لغتنا الحوارية.. بين الموضوعية والشخصية - عين ليبيا

من إعداد: أ.د. أحمد الأشهب

سألت ذات يوم سائق السفارة الليبية في دولة افريقية بقصد فهم وجهة النظر الشعبية حول كثافة التواجد الغربي في هذه الدولة، فقلت له؛ ألاحظ العديد من الجنسيات الغربية تأتي لزيارة بلدكم، فما هو شعوركم نحوهم؟ أجاب السائق بعفوية، نحن نحبهم ونحترمهم، قلت له، ألم يكونوا مستعمرين لبلدكم في فترة سابقة، وكانوا قد استغلوا ثرواتكم، ونهبوها، واسترقوا مواطنيكم، وباعوهم في أسواق العبيد العالمية؟ فكيف لكم اليوم أن تنسوا كل هذه العذابات، وهذا القهر، وبعد هذا كله تحبونهم وتحترمونهم؟ رد السائق، بعض هؤلاء الناس اختلفوا عن سابقيهم، نحن نحترمهم حتى أكثر من بعض مواطنيكم، وأردت أن يستمر السائق في شرح وجهة نظره، فسألته ولماذا كل هذا الاحترام؟ فأجابني وبشيء من الصراحة لأنهم يتعاملون معنا بلطف، ويأكلون معنا طعامنا، ويجلسون معنا، ويغنون ويرقصون معنا، أما البعض منكم والذي عنيته في حديثي فإنه ينفر منا، ويعاملنا بغلظة، ويحتقرنا بسبب لوننا، ويصفنا بالجهل والتخلف، وربما يكون هؤلاء بسلوكهم هذا هم أكثر تخلفا وجهلا منا، وإني لأسمع البعض منهم يقول هذا العبد، وهذا.. وهذا.. هكذا هي لغتهم وسلوكهم معنا، احترمت وجهة نظره رغم أنها قد تكون محرجة لي ولغيري، ولكنها وجهة نظر.

تذكرت هذا عندما ثارت ثائرة البعض وللأسف فإن من هذا البعض المثقفون، والسياسيون، وأعضاء في مجلس النواب ضد عضو النواب من مدينة تاورغاء، وقد كالت له الألسن، والأقلام من الشتائم  مالم يكن أحدا يتوقعه وكأنها أعادتنا إلى قرون الظلام والجهل، لم يحاول أحد أن يناقشه في فكرته، أو في موضوعه الذي طرحه، أو في ردة فعله التي  كانت مستفزة  للبعض ،  لم يناقشه أحد بهدوء وروية لا من حيث صحة وجهة نظره  أو خطئها ، أو من حيث منطقيتها من عدمها، وإنما تقاذفته الكلمات الثائرة الغاضبة التي تجنبت الموضوع بشكل مطلق واتجهت بعجزها نحو شخصه لتصفه، يا ذا اللون.. يا ذا الوجه.. يا ذا الأصل، وكأنها تريد أن تقتلع جذور جده العاشر.

لقد نسينا في لحظة غضب وثورة ومزايدة ما علمنا إياه ديننا الحنيف من أصول الحوار حتى مع المشركين فما بالك بين المسلمين أنفسهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يبلغ ما أنزل عليه من الله سبحانه وتعالى، ورغم إيمانه وإدراكه التام  بأنه على الحق المبين وأن المشركين على ضلال، إلا أنه كان يقول لهم وكما أخبرنا القرآن الكريم (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) ولم يقل لهم أنا الذي على الحق أما أنتم فعلى الضلال، وإنما أحدنا إما على هدى وإما على ضلال رغم يقينه، بأن ما يقوم بتبليغه ليس بكلام بشر ، أو فكر بشر وإنما كلام الله ودين الله إلا أنه قبل الحوار معهم ويمنحهم الفرصة  ليتأكدوا بأنفسهم من المخطئ ومن المصيب وبالإقناع وليس بالتهديد والوعيد والإجبار.

كما ذكرني هذا  أيضا بطريقة البعض منا في حواراته وانتقاده لغيره، فإذا عجز هذا البعض عن تقوية وإسناد وجهة نظره بالحجة والبرهان، والمنطق العلمي، فإنه يلجأ مباشرة إلى التجريح الشخصي، وقذف الطرف الآخر بأشد العبارات التي تعوزها  الأخلاق، والتي يتعفف، ويتأفف حتى الشارع أو السوق اليوم من ذكرها، إن عجز البعض عن الرد المنطقي والعلمي يثير فيه هذا العجز غرائزه الدونية، ويفقده أدنى درجات المسلك السوي، والعقل المتوازن، وينسيه حتى أبسط ضوابط الحوار التي أكد عليها ديننا القويم ، والغريب أن تصدر مثل هذه السلوكيات ممن يدعون  العلم والمعرفة، والفقه والثقافة والأخلاق  والأدب، وهذا للأسف ينعكس  أيضا حتى على حواراتنا السياسية، وكذلك البرلمانية والإعلامية، والاجتماعية.

وفي ظل وجود هذه الرؤية الحدية التي تمنع الآخر من التعبير عن رأيه مهما كان مخالفا لنا أو مختلفا عن قناعاتنا. والتي لا تقبل أصلا بأسلوب الإقناع أو الاقتناع، وإنما بنتيجة الغالب والمغلوب فقط ولو على أشلاء الآخرين، نتيجة هذه الرؤية هي ما نحصده الآن من عنف وتفجيرات، واقتحامات، وفرض للرأي الواحد، وغياب للغة الحوارية الموضوعية وغياب للمصالحة، والوئام الاجتماعي ومن تفشي   لقوة الاستبداد رغم أنف الحرية التي نتغنى بها، ورغم أنف الديمقراطية، ورغم أنف الانتخابات التي أحرق مقر مفوضيتها.

فإنك إذا خالفتني الرأي فأنت عبد إبن عبد..و.. و.. وإن  وافقتني ولو عن غير اقتناع منك فأنت أحلى من العسل، هكذا البعض منا إما تطرف في العداوة، وإما تطرف في المحبة، وما أسهل أن تنقلب هذه إلى تلك وبأسرع  ما يمكن، ويبدوا أننا اليوم  قد غلبت علينا الأولى، وإذا كان الأمر كذلك  فكيف يتسنى لنا أن نصل إلى حوارات  فكرية أو سياسية هادفة  تحقق نتائج مرضية لنا جميعا، نتائج  من أجل وحدة الوطن، واستقراره وأمنه  بعيدا عن التفجيرات، والقتل والدماء والتهديد، والتخوين والتنابز  بالألقاب، حوارات نصل  من خلالها إلى نقد راقي وموضوعي بعيدا عن الشخصنة والاتهام، وإلى مصالحة حقيقية تنهي حالة الانقسام والتوتر والتشرذم، ونتمكن من خلالها أيضا أن نرقى  بأسلوبنا إلى درجة عالية من الوعي  فإن لم يكن احتراما  للآخرين  فليكن احتراما لأنفسنا على أقل تقدير، نأمل أن نعيد التوازن إلى اتجاهنا، ونحدد بوصلتنا  إلى ما فيه خيرنا ، وخير وطننا.



جميع الحقوق محفوظة © 2025 عين ليبيا