طريق الاستقرار - عين ليبيا

من إعداد: عبدالرزاق العرادي

ترددت في نشر هذا المقال، لسببين رئيسيين؛ الأول منهما هو مدى الحرج الذي يقع فيه أي إنسان يجد نفسه معنياً بقول ما يعتقده صواباً، ويعاكس التيار العام. والثاني مردُّه إلى أن المسألة التي أريد الكتابة عنها لم تخرج من تحت القضاة بعد، بشكل نهائي. الحرج الأخير سهل نسبياً لأن حديثاً إلى أحد القانونيين كفيل بإزالته، وهو ما تم، لكن الحرج الثاني لن يقف مانعاً أمام نشر ما نراه حقاً، وصواباً؟

حَكَم القذافي بالحديد والنار، وساد حكمه الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكان حكماً جائراً بكل معاني الكلمة، واتسم نظامه بالرجعية والتخلف، ونشر الرشوة والوساطة والمحسوبية. حتى يمكن القول، دون مبالغة، إنه فاق بفساده كل عهد وُسم بهذه الأوصاف، بينما ادّعى أنه قلب الحكم الملكي من أجل القضاء عليها.

قمع فئات الشعب الليبي كافة؛ فعلق الشباب على المشانق، وطارد معارضيه في الخارج، وارتكب المجازر داخل السجون وخارجها، ومزق الوطن ونشر فيه الأحقاد، وقتل في الناس الرغبة في العمل، وأمات فيهم حب الوطن، ورُوح العطاء والبدل والبناء. لم تراع آلته المفترسة الفاسدة حرمة لمواطن، ولا لأجنبي. خرق المعاهدات، وانتهك القانون الدولي، وأصبح الحكم أشبه بمجموعة من العصابات تصطرع في غابة.

دار الزمان دورته وحانت الفرصة لشباب هذا الوطن، المثقل بعقود أربعة من تنشئة آلة النظام القذرة، والذي لم يعرف للحكم نموذجاً غير نموذج القذافي، ولا سمح للأطر الأكاديمية والتربوية الليبية بأن تفتح عينيه على أي طريق للحكم، أو تطلع على تجربة دولة غير ما يصدره رأس النظام.

انقض الشباب على هذا النظام الآسن، المترهل، بفضل الله ثم بمساعدة الأمم المتحدة عن طريق حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونجحوا في التخلص من طاغية العصر ومن هذه الحقبة التاريخية المرّة.

وجاءت ثورة فبراير التي وصفها بيان انتصارها بالمباركة، وأشار في مقدمته إلى إجرام النظام السابق وأفعال كتائبه، التي قتلت الشباب، المتظاهر السلمي، بشتى الأسلحة التي ووصفها البيان بأنها جرائم وحشية، وأنها تمثل انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وحرياته، ولكافة الأعراف والمواثيق الوطنية والدولية.

لكن زوار الفجر عادوا كما كانوا. اعتقالات تعسفية، وسجناء بدون محاكمة، خطف وإخفاء قسري، وتعذيب فاق الجلاد الأصلي، أحيانا. ومما يحز في النفس أن نقول هنا، كارهين، إن بعض من كانوا في صفوف الضحايا امتهنوا وظيفة الجلاد.

انتهى القذافي ونظام حكمه ولن يعود، وكل من يراهن على عودته فهو واهم. نجحت ثورة السابع عشر من فبراير في إسقاط الطاغية ونظام حكمه، لكنها لم تنجح في إقامة الدولة. ونتيجة لهذا الفشل وجدنا أنفسنا في حرب جديدة أزهقت المزيد من الأرواح، رملت النساء ويتم الأبناء، ودمرت المدن وهجرت أبناؤها في الداخل والخارج، وارتُكبت جرائم جديدة في حق الإنسان الليبي؛ قتل واختطاف وتعذيب واغتصاب وتهجير، وأصبح لدينا فائض في ذوي الإعاقات الدائمة.

انطفأت الحرب تدريجياً في بعض أرجاء البلاد بلطف الله أولاً، ثم بحرص الغيورين على هذا الوطن، ولاحت في الأفق معالم حل ينهي الانقسام ويمهد الطريق أمام محاسبة المجرمين، وإقامة العدل وتحقيق المصالحة، وصولاً إلى نشر ثقافة العفو والتسامح. ورغم التعثر الذي أصاب هذا المسار إلا أنه يجب الحرص على إنجاح الحوار والإسراع في إقامة دولة مستقرة ذات شرعية كاملة، يعاقب فيها المسيء، ويقام فيها العدل، ويطبق فيها القانون. لا بد من إنهاء الانقسام وبناء الدولة من جديد، تحت عنوان جديد هو “ليبيا”.

لا ينبغي أن يفلت من العقاب أي ممن ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية سواء كان ذلك في عهد القذافي أو في عهد فبراير. ومن يطعن في هذه الأحكام وفي القضاء الليبي اليوم من أتباع النظام السابق، لن يجد في المستقبل من ينصفه من أتباع فبراير إلا هذا القضاء النزيه.

تشرشل، وعلى ركام مدينة لندن، وكل المدن البريطانية المدمرة الأخرى، سألهم ماذا عن [دار] القضاء؟ أجابوه: إنها المؤسسة الوحيدة التي لم يطلها التدمير خلال الحرب العالمية الثانية. فقال جملته الشهيرة: إذن بريطانيا بخير.

إذن ليبيا بخير؛ فنحن لا يتطرق إلينا شك في كون الأحكام القضائية التي صدرت يوم الثلاثاء الماضي، أحكام نزيهة، ونجاح جديد للقضاء الليبي في اختبار العدالة، وهي دليل على أن ليبيا يمكن أن تبني دولة ذات مصداقية إذا أتيح لأبنائها الحد الأدنى من الاستقرار، وأعطوا فرصة التحرك بدون ضغوط وإكراهات معيقة.

إن من أجرم في حق الشعب الليبي، وثبت جرمه بأدلة قاطعة يجب أن ينال جزاءه غير منقوص. هذا المبدأ لا نقاش فيه، ولا مساومة عليه، ولا خلاف فيه. الحديث والنقاش يبدأ عندما نأتي إلى التوقيت في تطبيقه. في بلد تتنازعه عوامل عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويعيش حالة انقسام تستخدم فيها كافة الأسلحة بين إخوة الوطن والدين والمذهب الواحد، يجب أن ينظر إلى الأمور من أكثر من زاوية، وتقاس بأكثر من ميزان.

إن تطبيق الأحكام التي أصدرها القضاء الليبي النزيه، والتي استوفت شروط التقاضي، والمحاكمة العادلة، والذي يعتبر عنوان الحقيقة، لربما يجب أن يأخذ في الحسبان الظروف والمعطيات الأمنية والاجتماعية والسياسية التي تعيشها البلاد، مع إيماني الكامل بأن تطبيق الأحكام هو جزء أصيل من استكمال العدالة.

تطبيق أحكام القضاء هو وسيلة لتقوية الدولة، وإظهار سلطتها، ومع ذلك يبقى وارداً جداً أن يكون العكس تماما؛ فما زال بيننا للأسف من يمكنه أن يحسن توظيفها سياسياً باصطياد مثل هذه اللحظات، ويركب موجة أي نوع من الخلاف، حتى ولو كان الخطأ بيناً، والخطر ماثلاً.

إننا هنا لا يمكن أن نتدخل في أحكام القضاء، ولا أن نطالب بتغيير وجهة العدالة، ولكننا يمكن أن ننادي بالتعقل والحكمة في التعاطي مع المسألة، خصوصاً حين تستكمل مراحل التقاضي النهائية فيها، ويصير أمرها إلى الجهة التي تقرر وقت التنفيذ، وتمضي قراره النهائي.

يمكن أيضا أن نوجه حديثنا إلى أولياء الحق من المعروفين الأحياء، بتذكيرهم بقول الله تعالى: “ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً”؛ فالله تعهد بنصرة ولي المقتول حتى يستوفي حقه؛ بالقصاص أو الدية أو العفو، وإن طال الأجل، ولكل أجل كتاب.

عندما تقوم الدولة وتستقر السلطة، وتتوحد الشرعية، ونستظل بظل القوانين والعدالة الجامعة، يكون إنجاز العدالة، وتنفيذ أحكام القضاء ركناً ركيناً من مركزية الدولة واحتكار العنف، فتهدأ النفوس ويكون ذلك أدعى للقبول بالأحكام وجدانياً، وتفسح المجال أمام مشاريع المصالحة والعفو في ظل أجواء بعيدة عن الانتقام والاستغلال من ذوي النفوس الخبيثة.

أما قبل هذا وذاك فيمكن لأي هزة أن تقضي على ما تبقى لدينا من أمل، وتقوض ما دفعنا في سبيله من تضحيات، وخيرات أرضنا، واستقرار وطننا. لا مفر من المواءمة بين إقامة العدل وإنصاف الضحايا، وما بين إنهاء الفرقة وإيقاف الظلم وتفادي المزيد من الضحايا وأهمية الإسراع بإقامة حلم الدولة وتفادي تأجيله لعقود.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا