لماذا يعجز الليببيون عن مواجهة أزماتهم؟ - عين ليبيا

من إعداد: د. علي اعبيد

يشكو كل الليبيين من تدنّي مستوى التعليم، وهبوط مستوى الخدمات الصحية، وغياب المواصلات العامة في مدنهم، وتخلف المنظومة المصرفية، وتردي الإدارة العامة؛ الأمر الذي يحوّل حياتهم إلى جحيم حقيقي، ويشحنهم بالتوتر وسرعة الانفعال، حتى أصبح الفرد منهم أشبه ما يكون ببالون مضغوط قابل للانفجار عند أبسط لمسة.

يمارسون الشكوى والتذمر حتى اليأس، في الوقت الذي يرون فيه شعوب العالم حولهم تتصدى لمعضلات وأزمات بالغة التعقيد، وتصل فيها إلى حلول جذرية حاسمة، مشاكل ليبيا بالمقارنة مع هذه المعضلات لا تمثل إلا نكات سمجة في أسوأ الأحوال.

لم يسأل الليبيون أنفسهم كيف تمكنت الصين من توفير تعليم جيد لما يزيد على 300 مليون تلميذ، وكيف فعلت الهند نفس الشئ، بل كيف تمكنت دول عربية شحيحة الموارد وكثيفة السكان مثل مصر أن توفر تعليم معقول لما يزيد على 20 مليون طالب، وكيف تمكنت دولة عربية مساوية سكانيا لليبيا هي لبنان من توفير تعليم أفضل لنفس العدد من الطلاب الليبيين دون أن تكون هناك نفس الامكانيات، أيضا كيف تمكنت الأردن من بناء منظومة صحية متميزة جعلت الليبيين يتجشمون المصاعب بأنواعها بما فيها الابتزاز على المنافذ في سبيل الاستفادة من خدماتها.

أسئلة مشحونة بالفضول الباحث عن معنى كان يجب أن يسألها الليبيون، وكان يجب عليهم أيضا أن يبحثوا عن إجابة كاملة للسؤال المحوري الهام، لماذا تتوفر في القارة الليبية كل الموارد الطبيعية والبشرية لبناء دولة عصرية راقية ومتفوقة، ثم يعجز الليبيون عن إقامة دولة بمعايير الحد الأدني ؟ لماذا يفشل الليبيون في بناء دولتهم ؟ ما هي المشكلة تحديدا وتعريفا ؟

لو كانت ليبيا بمساحة لبنان لوجدنا العذر في قلة المساحة وصعوبة التضاريس، ولو كانت مواردها شحيحة بمستوى الأردن لقلنا هذا قدرنا ونصيبنا، ولو كان طقسها بصعوبة الطقس في منغوليا لقلنا “الله غالب”، لا يمكن تدفئة مليوني كم مربع ! أما أن تكون ليبيا متميزة بكل نعم الله، ثم يفشل الليبيون في إقامة أسس دولة عصرية، فذلك أمر يستحق التفكير بعمق وإغماض العينين في عملية تأمل قوي مجردة من الأهواء والميول.

موارد ليبيا الطبيعية ليست النفط فقط، والواقع أن النفط على أهميته لا يمثل المورد الأكبر والأهم، ولعل المهتمين بالطاقة المتجددة يعرفون أن ليبيا تحظى بما يعرف علميا بأعلى معدل سطوع لأشعة الشمس على الكرة الأرضية (إضافة للجزائر)، وهذا يجعلها أنسب مكان لاستغلال الطاقة الشمسية على سطح الأرض، حتى أن المتخصصين في هذا الحقل يقدرون أن استغلال مربع طول ضلعه 300 كم من الصحراء الليبية الخالية في إقامة حقول عملاقة للألواح الشمسية كفيل بتوفير احتياجات كل العالم من الكهرباء. ببساطة استغلال مساحة مقدارها 90 ألف كم مربع (5% من مساحة ليبيا) من الصحراء الليبية يوفر كل الطاقة التي يحتاجها العالم بقضه وقضيضه!.

رمال السيليكا النقية التي تشكل في الجنوب الليبي تلال على امتداد البصر ولمسافات هائلة تمثل مصدرا لا ينضب لصناعة الزجاج والبلور “الكريستال” فائق الجودة، وفرة هذه المادة مع توفر الطاقة كفيلة بأن تجعل من ليبيا الدولة الأولى في العالم في انتاجها بلا منازع.

جبال الحجر الجيري، ومنها الجبل الغربي، هي الآخرى كفيلة بأن تجعل ليبيا من الدول العملاقة في صناعة الاسمنت وطوب البناء والسيراميك بأنواعه.

حتى في ميدان الزراعة التي يعتقد البعض استحالة تطويرها في بلد تمثل الصحراء فيه 95% – مجرد أن نعرف أن نحو خمسة بالمئة من مساحة ليبيا قابلة للزراعة، يعني توفر نحو 9 مليون هكتار صالحة للاستزراع، وهو رقم يتجاوز مساحة هولندا وبلجيكا ولكسمبرج معا. فإذا تصورنا امكانية استخدام التقنية الحديثة لتحولنا بكل ثقة إلى دولة مصدرة للمنتجات الزراعية.

لسنا بحاجة إلى الإشارة إلى سنغافورا، الدولة التي يعيش ملايينها الستة على قطعة أرض تقل عن نصف مساحة طرابلس الكبرى، وكيف تحقق أعلى مستويات الدخل والرفاه لمواطنيها. ولسنا بحاجة إلى الإشارة إلى كوريا الجنوبية لتي كانت قاعا صفصفا من الدمار يوم أن استقلت ليبيا، وقبلها كانت تخضع لاحتلال بغيض يتجاوز الاحتلال الايطالي في وحشيته هو الاحتلال الياباني، وكيف أصبحت قوة اقتصادية هائلة يحسب لها ألف حساب في عالم اليوم.

الخطط المعـدّة بعناية، مع وضوح الرؤية، والدقة في التنفيذ، تجعل أي شعب قادراً على الانخراط في تنمية حقيقية وتطوير ذاتي مستمر، مهما حفل ماضيه بالأحداث السلبية الجسيمة، ولعل دولة روندا الصغيرة القابعة في وسط أفريقيا خير مثال على ذلك. إعداد مثل هذه الخطط المحكمة ليس ضربا من المستحيل فالخبرة العالمية، إذا لم تتوفر الخبرة المحلية، متوفرة في أركان العالم الأربعة ولا يمنعنا من الاستعانة بها إلا قصورنا الذاتي.

لماذا يعجز الليبيون عن مواجهة مشاكلهم “التافهة” بمقاييس العالم ؟ هل حقا يفتقدون الإرادة على نقد الذات ومحاسبتها والاعتراف بأوجه القصور في عقلهم الجمعي ومنظومتهم القيمية ؟ هل راقت لهم أوضاعهم البائسة وتعايشوا معها، وفقدوا القدرة على التفكير في كسر حالة الجمود وتبلد الواقع؟.

يتكدس الليبيون في وظائف القطاع العام وهم يعرفون مسبقا أنها مجرد بطالة مقنعة، وأنها لا تقدم لهم شيئا إلا المرتبات الهزيلة، وبالمقابل تساهم في تفاقم الخلل الاقتصادي وترهل الدولة وزيادة القصور في الخدمات وتعثر مسيرة التنمية، ومع ذلك لا يهمهم من الموضوع إلا ضآلة المرتبات!.

لا يهتمون بتربية أطفالهم وتوفير الرعاية الأسرية لهم ومراقبة أدائهم التعليمي، ويتركون للشارع تربية هؤلاء الأطفال، ومع ذلك لا يكفون عن الشكوى من جنوح الشباب وانتشار الظواهر السلبية والممنوعات في المجتمع!.

لا يدفعون فواتير الكهرباء والماء والهاتف الأرضي، ولا يهتمون بتقليل الاستهلاك فيها، ويتجاهلون كل نداء لوضع القمامة في أماكنها وعدم رميها في الشوارع والطرقات، ومع ذلك يصبون جام غضبهم على خدمات الكهرباء والماء وجمع القمامة.

يتذمرون من انتشار ظاهرة الواسطة وهم من يمارسها ويرسخ ثقافتها.

يبدو من هذه الحقائق أن هناك حاجة ماسة لقيام مشروع وطني بعيد المدى يهدف إلى تأهيل وإعادة برمجة تقافية مكثفة للمواطن الليبي، فيما يشبه عملية تركيب نظام تشغيل جديد للحاسوب؛ ذلك أن هذا المواطن تقبع في أعماق عقله الباطن مجموعة من المكونات القيمية السلبية التي خلقتها ظروف غير سوية عبر حقب زمنية طويلة، عززها تجاهل التوعية والتثقيف العلمي، وهي التي تتحكم في مسلكه وتنعكس في نهاية المطاف في عجزه عن المشاركة في عمل جماعي منظم وراقي يساهم في بناء وتاسيس دولة عصرية.  

هذه المكونات كثيرة ومتشابكة، لكن أهمها الولاء العائلي والقبلي والجهوي والاقليمي، ثم التعصب والتقوقع المذهبي الديني، ثم التمسك بالفردية وقصر النظر. التاريخ عبر مسيرته الطويلة لم يشهد على حالة واحدة من حالات الاستقطاب القبلي أو الجهوي أو المذهبي أنتجت وضع اجتماعي مستقر أو ساهمت في قيام مجتمع متحضر وراقي.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا