فقه التوازن في الحكم على مقتل الطاغية “القذافي” - عين ليبيا

من إعداد: د. إبراهيم التركاوي

عجبت لمن يريد أن يصرف الناس عن عجائب القدرة الإلهية في مهلك الطغاة، ونهايتهم الحتمية، ويحاول جاهدا -عمدا أو سهوا- تشويه سمعة الثوار الشرفاء الأحرار، ووصمهم بالوحشية والهمجية لبعض تجاوزات قام بها فرد أو أفراد في مقتل الطاغية القذافي -التي لم تتأكد بعد، وقد تضاربت فيها الأقوال- ونحن لا نقرها ولا يقرها الإسلام، إن حدثت.

لكن، أما كان أولي أن ننظر لبعض هذه التجاوزات – إن حدثت من بعض أفراد – في ضوء ما حدث لهم من قتل وتشريد، وسجن وتعذيب، وفقر وتجويع، وجهل وتغييب عن الوجود في أكثر من أربعة عقود؟!!

فالذين يتشدقون بالقول، ويصبون جام غضبهم -وهم منعمون في رحالهم- على الثوار الشرفاء الأحرار، نتوجه إليهم ببعض الأسئلة:

هل اغتصبت لهم أم أو أخت، كما اغتصبت بعض نساء الثوار الشرفاء؟!

هل قتل لهم أخ أو أخوان أو ثلاثة أو جميع من في البيت، كما قتل للثوار؟!

هل هدمت لهم بيوت وخربت لهم ديار، كما فعل بالثوار؟!

هل ضربوا بالدبابات والمدافع والقنابل والطائرات، كما ضرب الثوار؟!

هل ظلوا في العراء طيلة ثمانية أشهر يواجهون الظلم والتعسف والعناد المصحوب بأقسى آلات القهر والقمع والقتل، كما ظل الثوار؟!

هل نظروا إلى مقتل خمسين ألف شاب من خيرة الشباب، فضلا عن أعداد لا حصر لها من المفقودين لا يعرف لهم مصير؟!

وهل، وهل.. من جرائم لا حصر لها؟!

لماذا يغض الطرف عن هذا كله؟!!

أما كان أجدر بنا وبإخواننا -الذين صبوا جام غضبهم على الثوار- أن نلفت النظر إلى إنسانية الثوار الأحرار في منح عشرات الفرص في العفو عن الطاغية، وخروجه دون ملاحقة، في مقابل الكف عن القتال وحقن الدماء؟!

لماذا لا نشيد بأخلاق الثوار وإنسانيتهم في تريثهم وعدم التسرع في تحرير من بقي من المدن -حتى فر من فر وهرب من هرب- حرصا منهم علي سلامة أهلها..؟!

لماذا نلوم الضحية التي كادت أن تفقد وعيها، من جراء ما حدث لها، وننسي -عن عمد أو سهو- للجلاد جرائمه الوحشية البشعة التي فاقت كل حد وتجاوزت وطنه حتى طالت الإنسانية كلها؟!!!

وأود لنفسي ولإخواني عدة أمور لا غنى عنها للحكم على أي حدث:

– ألا ينظر إلى الحدث بمعزل عن أسبابه ودوافعه ولا عن ظروفه وملابساته.

– أن يُقرأ قراءة جيدة في ضوء ما سبق من ربط النتائج بمقدماتها وبالأسباب التي أدت إليها.

– أن ننزل النفس منزلة الغير فيما عاناه وآلمه، وتجرع غصصه، وذاق ويلاته.

– أن نستقصي الأدلة الشرعية الخاصة بالحدث، مع مراعاة فقه تنزيل النص على واقعه.

وفي ضوء ما سبق نسوق الأدلة التالية:

لقد فرق القرآن بين مجرمي الحرب -الذين عاثوا في الأرض فسادا، وأهلكوا الحرث والنسل والذين يجب استئصال شأفتهم- وأسري الحرب الذين توافرت النصوص في رعايتهم وإطعامهم وحسن معاملاتهم…! (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الأنفال٦٧

وفي فتح مكة أصدر الرسول صلي الله على وسلم عفوه الشامل عن أهل مكة في قولته المشهورة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، إلا أنه أهدر دم نفر سماهم وإن وجُدوا تحت أستار الكعبة، وذلك لشدة عنادهم، وشناعة جرمهم في الإيذاء والقتل!

ولقد نهي الله عن السوء والجهر به، لكنه -عز وجل- استثني الجهر بالسوء لمن ُظُلم.! (لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) النساء١٤٨

أضع هذا بين يدي إخواني وأحبتي ليس دفاعا عن خطأ لا يقره الإسلام ولا نقره -معاذ الله- ولكن لنتعلم -وأنا أولهم- فقه التوازن، وفقه أصول الاستدلال، وأصول الأحكام.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا