عبد الله و جاره، قصة قصيرة مهداة لأبطال سجن أبو سليم الشهداء و الأحياء - عين ليبيا

من إعداد: خليل الكوافي

عبد الله شاب يشهد له الجميع بحسن الخلق من عائلة كريمة و هادئة و أصلها طيب، أبناؤها هم محور الحياة و مركز الاهتمام، كانت نشأتهم دينية قرآنية تحصينا لهم من رفاق السوء و من شياطين الإنس، كان عبد الله يتحصل كل عام على أعلى الدرجات و في الثانوية العامة حصل على تقديرات عالية تتويجا لجهوده و مثابرته في التحصيل و الاستذكار مكنته بكل سهولة من الانتساب لكلية الطب، جار عبد الله و الذي تسكن عائلته في بيت تم تخصيصه لهم بعد اغتصابه من ملاكه تمكن على الرغم من تقديره الضعيف الذي تحصل عليه بالغش من أن يلتحق أيضا بكلية الطب بعد تدخل أبيه و هو أمين المؤتمر الشعبي في منطقتهم و عضو اللجان الثورية الفعال.

مضت الأيام بعبد الله لم يفارقه فيها الجد و الاجتهاد حتى وصل إلى السنة النهائية تماما مثل جاره الذي وصل إليها أيضا بطريقته رغم انشغاله عن مقاعد الدرس لارتباطه بتكليفات ونشاطات اللجنة الطلابية التي التحق بها منذ أول يوم وطئت فيه قدمه الحرم الجامعي ثم أصبح بعد ذلك أمينا لها.

و قبل الامتحانات النهائية بأيام لم يعد عبد الله من الجامعة و هو المعتاد على الرجوع إلى البيت مباشرة بعد انتهائه من المحاضرات، فذهب والده الملتاع باحثا عنه في المستشفيات و مراكز الشرطة دون جدوى مشفقا على رفيقة دربه من الحزن و الخوف على فلذة كبدها، و بعد أيام قليلة و في جوف الليل الهادئ إلا من صوت بكاء أم عبد الله، أحيط منزل الأسرة بسيارات كثيرة تحمل مخلوقات متوحشة مسلحة متجردة من الأخلاق لا تعرف الرحمة، انتهكت حرمة المنزل وعاثت فيه فسادا و تحطيما، و بعد أن لاحت تباشير الصباح غادرت هذه المخلوقات العنيفة المرعبة المنزل بعد أن روعت النساء و أخافت الأطفال و أهانت الرجال آخذة معها كل ما يخص عبد الله و لم يفُتها أن تأخذ معها كذلك كل مدخرات الأسرة، كانت ليلة عصيبة على أسرة عبد الله ستبقى تفاصيلها محفورة في ذاكرتهم و ستصاحبهم ذكراها إلى الأبد، إلا أنهم بعد تلك الليلة الليلاء أصبحوا يعرفون على الأقل من أخذ عبد الله.

انقلبت حياة أسرة عبد الله رأسا على عقب و لم تعد أبدا كما كانت و بدأت رحلتهم مع المعاناة و مع الخوف من المجهول و مع معاملتهم و كأنهم يحملون عدوى جرثومية تصيب من يزورهم أو يصافحهم أو يلقي عليهم السلام و بدأ رب الأسرة الذي لا يقول إلا صدقا في الكذب على زوجته لأول مرة منذ زواجهما، فتارة يقول لها أنه اطمئن على عبد الله عبر صديقه الذي له قريب يعمل في جهاز أمني و تارة أخرى يدّعي أن عبد الله أرسل لها السلام ويطالبها ألا تحزن عليه فهو بخير حال و إن اشتد بها الحزن يخبرها أنه علم أن عبد الله سيطلق سراحه قريبا فهم لم يجدوا ما يدينه، و استمر الأب في إخبار الأم بأخبار مطمئنة مع أنه كلما ذهب إلى مبنى أحد الأجهزة الأمنية ليحاول معرفة مكان عبد الله و ليطلب زيارته يكون نصيبه الشتم و الإهانة و الاستهزاء بل و التهجم عليه أحيانا، و ضاق الحال بالأسرة بعد أن تم طرد الأب من العمل و حصار باقي أفرادها في معيشتهم و دراستهم و حرمانهم من أي وثيقة رسمية يحتاجونها، و مضت بهم الحياة ثقيلة متثاقلة، تغير فيها كل ما اعتادوا عليه،حياة شديدة الوطأة خاصة بعد مرض أم عبد الله جراء حزنها العميق فهي لم تر ابنها منذ ثلاثة عشر سنة، أجبرت الأسرة على بيع منزلها للبدء في رحلة علاج طالت و انتهت بوفاة أمهم بعد أن تمكن المرض اللعين و الأحزان من جسدها الضعيف.
أما جار عبد الله فقد تحصل على شهادة التخرج بعد مرور شهور قليلة من القبض على عبد الله و أمضى سنة الامتياز ثم عين معيدا في القسم و تحصل مباشرة على منحة دراسية من الدولة و أوفد لدراسة الماجستير و الدكتوراه في بريطانيا ترافقه زوجته التي دبر لها منحة هي الأخرى و قام بتأجير بيته الذي بناه له أبوه في أرض خصصت لهم من أملاك الغير كعادتهم، و بعد أن أمضى احدى عشر سنة في الخارج عاد إلى ليبيا مع زوجته و أولاده الخمسة أي في نفس سنة وفاة أم عبد الله و تم تكليفه بمنصب في الجامعة.

لم يأكل عبد الله مع زملائه الذين يشاركونه الزنزانة الضيقة التي لا تتسع لربع عددهم من الوجبة التي أعطيت لهم و أرفقت بسب و لعن من السجان الذي أحضرها ، ليس لأنها باردة و موضوعة في طبق متسخ و طعمها غير مستساغ فهذه أشياء هينة و يمكن تجاوزها مقارنة بالصعق بالكهرباء و الضرب المبرح و تكسير الأسنان و الإيهام بالغرق و انتهاك الأعراض و التجريد من الملابس و الحرق بأعقاب السجائر و وضع الخنفساء في السرة و الإهانات النفسية المذلة، كما أن الوجبة على أي حال أفضل من برازه الذي أجبر على لعقه في احدى حفلات التعذيب المستمرة منذ أن قبض عليه منذ خمسة عشر عاما، تلك الحفلات التي يحرص الجلادون على القيام بها كل فترة ليضمنوا استمرار السيطرة المعنوية على كل من وقع بين أيديهم، كان سبب عزوف عبد الله عن الطعام هو أنه و منذ إصابته بالسل الرئوي المنتشر بين السجناء لم يعد لديه شهية و أي شهية تأتي للمرء في مثل هذا المكان، أغمض عبد الله عينيه و تذكر طعام أمه الطيب و أحس كأنه يأكل منه و لم يخرجه من أحلام اليقظة و يعيده إلى واقعه سوى سعاله العنيف الذي كاد أن يفتك به.

عشرون عاما مضت منذ اعتقاله و أخيرا قرر سجانوه أن يطلقوا سراح عبد الله، خرج فوجد أخويه الصغيرين في انتظاره ، سألهما عن والده فأخبراه أنه توفى بعد وفاة والدته بعام واحد، فطلب أن يذهب إلى قبرهما و أخذ يبكي لساعات و يدعو لهما طالبا منهما أن يسامحاه على ما لم يرتكبه، ثم أخذه أخواه ليرى باقي أفراد الأسرة و ليتعرف على من ولد منهم بعد سجنه.

منذ خروجه من السجن ، لا يخرج عبد الله من البيت إلا لضرورة و كأنه تعود على البقاء بين أربع جدران كما أنه يحتاج إلى الراحة و إلى التفكير في مستقبله و الأسئلة تدور في عقله تفرض نفسها، هل يكمل دراسته هل ستقبله إدارة الكلية و إذا قبلوه هل سيقبله المجتمع كطبيب شعره أبيض و تجاعيد وجهه غائرة و معلوماته الطبية مثل معلومات طبيب صغير السن حديث التخرج، هل يناسبه العمل الحر وما هو المجال الأنسب له و من أين له المال الكافي لبدء مشروع صغير يغنيه عن حرج مشاركة أخوته في أرزاقهم، هل يتزوج أم يؤجل الفكرة و كيف سيدبر مصاريف الزواج و ثمن شقة صغيرة تضمه و زوجته.

ثار الشعب الليبي ضد الطغيان، فلبى عبد الله نداء الوطن مرابطا في الجبهات الأمامية يصاحبه غالبية من شاركه أيام المحنة في المعتقل يقودون مجموعات من الشباب الثائر الشجاع في ميدان القتال، سقط الصنم و اختار الله من أراد له شرف الشهادة و عاد الباقون و منهم عبد الله ليشاركوا الناس فرحتهم و احتفالاتهم و أملهم في غد مشرق، و في احدى هذه الاحتفالات شاهد عبد الله جاره القديم متشحا بعلم الاستقلال يلقي خطبة عصماء عن الثورة و الثوار مسهبا في الحديث عن دوره الكبير في دعم الثوار و مساندتهم شارحا بالتفصيل برنامجه الانتخابي، و بعد أن فرغ جار عبد الله من إلقاء كلمته تحلق حوله عدد من الثوار المسلحين ينظرون إليه بإعجاب، و في نهاية الاحتفال مر و من معه من الثوار بجوار عبد الله فعرِفه و سلم عليه بحرارة و قال له يا عبد الله يا جاري العزيز تخلصنا من الطاغية المقبور و من أزلامه و من حكم الفرد و علينا أن نبني ليبيا الديمقراطية و هذا رقم هاتفي لا تتردد في الاتصال بي إذا ما احتجت شيئا ثم انطلق مستقلا سيارته الفخمة.

اتجه عبد الله إلى بيت عائلته مشيا على الأقدام فهو لا يمتلك سيارة و لأن المسافة التي قطعها بين مكان الاحتفال و المنزل كانت بعيدة شعر بالجوع، دلف عبد الله إلى المنزل و فتح التلفزيون ليجد معلقا يرتدي بدلة غالية الثمن و تبدو على وجهه آثار التنعم يصرخ بصوت عالٍ قائلا ” ما هذه السخافة وهذه التفاهة و عدم الوطنية و عدم المسئولية يريدون أن يعوضوا السجناء السياسيين عن فترة سجنهم، مبدأ تعويض السجناء غير مقبول كلنا كنا مسجونين في سجن كبير في عهد الطاغية، كلنا عانينا كلنا دفعنا الثمن، لو كنا نعرف أن الدولة ستدفع تعويضات كان الشعب كله اختار أن يسجن، نحن لم نقل لهم عارضوا هم اختاروا أن يعارضوا، هذه خيانة للوطن و الوطنية ثمنها ليس المال الوطنية أكبر من كل شيء و شرف الوطنية لا يقاس بالمال، القذافي سجنهم و نحن ندفع لهم هذا ليس عدلا فليدفع لهم من ظلمهم…..” و قبل أن يكمل المعلق كلامه أقفل عبد الله التلفزيون ، ازداد شعوره بالجوع فأغمض عينيه مثلما كان يفعل في سنين سجنه الطويلة و تذكر طعام أمه الرائع الذي أنساه أنه لم يأكل شيئا منذ الصباح.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا