قبل حزب الله … مشروع الشيعة الوطني

المقال خلاصة من بحث سعود المولى ‘ المسار والمصير: سياقات حزب الله’ ضمن كتاب 15 ‘حزب الله’ (مارس 2008) الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

كان لبنانياً صرفاً
كان لبنانياً صرفاً

صاغ الإمامان موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين مشروعاً إسلامياً ووطنياً وإنسانياً للمسلمين الشيعة اللبنانيين، كانت هذه خطوطه الناظمة:

أ- وحدة المسلمين الشيعة في لبنان انطلاقاً من أن التشيّع هو حركة صادقة منضبطة بموازين الشرع؛ وعلى قاعدة التوحيد والعدل والحق، منفتحة على تغيّرات العصر وتطورات الزمان والمكان، لا دوغمائية متحجرة ولا إيديولوجية شمولية، ولا مؤسسة منغلقة تقوم على المصالح الذاتية أو الخاصة، أو على الحسابات السياسية النفعية أو على تقاسم النفوذ والمغانم أو على التعصب المذهبي والتوتير المناطقي والانعزال عن الآخر الشريك في الوطن، أو الانطواء على الذات واجترار الماضي، أو الانكفاء على المكتسبات وعن المشاركة وعن الاندماج الوطني أو الاستقواء والغلبة والتعالي والاستئثار. ولا بالتأكيد على تبعية عمياء لمركز شيعي خارجي سواء أكان في إيران أم في غيرها.

ب- وحدة المسلمين اللبنانيين ضمن الإسلام بمختلف مذاهبه وذلك أيضاً على قاعدة التوحيد والعدل والحق وعلى أسس الحرية والكرامة والمساواة والاندماج والتكامل والتعاون.

ج- وحدة اللبنانيين جميعاً وإطلاق الحوار الإيجابي البنّاء مع الشركاء في الوطن، إذ إن وحدة الشيعة ووحدة المسلمين خطوة ناقصة إذا لم تقترن بوحدة اللبنانيين لبناء وطن حقيقي ودولة عادلة: “فليس الخطر في تعدد الطوائف بل في تحول التعدد إلى سلبية. إن من يظن أن وجود الطوائف في لبنان هو من أسباب ضعف الإحساس الوطني والقومي فقد ينظر إلى هذا الأمر من خلال زاوية ضيقة. بل الطوائف المختلفة المنظمة منطلقات للتعاون ونوافذ حضارية على مكاسب لمليارات البشر في هذا العصر وفي العصور الماضية”.

وتأسيساً على خطوط العمل الثلاثة المذكورة أعلاه صاغ الإمامان مرتكزات المشروع الوطني التالية:

1- حماية استقلال لبنان وسيادته ووحدته واحترام حقيقة كونه وطناً نهائياً لجميع بنيه، والحفاظ على العيش المشترك والحوار الدائم بين طوائفه.

2- حماية الديموقراطية اللبنانية القائمة على أساس التوازن والتوافق والمشاركة، وعلى قاعدة صون الحريات الخاصة والعامة.

3- حماية المواطَنية السليمة أي مساواة الأفراد في دولة تقوم على القانون والمؤسسات، إلى جانب التعددية والخصوصية الطائفية.

4- حماية هوية لبنان وانتمائه العربي في إطار علاقات الأخوة والتعاون والتضامن، وضمن الأطر والمنظمات العربية والإسلامية والدولية، وخصوصاً مع الشقيقة سوريا.

5- حماية الإجماع حول مقاومة الاحتلال والعدوان الإسرائيلي وإخراج هذا الإجماع من التجاذبات السياسية ومن المزايدات الصبيانية.

6- العمل على المشاركة في تدعيم القضايا العربية والإسلامية مع الحرص التام على أمن وسلامة واستقرار وسيادة لبنان.

7- عدم الانجرار وراء دعوات الاستقواء والغلبة أو الاستنفار والتعبئة أو الرد بالمثل حتى ولو على أبشع أنواع الاعتداءات والمجازر.

8- محاربة سياسات التقسيم والإدارات المحلية الطائفية والأصولية الدينية كما العلمانية الشاملة، ليس بالنكايات أو العصبيات وإنما بالعمل الإصلاحي.

9- إعادة الاعتبار للقيم والأخلاق وللرشد والحكمة، وللتوازن والتعقل، وللعدل والكرامة، في العمل السياسي والاجتماعي باعتبار أن ذلك جزء من الرسالة الدينية. فالدين كان لأجل الإنسان وليس العكس.

10- عدم الانجرار وراء الكسب الحزبي أو المذهبي أو السياسي أو إلى الجماهيرية والشعبوية الرخيصة على حساب مصالح الوطن والشعب.

إن هذا المشروع التاريخي هو الذي سمح للإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين ببلورة التيار الوطني الإسلامي الشيعي اللبناني، المعتدل، المستنير، الحضاري. وسمح لهما بالتالي باستنهاض “كل العناصر الإيجابية في الوطن لبلورة المشروع الوطني العربي الإسلامي الإنساني لشيعة لبنان: مشروع الحوار والمصالحة والسلم الأهلي والوطن النهائي ضمن العدالة والكرامة والمساواة بين الجميع ومن أجل الجميع.

في يوليو (تموز) 1975 أعلن الإمام السيد موسى الصدر عن تشكيل “أفواج المقاومة اللبنانية”، كوسيلة لتوجيه الأنظار نحو الجنوب ولإعطاء بعد لبناني وطني للصراع في الجنوب، يسمح في مرحلة تالية بطرح ضرورة أن يكون قرار الجنوب لبنانياً، وذلك بعد أن فشل (هو وغيره) في كل محاولاته لوقف الحرب الأهلية (من نداءات إنسانية ووطنية، إلى قمم روحية، إلى اعتصام العاملية، إلى اعتكاف في بعلبك، إلى جولات عربية… الخ)، إذ لقيت مبادرة الإمام تجاوباً شعبياً شيعياً كبيراً، وكان الشيعة قد بدأوا يضيقون بالسلطة الفلسطينية/الوطنية المشتركة، وبالأمن الشعبي والإدارة الذاتية والتجاوزات المختلفة، ولكن أيضاً وأساساً بالغموض حول مصيرهم وحول آفاق معاناتهم.

وليس هنا المجال لشرح الأبعاد السوسيولوجية لظاهرة حركة “المحرومين” وأفواج المقاومة ولأسباب تحولها السريع إلى قوة قائدة للشيعة على حساب اليسار والفلسطينيين، ولكن يمكن فقط أن نسجل هنا سرعة الاصطفاف الشيعي حولها، ثم الصدامات المعروفة طوال الأعوام 1978- 1982 بين الحركة الجديدة وأحزاب اليسار والفلسطينيين، والتي كانت ممهدة فعلياً للاجتياح. لا بل إنني أزعم أن الحالة التي أسسها الإمام الصدر، ومشروعه اللبناني التوحيدي، وبالتحديد مشروعه حول الجنوب وضرورة انخراط المقاومة فيه ضمن إطار استراتيجية عربية من جهة، وضمن إطار الشرعية اللبنانية من جهة أخرى، هي السبب الوحيد لاختطافه وتغييبه منذ 31 أغسطس (آب) 1978.

كان التوجه العام للتحرك الذي قاده الصدر ولبنانيو فتح يستهدف بناء مقاومة لبنانية فعلية في الجنوب، وتوجيه كل البنادق نحو العدو الصهيوني باعتبار ذلك هو الطريق الوحيد للخروج من الفتنة الداخلية، ووقف الحرب الأهلية المدمرة، ولإعادة بناء علاقات لبنانية/فلسطينية سليمة ومعافاة، و”مميزة” -لعل الذكرى تنفع هنا- ثم تمحور هذا العمل حول ضرورة إنجاح التسوية السلمية اللبنانية التي نتجت عن مؤتمري القاهرة والرياض، والتي كان الإمام الصدر هو عرَّابها وراعيها (طائف لبناني/عربي/دولي أول لم يستمر بسبب انهيار الوضع العربي بعد زيارة السادات للقدس).

ويمكن القول هنا إنه لم يكن من مصلحة أحد وجود مقاومة لبنانية مستقلة، باستثناء الإمام الصدر، ومن وافقه من اللبنانيين الذين التفوا حوله في بيان الـ77 مثقفاً، أبرزهم غسان تويني والمرحوم الأب يواكيم مبارك، والمرحوم الأب ميشال حايك. فالجنوب كان ضمن لعبة دولية كبرى بين الجبارين، موسكو وواشنطن، خصوصاً بعد انهيار الوجود الأميركي في فيتنام وكمبوديا وفي إثيوبيا وأنغولا. وضمن لعبة عربية كبرى، خصوصاً مع تصاعد الدور الليبي والجزائري والعراقي إلى جانب السوري بعد زيارة الرئيس السادات للقدس. وينبغي فهم هذه الحقائق لكي نفهم أسرار اختطاف وتغييب الإمام الصدر.

اقترح تصحيحاً

اترك تعليقاً