طلب التدخل الأجنبي في الميزان: جدلية الفقهي والسياسي - عين ليبيا

من إعداد: عبدالرزاق العرادي

article1-1_10-8-2016

المتابع للتدافع السياسي ودور المؤسسات الإفتائية في المنطقة العربية عموما والليبية خصوصا يلاحظ أن قدرا من الارتباك الفكري والتردد السياسي الذي يعاني منه قطاع واسع من المتعلمين ناهيك عن العامة راجع إلى خلل في الفهم، وقصور في التصور في طبيعة العلاقة الحاكمة بين الاثنين أي التدافع السياسي ومؤسسات الإفتاء.

هذا الارتباك واضح من خلال التفاعل مع تدوينة لي على الفيسبوك أراد بعضهم أن يوظفها تشويها مقيتا وتحاملا دنيئا، وهي على كل حال مناسبة لكشف ما يلتبس على الناس من تلك الشؤون في مقاربة تتحرى الإنصاف، وتعترف لأهل الفضل بفضلهم فذلك الواجب المتعين.

المتأمل في طبيعة المقاصد السياسية في الإسلام يلاحظ أن وسائلها مبنية على التغير وعدم الثبات، وذلك راجع إلى قلة النصوص الشرعية في تفاصيلها، وندرة الأمور القطعية فيها؛ كما صرح بذلك إمام الحرمين في كتابه الغياثي حين قال: “ولا مطمع في وجدان نص من كتاب الله تعالى في تفاصيل الإمامة، والخبر المتواتر معوز أيضا؛ فآل مآل الطلب في تصحيح المذهب إلى الإجماع”[1]، هذا إمام من أئمة المسلمين الذين اعتنوا بقضية السياسة والإمامة في الإسلام يصرح أن النصوص القطعية التي تحكم الشأن السياسي قليلة جدا في الوحي كتابا وسنة.

من هنا نصل إلى أن بعضا من البيانات المتعلقة بشأن من شؤون السياسة وتقدير الأصلح والأصوب فيها، والتي تصدر من الهيئات الإفتائية قد تحمل طابع الموقف السياسي أكثر من الرؤية الفقهية، وذلك بسبب اختلاف قدرات الناس الإدراكية ومدى استيعابهم لمجريات الأمور والمؤثرات فيها، وقد نأخذ مثالا على ذلك توضيحيا، يعين القارئ على استيعاب هذا التداخل، وهو مثال لا تزال أصداؤها الخلافية حية، وهو الموقف من قصف الطائرات الأجنبية للغلاة أو الدواعش لكف ضررهم، والقضاء عليهم.

مركز البحوث والدراسات الشرعية مثلا لا يرى جواز ذلك الآن رغم أن شيخنا المفتي، حفظه الله، رأى جواز تدخل قوات حلف الشمال الأطلسي لكف ضرر القذافي، وكبح كتائبه ومرتزقته، وحين نحرر محل التنازع ندرك أن من يدعم قصف الغلاة بالطائرات الأجنبية ليس بسبب جهله للنصوص الشرعية التي يسوقها المانعون بل لأنه يرى أيضاً، أن الأمر تتحكم فيه الضرورة وطبيعة الصراع، كما أن من أجاز ضرب الطاغية وكتائبه من لدن حلف الناتو ما كانت تغيب عنه هذه النصوص ولا يجهلها، فالمدار في المسألة ليس على النصوص الشرعية وإيرادها بل على تقدير الواقع وتوقعاته.

الواقع هنا تتحكم فيه الضرورة؛ إذ أصل الحكم وتقريره في حالة الرخاء مفروغ منه عقلا وشرعا وممارسة، لكن الضرورة وإكراهاتها هي التي تتحكم في الحكم هنا، ولذا نجد أن الشيخ المفتي، حفظه الله، مثلا في حلقة الإسلام والحياة يوم 3 أغسطس الجاري يقرر أن “الاستعانة بغير المسلمين في قتال بين المسلمين لا يجوز إلا إذا دعت إليه الضرورة”.

هذه الضرورة اتفق عليها الجميع أيام القذافي، واختلف الناس الآن في تقديرها، فالبيان الصادر من مركز البحوث والدراسات الشرعية؛ المتعلق بالمثال المناقش في تقديري الشخصي المتواضع، أقرب إلى بيان سياسي منه إلى حكم فقهي، وذلك حين نتأمل حلقة الإسلام والحياة التي تناول فيها الشيخ هذه المسألة ندرك أن المفتي حفظه الله انطلق من مبدأ معين، وهو عدم وجود ضرورة الآن للاستعانة بالأجنبي من أجل دحر الخوارج، وعلى هذا الأساس كانت كل الأدلة الشرعية والتقديرية تصب في هذا الاتجاه، وهي أدلة يمكن أن يناقشها من يرى وجود الضرورة.

الشيخ الصادق مفتي الديار، في حلقة الإسلام والحياة المذكورة، يرى أن من دواعي الاستعانة بحلف الشمال الأطلسي على نظام القذافي كونه أي “القذافي كان يعاند الدين ويستهزئ بالشرع وخرج بقوة ضاربة؛ والناس يريدون رفع الظلم عنهم؛ وهم عزل؛ فالضرورة كانت واضحة؛ وإن لم تكن هذه ضرورة فليست هناك ضرورة”.

أما من يرى جواز الاستعانة الآن يقول إن الخوارج أيضا خارجون من الدين بنص الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنهم أي الخوارج “يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”[2]، كما أن ضررهم يتزايد بسبب العتاد الذي استولوا عليه والطريقة الوحشية التي بها يستهدفون الأبرياء كما أن الإصابات في صف الثوار كثيرة جدا بسبب تحصن العدو وشراسته ووحشيته، وبسبب كثرة الأعداء المنتشرين في ربوع ليبيا، ولا يعني هذا أن الغرب رحيم بنا، قبل تدخلهم لردع القذافي أو بعد اندحار الخوارج.

المعركة ليست معركة الليبيين وحدهم، ولكنها معركة مشتركة، لعدو مشترك، كما يهددنا يهددهم، وثمار ذلك يجنيها هم ونحن، إذا اتصفنا بالحكمة السياسية وحسن التصرف وانتهاز الفرص مع رص الصفوف واليقظة المستمرة.

خلاصة القول إنه ينبغي أن يعي الناس الفرق بين الرأي الفقهي الذي يصدره أهل الاختصاص مجردا من عوامل أخرى، وبين البيان السياسي الذي يلعب فيه التصور الواقعي الدور الحاسم.

ولله الامر من قبل ومن بعد.

 

[su_divider top=”no” size=”1″]

[1]– الغياثي ـ أمام الحرمين الجوبني ـ ص61.

[2]http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?flag=1&bk_no=10&ID=5628



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا