قفزات شعب 218 - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

في غياب دستور جامع أو ميثاق محترم أو مشروع وطني شامل يُبدد الظلام عن الأزمة الليبية الخانقة يتحول المشهد الليبي إلى مسرح لجوقات شدر مدر، تدافع عن مصالحها الفردية والفئوية ويُجند لها دهالقة ينخرون في عظام الأمة، ولكل منهم قفزات عشوائية في الهواء لكسب جموع المغفلين من العوام، هذه القفزات يتم استعراضها دون استحياء، عند شعب ابتلع الغث لسنوات عديدة حتى استمرأ إطاعة الطواغيت وعبادة الأصنام الحية.

القفزة الأولى هي الاعتماد على المبعوث الدولي للوصول إلى حل، وأخرهم كان أشدهم مراوغة، فهو كبيرهم الذي علمهم القفز؛ تكلم عن الطيران الأجنبي المهاجم دهراً، وهدد بدخول حفتر لطرابلس مرات ومرات، وقام بترويض الرئاسي لتسليم الجنوب لحفتر بل الوصول إلى بضعة كيلومترات من مقر تواجده، ولم يذكر دول العدوان إلا بعد أن سئم العالم من تصريحاته المكررة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد قدم المشورة لعدم التسليح وعدم صد العدوان وزرع دمى حفتر والجماهيرية في الحكومة، عند مجلس يتمسك به الليبيون من أجل الوصول إلى حافة الشاطئ.

وأخيراً حدد دخول حفتر للعاصمة يوم عشرة ثم اثني عشرة أو قبل نهاية الشهر في عملية تشويش وخلق بلبلة من أجل هدم الجبهة الداخلية وإيجاد قبول للعدوان.

في حقيقة الأمر لن يحدث ذلك؛ فالحرب أوزان وأرقام وليس فرقعات إعلامية، أي أن مجموعة من المرتزقة أي كان عددها لا تستطيع إسقاط مدينة بثلاثة مليون ساكن ومجموعات مسلحة ضاربة، وهو ما اقتنع به أخيرا تقرير الخبراء التابع لهيئة الأمم.

وإذا كانت بنغازي 2014 هي بنغازي 1969، فإن طرابلس تعيش زمن 2019 بزخم ثوراته ورفضه للاستبداد من أي جهة.

القفزة الثانية هو ما يقوم به أفاقي مجلس نواب طبرق ورئيسهم من تجييش جامعة عربية فاشلة لتشكيل حكومة عميلة، فشر البلية ما يضحك، فهل الحكومات تصاغ في مجلس نواب مهترئ أو في عواصم الاستبداد؟ ليس هذا فقط بل الجوقات معاضة لإحقاق الحق الليبي في الجرف القاري المغتصب من اليونان، كيف يتصور الليبي أن رئيس مجلس النواب ذاهبا إلى أثينا يدعمهم في اغتصاب أرض بلده وفي طرد سفيره والتآمر على وطنه، وبالمثل وزير خارجية المؤقتة عندما يستنجد بالصهاينة لتدريب المرتزقة على حرب الشوارع في بلده، وتمني الاعتراف بهم حالما نجاح اللامعقول في الوصول للسلطة.

أم القفزات من الدرجة الثانية فهي تجاوز الجغرافيا في الهيكلية الإدارية للدولة، كأن تعلن مديريات أمن ومجالس عسكرية وبلديات غرب طرابلس تبعيتها للمؤقتة، وهو تمرد وانفصال مسئولين وليس الشعب المغلوب على أمره، وتبعا للقانون العسكري وقانون العقوبات تلك القفزات تمرد على الدولة يستوجب الملاحقة القانونية، بل الخيانة العظمى، بغض النظر عن ضعف حكومة الوفاق وسيولة الوضع الذي شجع على ذلك، ولكنه يدل على مستوى التفكير عند هذه القيادات التي سلم سكان تلك المدن رقابهم لها، فزُج بأبنائهم في السجون كأسرى تارة وأدخلوا مدنهم في صراع مناطقي أو أيديولوجي مستورد تارة أخرى، يذكرنا هذا الحال بإقليم ناجورنو كراباخ الذي أصبح بؤرة صراع وحروب في أسيا الوسطى وإقليم غزة المحاصر،، لا شك أن نهم المسئولين المادي أو السلطوي ووهن الحكومة ساعد على بروز هكذا تشظي.

القفزة الأخرى ما قامت به نقابة المعلمين وأساتذة الجامعات من تعطيل التدريس وتأخير العملية التعليمية بمطالب مشروعة ولكن غير واقعية، وفي غير زمانها ولا أسلوب تنفيذها، فزيادة مرتبات التعليم تحتاج إلى هيكلة الكادر الوظيفي لوزارة التعليم وتطبيق معايير الأداء، والتأمين الصحي برنامج لم ينجح في الكثير من القطاعات الليبية حتى في الشركات الصغيرة لعدة أسباب، للأسف لازالت العديد من الكليات الجامعية مغلقة من أساتذة نعتبرهم نخبة الوطن وذروة سنام متعلميها، وهم من أُنصفوا قبل غيرهم في العهد السابق بسبب وجود وزيراً منهم، وفُتحت لهم أبواب التعاون شرقا وغربا، وأوقفت ضريبة الدخل عن مداخيلهم ولم توضع قيود علمية على ترقيتهم فأصبح لنا (بروفيسورس) بالآلاف وأساتذة مساعدين أكثر من ذلك، ولكن الإنتاجية متدنية.

القفزة الأخيرة إحياء قرار القذافي العنصري رقم 24 لسنة 1369و 2010م من مصلحة الأحوال المدنية بخصوص عدم استعمال أو تسجيل الأسماء غير العربية، هذا القرار منافي لدستور الاستقلال وللمادة الأولى من الإعلان الدستوري، وقد تم إلغاء هذا القرار بقرار مجلس الأحوال المدنية رقم 5 لسنة 2013م، ولكن مصلحة الأحوال المدنية كوريثه شرعية للنهج القومجي المتخلف، والمناهضة للتنوع الثقافي، أوعزت إلى إدارتها القانونية بنشر تعميم إلى مدراء فروعها بتاريخ الفاتح من سبتمبر 2019 بإحالة قائمة بأسماء غير عربية يمنع التسمية بها والتي تم تجهيزها من مجمع اللغة العربية الليبية بتاريخ 11 يونيو 2019م مفادها لن يتم تسجيل المواليد الموجودة بالقائمة إلا بموافقة رسمية من المجالس المحلية.

أعقب ذلك صدور تعميم من وصفي الواعر رئيس قسم الشئون الإدارية والمالية بإدارة المصلحة إلى مكاتب المنطقة الغربية يعيد فيه إحياء قرار القذافي رقم 24 لسنة 2001 السيء السمعة، وأن من يخالف ذلك يتعرض لغرامة قدرها ألف دينار.

ما هذه الترهات وما هذه الخزعبلات، هل يُصدق في القرن الواحد والعشرين أن مؤسسة عامة تفرض على شعبها أسماء لا علاقة لهم بها، وما دخل الدولة في الحريات الخاصة المكفولة من أصالة الشعوب والقوانين والأعراف الدولية، ولماذا مجمع اللغة العربية والشئون القانونية والإدارية واختيار الفاتح من سبتمبر موعدا لصدور القرار، نعم إنها قفزات رجعية مقززة تزيد من الشرخ الاجتماعي في وقت يسطر الأمازيغ ملاحم البطولة في الدفاع عن العاصمة فيرد عليهم السوس بهكذا قرارات مخلة، بالمقابل يستقبل حفتر ثلة من الأمازيغ اليائسين من قومجية الحكومة، بالتهليل والتبجيل بل بالموافقة على كل حقوقهم المشروعة، وتفتح لهم الإذاعات وبيوتات القبائل تشريفا لهم.

أخيراً الغبش الذي يسود القوى القبلية ودهالقة الدفع المسبق من داعموا الكرامة بأن قطر وتركيا هم من أفسد المشهد الليبي! والواضح أن دول الاستبداد هم من قصف المدن والمطارات ووفر المال والأسلحة والمرتزقة بلا عقود ولا شرعية، وشرد آلاف الليبيين، في حين لم تقوم بذلك قطر وتركيا، والأسلحة الدفاعية كانت بعقود أمام العالم، ولم نرى تركي يقصف بنغازي أو درنة أو ترهونة، فهل لنا أن نتدبر قول الله تعالى:  قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. 

من الواضح أن تركة التأخر الثقافي كبيرة ومستمرة في مفعولها، وتصدر الشأن العام ممن لا يفكر يوما إلا في مرتب ورغيف الخبز لن يكون رائداً للتغيير أو حتى متبني له، ولذا فمؤسسات الدولة تحتاج إلى غربلة من الشعب نفسه، وهو في طور تترسخ لديه قيم الحداثة، وترك المتأخرين والمندسين وصناع حروب الطواحين وقفزات لا معنى لها، من وراء ظهورهم.

ملاحظة: 218 رقم الاتصال الدولي لليبيا، ولقد تم تعيينه قبل الكثير من أرقام دول الخليج والشرق الوسط وأفريقيا.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا