ليبيا.. أزمةُ الإنسان قبل الدولة - عين ليبيا
من إعداد: إدريس إحميد
يمثل العامل الاجتماعي أحد أهم ركائز بناء الدولة الحديثة، إذ تتأسس المجتمعات على منظومات من القيم والعلاقات التي تربط بين أفرادها عبر الدين والمذهب والقبيلة والمصالح المشتركة، وفي الحالة الليبية، تتسم البنية الاجتماعية بدرجة عالية من التجانس؛ فغالبية السكان ينهلون من دين واحد ومذهب مالكي واحد، كما تحكمهم شبكة واسعة من العلاقات القائمة على القبيلة والنسب والمصاهرة، ما جعل المجتمع — في بنيته النظرية — قادرًا على التماسك ومواجهة التحديات.
غير أن هذا التجانس، بدل أن يتحول إلى قاعدة لبناء دولة عصرية، ظل حبيس البنى التقليدية في ظل غياب مشروع وطني قادر على تحويله إلى رصيد حضاري يعزز المدنية والمواطنة. وهنا بدأ الإشكال الذي شكّل جذور الأزمة الليبية الراهنة، إذ تحوّل الانتماء الاجتماعي في لحظات الأزمات إلى أداة للانقسام والاصطفاف، بدل أن يكون ركيزة للوحدة الوطنية.
التنمية الاجتماعية والثقافية:
من الفرص الضائعة إلى الهشاشة الحالية
على الرغم من محدودية الموارد في بدايات الدولة الليبية بعد الاستقلال، شرعت ليبيا مبكرًا في تأسيس مؤسسات التنمية، ثم تبنت التخطيط الخماسي منذ العام 1963، ليتوسع هذا التوجه في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات اعتمادًا على عوائد النفط. وقد مكّن هذا المسار الدولة من توفير السكن والتعليم والصحة وفرص العمل، ما أحدث قفزة اجتماعية وتنموية ملموسة خلال السبعينيات والثمانينيات.
لكن هذه الطفرة ركزت على البناء المادي وأغفلت البعد الثقافي والوعي المدني، ما أدى إلى فجوة واضحة بين مظاهر التحضر وسلوك المجتمع. فقد ظل المجتمع الليبي متأرجحًا بين الموروث القبلي والعادات التقليدية من جهة، ومقتضيات العصر وقيم الدولة الحديثة من جهة أخرى، دون عملية تحديث حقيقية قادرة على دمج التراث بقواعد المدنية. وزاد الأمر تعقيدًا حين اتخذت الدولة من القبيلة إطارًا لتوزيع المناصب والنفوذ بدل اعتماد الكفاءة، فترسخت المحسوبية، وضعفت مؤسسات الدولة، وأصبح العرف القبلي في كثير من الأحيان أقوى من سلطة القانون.
العوامل الاجتماعية العميقة للأزمة الليبية
لم تكن الأزمة الليبية مجرد صراع على السلطة، بل نتاج تراكم اجتماعي وثقافي ممتد لعقود:
أحداث 2011 وتفجر الشرخ الاجتماعي
أظهرت أحداث فبراير 2011 هشاشة البنية الاجتماعية الليبية؛ إذ لم يكن الانقسام سياسيًا فحسب، بل اجتماعيًا ومناطقيًا وقبليًا. ومع سقوط النظام، تصاعد منسوب الانتقام والإقصاء والتهجير، وانفرطت الروابط الاجتماعية التي لطالما شكلت ضابطًا للعلاقات بين الليبيين، فتعزز الشرخ وتعمقت الأزمة.
برز في أول اختبار مجتمعي لليبيين بعد عام 2011 انكشاف أزمة الوعي الجمعي، إذ بدأ كل طرف يرى في نفسه الأفضل، مرة من منظور شخصي، وأخرى من زاوية قبلية أو مناطقية، حتى وصل الأمر إلى نبش الأصول والإيحاء بأن هذا “أصيل” وذاك “دخيل”، وأن فئة ما هي الأحق بحكم ليبيا لأنها ـ حسب زعمها ـ تعرّضت للإقصاء، أو لأنها أحفاد المجاهدين وشيوخ القبائل. وبدل أن تتجه القوى الاجتماعية نحو الاندماج الوطني وصياغة مشروع جامع، عاد الخطاب إلى مربعات الانقسام، وتحوّلت الهوية من عامل قوة ووحدة إلى أداة تفرقة وصراع، تُقاس فيها الشرعية بمعايير الماضي لا بقدرة الحاضر على البناء.
إعادة البناء الاجتماعي: مدخل الحل الليبي
لن يخرج الليبيون من أزمتهم دون مشروع وطني يعيد ترتيب الأولويات ويعالج أساس الأزمة: الإنسان وثقافته. ويتطلب ذلك:
نشر الوعي المدني عبر برامج تعليمية وإعلامية جادة تعيد الاعتبار لقيم المواطنة والمسؤولية.
معالجة الظواهر الاجتماعية السلبية بخطط ممنهجة لا بردود أفعال آنية.
فرض سيادة القانون ونزع السلاح من خارج مؤسسات الدولة، خصوصًا في المناطق الملتهبة.
استثمار دور القبيلة في المصالحات الاجتماعية بما يخدم الدولة، لا أن يكون بديلًا عنها.
وفي هذا السياق، برزت مبادرة القائد العام للقوات المسلحة المشير خليفة حفتر، الداعية إلى أن يكون الحل «ليبيًّا–ليبيًّا»، والتي وجدت قبولًا واسعًا لدى القبائل والمجتمع المحلي، باعتبارها خطوة نحو استعادة القرار الوطني، وكسر حلقة التبعية للتدخلات الخارجية، وفتح الطريق أمام مشروع وطني جامع.
الأزمة الليبية ليست صراعًا بين أطراف سياسية فحسب، بل أزمة وعي وهوية وتنظيم اجتماعي. فالدولة لا تُبنى بالثروة، بل بالإنسان القادر على إدارتها، وبمجتمع يؤمن بقواعد القانون ويحمي وحدته. لذلك، فإن إعادة بناء الوعي الاجتماعي والثقافي هي الخطوة الأولى نحو دولة ليبية مستقرة، تتحول فيها المواطنة من شعار إلى ممارسة، وتصبح الدولة حقيقة لا فكرة مؤجلة.
جميع الحقوق محفوظة © 2025 عين ليبيا