مجالس قبائلنا وبرلماناتهم - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

عاش الشعب الليبي عصوراً طويلة تحت حكم دول غازية أو أسر محلية حاكمة، لكل منها قياداتها ورموزها، فمثلا الرومان والإيطاليون يُعينون من روما، والأمراء الأمويون من دمشق، والعباسيون من بغداد والعثمانيون من إسطنبول، ولهؤلاء وزرائهم وحاشيتهم وموظفيهم الذين يتحكمون في مفاصل الدولة، ولا شأن للعامة في ذلك، بل لا أشأن لليبيين في ذلك، ولا يستثنى من ذلك العهد الملكي الذي على رأسه أسرة سليلة مستغانم بالجزائر وحاشيته معظمهم من العائدين من مصر وبعض الدول العربية الأخرى مثل سوريا.

أما الحكم الجماهيري فهو حكم عسكري سلطوي لم يترك لغيره مجالاً للمشاركة، ولم يبني مؤسسات ولا أناس أسويا، بل صنع ركام من أشباح مقطوعة عن العالم، بعد استخدامهم كحقل تجارب لأفكاره الطوباوية على مدى أربعة عقود، منها الاتحاد الاشتراكي ثم سلطة الشعب بمؤتمرات شعبية ولجان شعبية ثم كومونات وأخيرا الشعبيات، مما خلق تشويش فكري في المفاهيم والقيم قد لا يزول قريباً. ردةُ الفعل على فشل مشروع الدولة الوطنية للعقود الستة الماضية أحدث انتكاسة، نتج عنها عودة إلى التخندق القبلي والمذهبي اللذان أعاد بالإنسان الليبي إلى البدائية البدوية في الكثير من المناطق بشرق البلاد وغربها.

بالمقابل بعد ثورة السابع عشر من فبراير وجد الليبيون أنفسهم لأول مرة أنهم على أعتاب هيكلية لنظام ديموقراطي لم يألفوها، وأعني بالهيكلية ترشيح متاح للجميع وصناديق اقتراع وهيئة عامة للانتخابات ودستور مؤقت وانتخابات حرة ونزيهة بشهادة العالم، وفصل بين السلطات، وصحافة حرة لا رقيب لها (بل تتجرأ على سب ولعن كل الرموز الوطنية والدينية). هذا الوضع الجديد (بجرعة حرية زائدة وبلا مسؤولية) أوجد مشاكل جديدة لم يعهدها المجتمع الليبي من قبل، بل ونادرة الحدوث في دول الديموقراطيات العريقة.

الترشيح والفوز في انتخابات المجالس النيابية على درجة كبيرة من الأهمية للفرد وللمجتمع (إن كان في سياقه السوي)، لأنه السبيل الفعال للمشاركة في إصدار القرارات المصيرية للدولة من خلال مجلس النواب أو لجانه النوعية، وهو السبيل إلى إدارات الدولة السيادية، وكثيرا ما يكون طريقاً لتولي مناصب الحكومة.

في الدول الديموقراطية العريقة يتم صناعة النائب (بصورة فردية) لسنوات قبل ترشحه، وذلك بإحدى الوسيلتين، إما بالتدرج الوظيفي العام أو الخاص مع المشاركة الفعالة في العمل المجتمعي وتكوين خبرة جيدة في الشأن العام مع شبكة تواصل داعمة، وذلك ما يحث الحزب على الدفع بهؤلاء الأشخاص ليكونوا نواب أو أعضاء في الحكومة مرشحين عن الحزب، وهذه الوسيلة أكثر شيوعاً، والطريق الآخر نشؤ المترشح في أسرة لها تاريخ طويل في تعاطي السياسة، حيث يتربى على فهم أبجدياتها،  ويؤهل علمياً لخوض تجارب العمل في الشأن العام دون ضغوط اقتصادية أو اجتماعية عند نظرائهم، هذا الصنف تحتكره الأسر المالكة، والعائلات الإقطاعية وأصحاب رؤوس الأموال، والعشائر المتفتحة، وبعض العائلات التي لها تاريخ سياسي عريق.

بإصدار الإعلان الدستوري من المجلس الانتقالي تحولت الدولة الليبية (صورياً) إلى دولة ديموقراطية، وبدأت الممارسة الفعلية للنظام الجديد بانتخابات المؤتمر الوطني ثم مجلس النواب ثم لجنة الدستور، وجميعها غفلت عن ضوابط اختيار النائب؛ الخبرة الطويلة في العمل، والمؤهل العلمي الجيد، والعمل المجتمعي ونظافة اليد،  فأوجد فرصة سانحة (للصباغ والدباغ) أن يفوز في الانتخابات إن استطاعوا حصد أكبر عدد من الأصوات، وفي غياب غربال الأحزاب أُستخدم الولاء القبلي لجمع أصوات الفوز للمترشحين ممن يوصفون ب(النطيحة والمتردية وما أكل السبع) بعيداً عن ثقافة العصر.

بعيداً عن التعميم لا ننسي أن هناك أناس شرفاء في المجالس التشريعية على درجة عالية من الوطنية، والمهنية والتفتح والإيمان بقيم الحداثة، إضافة إلى امتلاك زمام المبادرة والاهتمام بالشأن العام، ومعظم هؤلاء من الحضر الذين لا ارتباط قبلي لهم.

وبذلك فإن وصول رجال (القلة) كما يسميهم المفكر الجزائري مالك بن نبي “الذي بتر فكره في حاجاته ومطامعه، وطريقة ليصبح شخصية بارزة ” إلى مقاعد متقدمة في الدولة أزال قواعد العملية الديموقراطية من أساسها (لجهلهم بها) وأوجد وضعاً متشضياً تتنازع فيه الولاءات القبيلة والمذهبية مع الولاء للوطن، مما يتعذر خروج أي سلطة تشريعية بقرارات جامعة وصائبة، بل وتعطيل المؤسسة التشريعية بالكامل على مدى أربعة سنوات، بسبب حفنة من رجال القلة.

قد لا تحتاج إلى فراسة لتقييم جلسات المؤتمر الوطني، ولأول وهلة تُجذب نظرك اللحى الطويلة الملبدة والجلابيب الفضفاضة (وهي ليست من الثقافة الليبية) مع القليل ممن لهم صدريات مخططة والشنات السوداء، هذا المشهد الذي لا يختلف عن اجتماع نقابة المعلمين في كابول جعل أهلنا في الشرق الليبي وكثيراً من الصحافة الأوروبية تنعت المؤتمر الوطني بأنه إتلاف المجموعة الليبية المقاتلة والإخوان المسلمين والسلفية الجهادية، وإن كان جلهم لم يقرا رسالة واحدة لحسن البناء أو كتب المقدسي. أغرق هؤلاء في الهروب إلى الأمام بإصدار قوانين الرباء ومراجعة كل القوانين لكي تكون متلازمة مع الشريعة، وغضوا بصرهم عن بناء مؤسسات الدولة، وهي أكبر خطيئة مارسها المؤتمر.

نكاية في غريمه (المؤتمر الوطني) ثابر رجل القلة في مجلس النواب على تحسين ملامحه أمام صحافة العالم بتغيير ملامحهم، فكان حلاقة اللحى ولباس بنطلونات الجينز بنطاق عريض، وقمصان نصفية، إلا أن ذلك لا يرتقي فكريا إلا إلى تغيير مرقعات متسول إلى ملابس جديدة، بعيدة عن تغيير الجوهر.  ولذا نرى الجشع والنهم وعدم الالتزام بالعمل وقضاء معظم الوقت في منتزهات خارج الوطن، والتسويف المتعمد للاستحقاقات البالغة الأهمية، مع التغول القبلي والجهوي الواضح للعيان، والركون إلى النهج القومجي القديم الموسوم بالاستبداد، والحديث الذي لا ينتهي عن الإرهاب وجلب السلاح وزج العديد من الدول العربية في الاقتتال الداخلي الليبي، ولا تنسي الحضور المكثف لمؤتمرات البرلمانات العربية والأفريقية وما أدراك.

قد لا نلوم مجالس قبائلنا (اللوياجرگا بالتعبير الأفغاني)؛ أعضاء المؤتمر الوطني ومجلس النواب عن تصرف بعضهم المشين، ولكن كل اللوم على غياب التوعية المجتمعية حتى يقوم الشعب باختيار نوابه على أسس واعية مدركة للمنطلقات الوطنية، وممن لهم برامج هادفة. استمرار الفشل والخراب والتردي بأيدي دمى ليبية من ساسة ونواب وقعوا تحت تأثير قوى إقليمية (وخاصة الإمارات) ولرجالات العهد البائد، والتي يعبر عنها بالثورة المضادة قد تستمر في الخراب لفترة استثنائية مؤقته، إلا أن الخروج من هذه الحالة لآت، وإن طال زمنه، فبعد الهدم إلا البناء، ولكن ما يجب أن يكون درساً لليبيين هو نبد الجهوية والقبلية والتدخلات الأجنبية من خلال اختيار نوابها على أسس مهنية ووطنية.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا