لا تبحثوا بعيداً: مفتاح المصالحة الوطنية في بني وليد - عين ليبيا

من إعداد: عبدالرزاق العرادي

(1)

إنهما رمزان من رموز التاريخ الليبي المعاصر؛ رمضان السويحلي وعبدالنبي بلخير، علمان يوازنان أعلاما أخرى في تاريخ الجهاد ضد الطليان. لهما ما لهما وعليهما ما عليهما كغيرهما من قادة الجهاد في ذلك الوقت، كانت هناك في  حياتهما مواقف بطوليه، وأخطاء، قد تكون مما لا يغتفر، تعاملا بدرجات متفاوتة مع الحكومة الإيطالية في أيام السلم والصلح، كما قادا الجهاد ضدها في زمن الحرب.[1]

قاد السويحلي حملته المتهورة في أغسطس 1920 مع حلول عيد الأضحى وكانت الحملة نتيجة يأس ولم تكن عن حسابات دقيقة، فاحتل بني وليد، ما عدا بعض الآبار، ولكن العطش وطول المسير أضنياه وجنده، كما أعيته المواجهات العنيفة، حتى صار عاجزاً عن فك الحصار الذي ضرب عليه وبعد صراع طويل وعنيف، أسر واقتيد مشدود الوثاق بأيدي رافاقه الذين قاتل معهم الإيطاليين الغزاة على مدى سنوات لكن أحد الحراس عاجله وأرداه قتيلا في الطريق[2].

ما يجمع السويحلي وبلخير أن الأول أجهده العطش فقتل والثاني قتله العطش في صحراء الجزائر. لكن كلاهما كان مقاتلا لا يشق له غبار، وكلاهما كان عبقرية فذة في القيادة، تقدم على زمانه. نعتقد أنهما من المجاهدين الأخيار، ولا نزكيهما على الله نسأل الله أن يغفر لهما ما وقعا فيه من أخطاء.

(2)

كتبت قبل صدور القرار رقم (7) من قبل المؤتمر الوطني العام فقلت إن “بني وليد لن تنسى لمصراته عدم دخولها مدينة بني وليد، إبان الحرب على الطاغية مراعاة لمعان يفهمونها، وكذلك ننظر باعتزاز للمواقف المتبادلة في إيواء بعض العائلات التي وجدت ملاذا لها في بني وليد ومصراتة، ومصالح أهالي المدينتين تتطلب إيجاد آلية تسمح بعودة المصالح والتعالي على جراح الماضي.”[3]، ثم أصدر المؤتمر قراره الجدلي لاجتياح مدينة بني وليد بعد مقتل عمران الذي قضى على القذافي. لم يكن القرار ولا الهجوم على مدينة بني وليد الكارثة الوحيدة، ولكن كل ساكنة المدينة نزحت في أيام أعياد الأضحى ورفع أحدهم، في تصرف غير ناضج، صورة “رمضان السويحلي” على بناية وسط بني وليد، في استدعاء لأسوأ ما في تاريخ المدينتين، مما ضاعف الكارثة، وأعاد التقاء اللحظات السيئة في التاريخ والذهنية الجمعية، بأعنف اللحظات سوءا في الحاضر. لقد كان قرار الاجتياح خطأ، لكن رعونة تعليق الصورة، واستدعاء العفن من التاريخ، أحالت المشهد كله إلى لحظة انتقام، وقطعة من نار حرقت كل أيام الثورة، ووضعت مكان شعارات الحرية والعيش الكريم، وشرعية الثورة شعارا واحدا كتب بالخط العريض هو الانتقام!!.

(3)

يعتبر ابن خلـدون أن التاريخ “من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشد إليها الركائب والرحال. وهو في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق”[4]

من التاريخ تحتلب الحكمة، وبه تلحق النتائج بأسبابها، وتفسر ظواهر الأمور. التاريخ يستفاد منه في تدارك الصعاب، وتفادي المهالك، وحسن التصرف في المواقف المتشابهة بمعرفة النتائج المشابهة فتقتنص الفرص وتُتَّقى المحاذير. التاريخ ليس وسيلة شحذ للثارات وتصفية للحسابات؛ فالتاريخ يخبرنا عن دوران الأيام والدول من القوة إلى الضعف ومن مهنة الجلاد إلى ذل الضحية، وهكذا دواليك، إلا من تدبّر واتّعظ وهم قليل.

في مقال سابق ذكرت أنه “لا شك أن مرارات الماضي هي التي مهدت الأرضية لمرارات الحاضر، لكن الشجاع غابت عنه شجاعته، فلم يتصد لمواجهة أخطائه وممارسات أبنائه، فزها بالنصر بينما غابت عنه أخلاق المنتصر.

الوقت يمضي والزمان يدور، يطول تارة ويقصر أخرى، فهل يتدارك عقلاء المنتصرين، وهم ينعمون بزمن النصر، أخلاق هذا النصر، فيعفوا ويصفحوا ويعتذروا ويعقدوا الصلح من أعلى سفوح النصر قبل أن يُفرض عليهم وهم مع دورة الزمان في قاعه “إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ”.”[5]

(4)

حديثى انصب على بني وليد ومصراتة، لأني أرى أنهما مصدر الاستقرار، والاضطراب. ينتشر المنحدرون من المدينتين في كامل البقاع الليبية، وهي خاصة تكادان تنفردان بها عن غيرهما من مدن ليبيا. أنَّ اتجهت في ليبيا تجد عن يمينك مصراتيا، وعن يسارك ورفلياً، أو العكس.

لا أصدر في هذا الكلام عن إحصاءات دقيقة، لكنه انطباع يكاد يكون محل إجماع بين العارفين بخريطة البلاد الاجتماعية. لقد جعلت هذه الخاصية من المجموعتين مصدر توتر وإن اختلفتا ومصدر وئام وسلام إن اتفقتا. إن النظر بتمعن إلى الأزمات والخلافات الضاربة في طول البلاد وعرضها اليوم يلمح هذه الظاهرة؛ ففي كل معسكرين يجد انقساما واضحا بين المجموعتين، وفي قيادتهما. لا أصادر هنا على استثناءات تؤكد القاعدة. إن هذا يعطي المجموعتين مفاتيح حل كل أزمة في ليبيا، ويضع تحت تصرفهما مغاليق تعقيدها.

لا يقلل هذا الكلام من أهمية المجموعات الأخرى في ربوع ليبيا المختلفة، لكنه يجنح إلى تحليل اجتماعي يضع باعتقادي يدا على جرح يتجاهله كثير من دارسي الحالة الليبية، ويقترح فك جزء من العُقَدِ المركبة التي تعيشها البلاد.

إن سكان المدينتين وأعيانهما، والنخب المنحدرة منهما أكبر، قدرا وأعلى مكانة من التجمد في مرحلة ماضية من تاريخهما المشترك، وجعلها برميل بارود جاهز للتفجير في أي لحظة مواتية. إنه لم ولن يساهم في حل هذا التوتر لهذه الأزمة إلا أهل (ورفلة، ومصراتة).[6]

إن العيش في التاريخ واحد من أهم معوقات تقدم الأمم وإقلاع الدول. هذا إذا كان هذا التاريخ تاريخا سويا، وبناية أمجاد. أما إذا كان لحظة سوداء انتصرت فيها غريزة الانتقام، واستعادت شر فعلة جرت على هابيل ندم الدهر، ولعنة الأيام، فإنها تكون اختيارا للإقامة في المكان القذر والهواء المتعفن، وقيد النفس الأمارة بالسوء، وتركا لفسحة العفو، ونقاء التصالح، ومجد التاريخ.

(5)

مفتاح المصالحة الوطنية تملكه بني وليد دون غيرها. لا يمكن أن يقتصر النظر إلى بني وليد ضمن أحداث الثورة المباركة فحسب، فلئن وقف جزء من قبائل ورفلة نخوةً مع النظام السابق، فإنهم كذلك، كانوا من أوائل من قاتله وعارضه في بداية تسعينيات القرن الماضي، بل إنهم يشعرون بأن الليبيين خذلوهم ولم يناصرونهم، ولئن قُتل من أبنائها أفراد من الكتائب فإن ثرى هذا الوطن سقي بدماء كوكبة منهم ضمن شهداء هذه الثورة المباركة، وكوكبة أخرى إبان حكم النظام السابق.[7]

يقع العبء الأكبر في تحقيق المصالحة الوطنية اليوم على مدينة مصراته من خلال إدراكها أن مفتاحها في بني وليد. لا يعيب مصراتة المجاهدة الأبية القوية أن تعقد الصلح من أعلى ما تعتقد أنه “سفوح النصر”. لا يضير أبناء مصراتة أن يتنازلوا لإخوانهم من أجل طي صفحة مؤلمة من تاريخ ليبيا المليء للأسف بمثل هذه الصفحات.

على مصراتة أن تكون في ميادين المصالحة بنفس شجاعتها في ميادين الوغى؛ فليبيا في أمس الحاجة إلى شجاعتها الآن، قبل غد. على مصراتة أن تتخذ خطوات، غاية في الشجاعة، ستزيدها رفعة ومكانة بين القبائل والمدن الليبية، عليها:

  • رفع صورة عبدالنبي بلخير من على أعلى مبنى في مدينة مصراتة، بل لتكن صورة عبدالنبي بلخير ورمضان السويحلي جنباً إلى جنب، ولقد اقترحت هذا الأمر في بداية 2015م للشيخ أبوبكر الهريش ورحب بالفكر ولكن لربما الواقع والتوقيت لم يتهيأ حينها. ما يجمع بلخير والسويحلي أكثر مما يفرقهما بكثير، جمعهما الجهاد، قاتلا معاً الاحتلال الإيطالي، وسادا قومهما بجدارة، وماتا بنفس السبب. فليكن الصلح بينهما، هو الصلح بين ذريتهما وقبائلهما، فلعل الله يغفر لهما ما كان بينهما.
  • إخلاء سجون مصراته من أي معتقل من ورفلة وذلك إما بإطلاق سراحهم أو بتسليمهم إلى السلطة في طرابلس.
  • كشف مصير المفقودين بكل شجاعة وتحمل المسؤولية مهما كانت قاسية.
  • الانسحاب من الحدود الإدارية وتسليم بوابة السدادة للسلطة المركزية بطرابلس لحراستها.
  • توقيع اتفاق مصالحة شامل يسمح بعودة أصحاب الأراضي إلى أراضيهم والسماح بالعودة التدريجية للعلاقات، ويتحمل الأعيان، والأنساب الذي بين مصراته وورفلة، وقادة المجتمع، دورا مهما في تطبيع العلاقة وذوبان جليد العداوة التي خلفها اجترار العفن من التاريخ.

معرفة مصراته للعنوان الصحيح للمصالحة يعني تحقيق المصالحة الوطنية في ربوع البلاد. تحمل مصراته بشجاعة ثقل هذه الخطوة يعني أن ليبيا ستستقر وسيعم السلم الأهلي في ربوع الوطن. لن تستقر ليبيا ما لم تتحقق المصالحة بين مدينة مصراته ومدينة بني وليد. المصالحة عبادة وتقرب وأجرها عظيم وفي هذه الحالة فرض عين على مصراته.

“إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب”

———————————————————

[1] – مدونة بني وليد: http://baniwalid.blogspot.com.tr/2011/12/blog-post_19.html

[2] – أنجيلوا ديل بوكا، على مقربة من المشنقة صحفة 120-121.

[3] – صناعة المعارضة – بني وليد: معالم الحل والحسم، موقع المنارة للإعلام 19 سبتمبر 2012م.

[4]https://saaid.net/arabic/66.htm

[5] – مقالي: أهداف ومبادئ ثورة الفاتح من فبراير، موقع المنارة للإعلام، 5 أكتوبر 2013م.

[6] – عبدالرزاق المنصوري، مصراتة وبني وليد، عندما يتجمد التاريخ، https://mansori.wordpress.com/2012/11/01/article-44/

[7] – مقالي: صناعة المعارضة – بني وليد: معالم الحل والحسم، موقع المنارة للإعلام 19 سبتمبر 2012م.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا