لماذا لا توجد أي مبادرة لإيقاف الحرب في أوكرانيا؟ - عين ليبيا

من إعداد: د. عبيد الرقيق

كلما حاولنا أن نضفي على عالمنا المعاش روح الإنسانية التي ينبغي أن تكون أساسا للتقدم والتطور البشري، تفاجئنا الأحداث والوقائع بعكس ذلك تماما، ففي الوقت الذي نرنوا فيه إلى عالم مسالم وديع هاديء، تتفجر الأحداث المرعبة بين حين وآخر عبر خارطة عالمنا في شكل حروب مدمرة تجتاح بعض الدول، لتنشر فيها الخراب والدمار والقتل والتهجير، وعندئذ يتبدل الاحساس بسلام هذا العالم إلى نوع آخر من الشعور بالتوحش البشري الذي تحاول أن تمارسه بعض الدول العظمى، خدمة لأجنداتها التسلطية واستعراضا لقوتها وتأكيد صولتها، وغض النظر عن النتائج السلبية جدا التي تلحقها بالمجتمع البشري ككل.

الحرب في أوكرانيا دليل ساطع عن مدى توحش الدول العظمى في عالم اليوم، فبدلا أن تبذل المساعي الحميدة لوقف الحرب وجدنا مساعي حثيثة لزيادة التأجيج وإطالة عمر الحرب!، عادة عندما تنشب أي حرب نجد العديد من المبادرات لوقفها تتقدم بها دول منفردة أو مجتمعة، لكن لماذا غابت مثل هذه المبادرات في حرب أوكرانيا اليوم؟! وللإجابة على هذا السؤال الكبير لابد لنا أن ننظر في خارطة أوكرانيا الجيوسياسية والجغرافية، فأوكرانيا إحدى الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي الذي تفكك مع نهاية الثمانينيات في القرن الماضي وهي أيضا تقع على الحدود مباشرة مع الاتحاد الروسي الذي كان ركيزة الاتحاد السوفييتي وورث قوته ومكانته.

إن موقع ووضع أوكرانيا الجيوسياسي والجغرافي جعلها بؤرة تركيز واستقطاب دولي، فكانت عيون حلف الناتو مسلطة عليها، ولذلك حاول الناتو بزعامة أمريكا إحداث اختراق جوهري في أوكرانيا، بغرض احتوائها ولقد نجح في ذلك عندما تمكن من جر الحكومة الأوكرانية الحالية إلى الارتماء في احضان الغرب دون أدنى حسابات لوضع أوكرانيا الحساس جدا مع جارتها العظمى روسيا، الأمر الذي أقلق الروس وشرعوا يعدون له ألف حساب وحساب، وعندما أحس الروس بأنه لا أمل في التفاهم مع حكومة جيرانهم الأوكران بعد أن ترأسها حاكم جديد يدين بالولاء للغرب ومنبهر بديمقراطيتهم أعدوا العدة لغزو أوكرانيا للاستحواذ على شريط حدودي واسع يشمل إقليم دونباس وتم ذلك في 24 فبراير الماضي وها هي الحرب مستمرة حتى الآن.

إذا بات واضحا لماذا غابت مبادرات السلام ووقف الحرب في أوكرانيا، لأن الغرب وحلف الناتو أرادوها أن تكون حربا تقوم بها أوكرانيا بالوكالة عنهم، لتحقيق أهدافهم الاستراتيجية والمتمثلة في إضعاف القوة العسكرية الروسية، بعد إنهاكها اقتصاديا نتيجة للعقوبات الصارمة التي فرضوها على روسيا، ولقد تبيّن أيضا رغبة الغرب وعلى رأسهم أمريكا في تدمير القدرات العسكرية الذاتية الأوكرانية التي كانت ترسانتها العسكرية روسية بامتياز ليجعلوها تعتمد كليا على ترسانة التسليح الأمريكي والغربي الذي يتحكمون فيه، وبذلك يكونوا قد ضمنوا تحييد إوكرانيا لأنهم كانوا يخشون أن تكون يوما ما ضمن إطارها الطبيعي مع جارتها روسيا.

هكذا يتم تمرير أجندات القوى العظمى على حساب الشعوب التي يعجز حكامها على فهم التاريخ والجغرافيا، ليتم جرهم إلى ما فيه شر مستطير على شعوبهم، فما الذي ستجنيه أوكرانيا من حربها غير المتكافئة هذه؟ ولماذا يدفع الشعب الأوكراني هذا الثمن الغالي جدا من أبنائه وموارده وبنيته التحتية؟! إذا كان أقصى ما يمكن الخروج به بعد هذه الحرب المتوحشة هو استقطاع إقليم كامل من أراضي أوكرانيا ما يعادل الخمس؟! أين الحكمة في الزج بأوكرانيا في حرب ضروس يكون ضحاياها الشعب الأوكراني وحده؟! فالدول الداعمة للحرب لم ولن تدفع بجندي واحد على الأرض لأنها تكتفي فقط بإرسال الأسلحة والمعدات المادية عن بعد.

نعم أن روسيا هي المعتديّة، لكن اعتبارات أنها قوة عظمى ذات حدود مشتركة مع أوكرانيا ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار من قبل حكام أوكرانيا، حفاظا على مصالح وأمن شعبهم، وكان حريّا بقادة أوكرانيا دراسة وتحديد أولويات التصرف حيال هذه الأمور، فهل يا ترى ستجني أوكرانيا من وقوفها ضد روسيا مصالح أكثر مما لو كان العكس؟! إن حلف الناتو في هذه الحرب القذرة يبدو هو المستفيد الأكبر من خلال عوائد بيع أسلحته التي تقدر بعشرات المليارات، وكذلك من تحصله على فرصة ذهبية يمكنه من خلالها تجريب قدرات أسلحته وبالتوازي مع اختبار قدرة السلاح الروسي، في مناورة عسكرية حية على أرض أوكرانيا.

يمكن القول إن الحرب في أوكرانيا هي حرب عالمية طرفاها قوتين عظميين روسيا وحلف الناتو، لذلك ليس ممكنا ظهور مبادرات لإيقافها فمن يتجرأ على الدخول بين العملاقين؟! وهذا يقودنا إلى القول بإنه لا توجد في الواقع مواثيق تحترم وأن عالمنا يعيش حالة من التوحش وإن ظهر بغير ذلك خداعا وتضليلا، باختصار لن تتوقف الحرب في أوكرانيا إلا بعد أن يحقق كل من روسيا والناتو أهدافهم منها كاملة وهي أهداف معلومة لدى الطرفين مسبقا ومتفق عليها إلى حد ما تحت الطاولة، ولذلك اتوقع أن تتوقف هذه الحرب خلال شهرين من الآن “والمخرج عايز كذا!”، هكذا إذا يتم التلاعب بمصير وحياة الشعوب المستضعفة التي لا تملك القوة التي تصون لها سيادتها فتبقى رهينة أطماع أصحاب القوة ولها أن تقدم في سبيلهم التضحيات الجسام!.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا