم إسقاط الأجسام المنبثقة عن اتفاق الصخيرات، ويتم تشكيل حكومة وحدة وطنية تكون مهمتها التحضير للانتخابات.

طبعا، لا شك أن هذا الكلام جميل، ولكن تعترضه الكثير من الأسئلة.

أولها: ماذا سيحل بخصوم حفتر؟ خاصة وقد رأينا في بداية الحرب الآلة الإعلامية لحفتر أدعت أن وزراء حكومة الوفاق وأعضاء مجلس الدولة قد حزموا حقائبهم وفروا بمن فيهم رئيس المجلس فائز السراج.

ثم: هل هناك ضمانات لتنفيد هذه التصريحات، بمعنى هل هناك ضمانات أن لا يتراجع حفتر عن خطته ويستحوذ بقوة السلاح على مقاليد الدولة؟.

كذلك: ما الدور الذي يسعى حفتر لتحقيقه لنفسه؟.

لا شك أن الجواب عن هذه الأسئلة غير متاح لأكثر المتفائلين بنتائج عملية حفتر.

بالمقابل، ماذا لو استطاعت حكومة الوفاق كسب المعركة وهزيمة قوات حفتر؟ هل تستطيع هذه القوات الوصول إلى بنغازي و”تحريرها” من قبضة حفتر؟.

ورغم أن فرضية كسب حكومة الوفاق للمعركة أمر وارد جدا، خاصة إذا نظرنا إلى صمود عناصرها البطولي أمام آلة الحرب التي يتزعمها حفتر، والمدعومة بقوة من دول عدة، واستمرار الدعم التركي وربما القطري لها، كذلك استردادها لغريان على أهميتها المحورية في عملية حفتر، والتضيق على ترهونه المخزن البشري لقواته.

إلا أن نعتقد بأن حكومة الوفاق قادرة على تتبع فلول حفتر ومحاصرته في الرجمة أمر غير وارد، وبالتالي ربما خسارة حفتر ستعمل هذه المرة على تقسيم البلد فعليا، ورسم حدود دوليه بين شطريها.

إن ضريبة الفرصة البديلة في معركة طرابلس كبيرة جدا على كل الأصعدة وكل المستويات، لهذا فالتقييم الأمثل لعملية طرابلس يرقى لأن يكون جريمة مكتملة ورهان خاسر يجر ليبيا إلى الاستبداد أو التشظي، وكليهما لن يسعد لهما المواطن الليبي الذي حولوا حلمه إلى كابوس.

ولأني أرى النصر لأحد الطرفين لن يكون فيه خير لليبيا، أتمنى أن يعود الجميع إلى طاولة الحوار، وأن تعمل البعثة الأممية بإقناع مجلس الأمن على التدخل الجدي في تنفيد الاتفاقية التي باركتها بقرارتها المتعددة، ذلك أن التفكير في إنتاج اتفاقية جديدة في الوضع الراهن خيار لا يمكن المراهنة على نتائجه.

وإني اجزم بأن العمل على اتفاقية الصخيرات، مع بعض التعديلات إن اقتضى الأمر، هو إيسر الحلول للوصول بالبلاد إلى انتخابات عامة تخرج كل الأجسام الموجودة والتي ساهمت في الازمة من المشهد السياسي، واستبدالهم بأوجه وأجسام جديدة لم يفسدها الاستقطاب الذي انجرت إليه الأجسام الموجودة.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا