معاقون ذهنيا ولكنهم من معجزات الله في خلقه - عين ليبيا

من إعداد: يونس الهمالي

قال أحد الحكماء يوماً: كل مجتمع يُحكم عليه من خلال طريقة معاملته للذين هم أقل حظاً بين أفراده

A wise man once said every society is judged by how it treats it’s least fortunate amongst them

بدأت بوادر الأمل تشع بنورها في ليبيا، فأزداد عدد الدور التي تعتني بالمعاقين في ليبيا، وأصبحت نشاطاتها تظهر في الإعلام، فبدأت تحصل على الإهتمام والرعاية.. وعليه نحن لا ينقصنا الحنان على من هم أقل منا حظاً في الصحة الجسدية والعقلية، بل هي الإمكانيات واهتمام الدولة وتثقيف المجتمع.

رأيت أنه يجب أن أخصص مساحة لهم في تفكيري وأن أكتب عنهم.. فمنذ سنين طويلة ـ أي منذ حوالي خمس وعشرين عاماً وأنا أفكر في كتابة مقالة عن المعاقين، وبالذات الذين يعانون من أعراض التوحد Autism Syndromeـ هؤلاء الخجولين.. الذين لا يستطيعون النظر إلى وجهك إلاّ لفترة قصيرة في لمح البصر.. ثم يغضون النظر بعيداً عنك.

البيكاديللي سيركس ـ لوحة زيتية لستيفن ويلتشير ـ المصاب بمرض التوحد

 

منذ حوالي خمس وعشرين عاماً قامت قناة البي بي سيBBC  التلفزيونية في بريطانيا ببث برنامج عن هؤلاء المعاقين.. فاكتشفت أنهم ليسوا “صفراً على الشمال” كما يعتقد البعض.. فلهم أحاسيس .. ويفكرون.. ويتجاوبون..  بل أن بعضهم عباقرة بكل ما تعنيه الكلمة.. مثلما هو الحال عند ستيفن ويلتشير  Stephen Wiltshire الذي هو الآن فنان (نادر) وذو ثروة وجاه.. حتى وإن كان لا يهتم بهذا “الجاه” لأنه لا يعرف ما هو في عالمه الخاص. استلم ستيفن الوسام من الملكة اليزابيث ملكة بريطانيا العظمى.. وابتسامة عريضة ترتسم على محياه.. هذا الإنسان الرائع، الذي يحاول جاهدا أن يُسعد كل من هم حوله.

كما أن ستيفن يمتلك استوديو كبير للوحاته العالمية في أرقى أحياء لندن التجارية..(Covent Garden)..

تأثرت بالبرنامج إلى ما لا نهاية.. رغماً من أن “ستيفن” لم يبدأ في الرسم بشكل احترافي في لصغر سنه في ذلك الوقت .. ولكنني تأثرت لأهتمام الدولة بالمعاقين.. خاصة في ذلك الوقت عندما كنت أقارن ذلك مع ما يحدث في بلادنا في عهد الطاغية..

رأيت أن الدول التي لم يبتليها الله بحاكم جائر مثل الطاغية، تطورت في مجال رعاية هؤلاء المعاقين، فبنت لنفسها استراتيجيات للرعاية الصحية أساسها الصبر والبحث والإستكشاف، ومن ثم الرعاية والعناية بهم.. وهي تجني ثمار كل هذا لأنها قامت بالواجب تجاه مواطنيها أيِّ كانت ظروفهم الصحية والمادية.. جنت ثمار التعب بطمأنة أهالي المعاقين وكذلك باكتشاف العبقرية النائمة في بعض من هؤلاء الأشخاص، وأخرجت تلك العبقرية إلى الوجود ليتمتع بها (الأصحاء) مثلي ومثلك.. نحن (العاجزون) عن مضاهاتهم في تخصصاتهم التي عوضهم بها الله عن ما نتمتع به نحن.. فمن يا تُرى الأسعد فينا؟!

قارنت.. فوجدت أننا في ليبيا لا نقل عنهم ذرة من الحنان.. بل أن الحنان في جيناتنا وفي ديننا مترجم إلى آيات بينات.. حنان عارم وقوي .. ولكن ما باليد حيلة إذا كان الحاكم يرغب في التخريب والفتك بالمجتمع، وما بأطفال الأيدز في بنغازي عنك بالبعيد.. هؤلاء المساكين الذين كانوا متواجدين في المكان غير المناسب وفي الوقت غير المناسب.


لوحة مانهاتن في الولايات المتحدة عند إحدى زياراته لها..
لم يستخدم المسطرة إطلاقا ولا يعرفها أصلا..

عموماً.. احتفظت بالملف في جهاز الكمبيوتر .. حتى حان الوقت الآن لتعديله ونشره.. وبالمناسبة لا حظت أن قناة الجزيرة نشرت تقريراً مصوراً أيضاً عن ستيفن!(؟)

تتوارد الصور في ذاكرتي وتعود بي إلى أيام الطفولة والصبا في بنغازي ..

كنت في طفولتي أشاهد إمرأة فقيرة شعثاء الشعر.. حافية القدمين .. ولكنها تتمتع بمسحة من الجمال الطبيعي “الذابل” من هموم الحياة.. كنت أشاهدها بردائها الليبي المزركش الجميل الذي كاد طول الدهر أن يمزقه إلى شرائح متهدلة.. كانت دائماً تسير بخطوات مسرعة حافية القدمين في شارع بومدين في بنغازي.. حيث سكنانا.. وأحيانا أجدها في سوق الرويسات.. ومعها إبنها الذي كان في مقتبل العمر.. ربما في الخامسة عشر من عمره..بطاقيته الحمراء (الشنة الليبية).. حافي القدمين هو أيضاً.. ويرتدي قميصاً طويلاً مخططاً، والذي نسميه بلهجتنا الليبية (سورية)، وسروال (عربي فضفاض) أزرق اللون ..

حنان الأم (ذلك الحنان الجنوني الذي لا نهاية له) ذلك الحنان المغناطيسي العارم يدفعها إلى أن يكون إبنها ذلك المعاق ملاصقاً لها في كل خطوة تخطوها.. لقد أرتبط مصيرها بمصيره.. فعافت كل ملذات الدنيا من أجله.. وكان بإمكانها أن تتزوج أو أن تجد عملاً (ربما في معمل شفيق) لكي تحصل على مورد قوت لتتمتع بالحياة.. ولكنها أبت إلاّ أن تُضحِّي بكل ما يمكن أن تمنحه لها الدنيا من أجله..

هي لا تدري لماذا تُضحِّي من أجله كل هذه التضحية.. ولكنها تُضحِّي بالسليقة.. إنها الأمومة .. ذلك السر العجيب بين الأم وفلذة كبدها.. فالأمومة تمنعها حتى من التفكير في إرساله إلى (الملجأ) الذي يقع قرب (مدرسة الحميضة) في منطقة البركة التي ليست بالبعيدة عن مكان سكناها.

كان دائماً يمسك بطرف ردائها .. يتبعها كظلها وهو شارد النظرات.. كان قمحي اللون.. لفحته حرارة الشمس.. يسير معها بنفس السرعة ولكنك تعتقد أنه يركض.. أتذكر أنه كان يسير على مقدمة قدميه .. أي على أصابع قدميه.. فيندفع إلى الأمام حتى أنه يكاد أن يسقط على وجهه.. ولكنه لا يسقط ..وعندما تتوقف هي .. يتوقف هو أيضاً وكأن هناك فرامل يدوسها فجأة وبسرعة.. من جرّاء عدم التواصل بين المخ والجسم كما في حالة الإنسان السليم.. فهو لا يُدرك متى ستتوقف أمه.. فيهتز كامل جسمه عند وقوفه.. أو هكذا كان يتراءى لي في ذلك الوقت..

تاكسيات لندن ـ هكذا شاهدها ستيفن ـ لوحة معبرة يمكنك أن تنظر
إليها لأكثر من نصف ساعة لما تحتويه من حركة وفن تعبيري.. وتناغم الألوان..
تذكّر أنه لا يستعمل المسطرة.. لاحظ السياج الحديدي!

 

لا أدري إن كان من المصابين بأعراض التوحد.. فلا يوجد تشخيص في ذلك الزمان للأمراض.. “يا دوبك طالعين من إستعمار إيطاليا.. ويا دوبك نستلم في الغرامات القليلة من الرز المليء بالخنافس (السوس).. لكي نسد بها رمقنا ونلعق جراحنا التي خلفها الإستعمار..”

لا أحد يعرف في ذلك الزمان حالته تلك، فقط أعرف المصطلح الذي نطلقه في ذلك الوقت على من هم في مثل حالته.. فنصفه بـ (الهبل).. فنقول: هضا واحد هبل مسكين!!

كان هناك شخص آخر أخذ من (شجرة السدر) في سوق الرويسات سكناً له.. كانت هي السدرة الوحيدة في سوق الرويسات محاذية لسوق بيع وشراء (البشكليطات) الدراجات.. وكانت عليها أعلام الأولياء الصالحين لقداسة شجرة السدر عندنا في ليبيا.. والعجيب أن سكان (التيبت) المحاذية للصين يعلقون أعلاما مثلنا على بعض الأماكن..

عموماً .. كان هو الآخر مثل ذلك الصبي.. ولكنه كان كبير في السن.. كان يُطاردنا في الشوارع حينما كنّا نناوشه.. فنهرب منه بعيداً ونعود إلى حارتنا لنتفرغ للعب ((البطش والزغادي..)) أو نقوم بوضع قطع من الزجاج على السكة الحديدية ليسحقها القطار القادم من “جردينة” في طريقه إلى “الإستاسيوني” أي محطة القطارات المحاذية لوزارة الأشغال .. ويحوّل تلك القطع الزجاجية إلى مسحوق.. وهكذا كنا نختبر ونستكشف الأشياء.. أو نقوم بجمع عيدان المفقرقعات المتناثرة في ذلك الوقت في الخلاء والتي نسميها (التشتاش) الذي خلفته الحرب العالمية الثانية في بنغازي بالقرب من معسكر راس اعبيدة المحاذي لمنطقتنا والذي لا تفصلنا عنه إلا السكة الحديدية.. حيث كنا نقوم برص (حشو) التشتاش داخل علبة طماطم معجون.. التي تحمل صورة تلك الفتاة “الرومية” الجميلة ذات الخدود الوردية، ونقفلها بلف حواشيها إلى الداخل فوق بعضها البعض بضربها بقطعة حجر ثم ندق مسمارا صدئاً لإحداث ثغرة في نهايتها، ثم نغرس أحد أعواد (التشتاش) ونقوم باشعاله بالنار ونبتعد بسرعة لتطير العلبة كصاروخ يتعرج صاعدا إلى الفضاء، وتسقط العلبة بعيداً.. ـ لحسن الحظ!

مسكينة تلك المرأة، لو كان إبنها سليماً مثلنا لكان يشاركنا في اللعب وتفرح هي به وتهنأ في حياتها من ذلك العذاب الأبدي.. لا شك أنها كانت تشعر بالمرارة عندما كانت تشاهدنا نلعب وإبنها محروما من ذلك..

أيضاً.. كان هناك شخص آخر يقولون إنه إبن (سيدي اعبيد)، لم أعرف أن سيدي أعبيد لم يمت إلاّ منذ فترة وجيزه .. حيث أن إبنه لا يزال حياً.. كنت أعتقد أن سيدي أعبيد ولي صالح مات منذ مئات السنين فبنوا له مقبرة كبيرة.. وهي مقبرة سيدي اعبيد التي دُفن فيها والدي الذي أدعو له بالرحمة.. ولكن الطاغية هدم القبور التي في مقبرة سيدي اعبيد.. فحرمني من زيارة قبر والدي..

.. كان الناس يقولون أن ابن سيدي اعبيد هذا هو شخص “امرابط” ويمكن أن يقوم بإدخال كاشافيته (مفك براغي) في رقبتك ثم يسحبها ولا يحدُث لك شيء..
إلاّ أن الجميع كانوا يتفادونه ويهربون منه، حيث يفضّلون عدم الدخول في هذه التجربة التي ربما لا تُحمد عقباها.. حتى وإن كانوا يؤمنون بالأولياء الصالحين.. ( لا يا خويا.. أنت أمشيله.. خلليه ايخشش الكاشافيته في رقبتك أنت.. ).

لا يُمكنني نسيان مثل هذه المشاهد.. وكيف يُفسّرها الناس في ذلك الوقت.. فعندما شاهدت هذا البرنامج التلفزيوني في بريطانيا ربطت هذا البرنامج بتلك الذكريات وتلك المرأة وابنها المعاق ذهنيا.. والآخرين الذين كنت أشاهدهم.. وهؤلاء كما نعرف متواجدون في كل مجتمع في العالم.. فقررت الكتابة عن هذا الموضوع.. حيث ربما أولئك الأشخاص في ليبيا مصابون بمرض التوحد .. ولكن حظهم العاثر أنه لم يكن هناك أطباء يُشخّصون هذا المرض في ذلك الوقت.. لا أدري ـ فإيطاليا تركتنا في حالة يُرثى لها من التخلف فلم نعد نهتم بمرضانا ومن بينهم المصابين بمرض التوحد أو غيره.. ليس لأن المجتمع في بلادي لا يهتم بهم، ولكن لعدم توفر الإمكانيات حتى لسد رمقهم، فما بالك بالعناية بهؤلاء.. فاقتصرت العناية على تضحية الأم، وتضحية الأب إن كان حياً يرزق ولم يشنقه الطليان.. أو لم يكن مريضاً بمرض السل!!

قررت الكتابة في هذا الموضوع خاصة وقد لاح في الأفق بريق أمل في زيادة اهتمام ليبيا الجديدة الآن في عهد ثورة السابع عشر من فبراير المجيدة بالمعاقين ذهنيا وغيرهم.. وأصبحت لديهم دور أكثر من ذي قبل تهتم بهم.. فبارك الله في القائمين عليها.. ولي ثقة كبيرة بأن ليبيا ستتقدم بسرعة قياسية خلال سنوات عديدة.. فحالما تستقر المركب ستبدأ السرعة في الإزدياد..

آسف.. هذه كانت مقدمة فقط.. فإليكم بالموضوع:

لوحة تصور لندن من الجو ـ ربما شاهدها من هيليكوبتروكلها من الذاكرة.. ومن يعرف لندن سيدرك مدى دقة المواقع
لوحة تصور لندن من الجو ـ ربما شاهدها من هيليكوبتر
وكلها من الذاكرة.. ومن يعرف لندن سيدرك مدى دقة المواقع

أخيراً وضعت أصابعي على لوحة مفاتيح الكمبيوتر وبدأت أكتب.. وبين الفينة والفينة أتوقف لإجراء مزيد من البحث..

شخص واحد أردت أن أكتب قصته وهو (ستيفن ويلتشير Stephen Wiltshire) المصاب بأعراض التوحد (Autism)، والذي نشرت بعض من لوحاته أعلاه.. فهو فنان معجزة من معجزات الخالق سبحانه وتعالى.. وكأن الله عز وجل يريد أن يقول لنا: ماذا تعرفون عن قدراتي في خلقي.. فربما تعتقدون أن كل مُعاق لا فائدة منه.. وفعلاً لله في خلقه شؤون. ستيفن ويلتشير يرسم كل ما يشاهده وكأنه صورة طبق الأصل مما شاهده، وكله من الذاكرة Photographic Memory .. حيث يرسم بناية مثلاً شاهدها لعدة دقائق فقط.. وستجد عدد النوافذ مطابق تماماً لنوافذ تلك البناية.. فكيف قام بحساب عدد النوافذ والمكونات الأخرى في الصورة وبسرعة فائقة.. ثم حوّلها إلى لوحة رائعة.. مع العلم أن هناك بنايات كثيرة في اللوحة..

ستيفن لا يعرف كيفية التواصل اجتماعياً مع الناس، تجده دائماً يُبالغ في الترحيب بك لينال رضاك بطيبته.. ولا يستطيع أن يتناقش معك في أي موضوع مهما كان بسيطاً.. كل ما يقدمه لك هو ابتسامات رائعة لا شك في صدقها..

ولكن حدث ما لم اتوقعه.. ففي الطريق.. خلال محاولاتي البحث عن خلفية ستيفن، شدتني قصة فتاة مصابة أيضاً بمرض التوحد.. وهي توأم، ولكن أختها طبيعية.. وعليه سأتحدث عن قصة ستيفن ويلتشير في آخر هذه المقالة.. لأن قصة هذه الفتاة شدتني وأرغب في التحدث عنها أولاً..

كارلي (Carly) فتاة خرساء.. مصابة بأعراض التوحد..وإذا ما حاول أبويها تهدئتها خوفاً من أن تصيب نفسها بأذى، فإنها تدفعهم بقوة بعيداً عنها.. وتستمر في التقلب على الأرض، وتنزع ملابسها ثم تهرب إلى الحمّام عارية تماماً.. أو أن ترقد على ظهرها وتظل تضرب برأسها على الأرضية بقوة حتى أنك تعتقد أن رأسها سيتهشم.. (شاهد الفيديو).


يا إلهي ماذا يمكن لأبويها أن يفعلا.. هذه إرادة الله.. فواجبهما كأم وأب هو أن يمنحاها كافة ما يمتلكانه من حنان وحب وجهد في سبيلها.. من المستحيل أن يحتفظا بالتوأم السليمة ويتخلصا من التوأم المصابة بمرض التوحد.. فهي إبنتهما وسيقدما لها كل ما يملكان..

كندا دولة متطورة، ولها نظام رعاية صحية وطبية رائع.. مثلها مثل دول الغرب المتطورة.. تتوفر لديها كافة متطلبات الحياة ورعاية المرضى والمعاقين.. أبناء الوطن سواسية.. لا فرق.. كل يتحصل على الرعاية الطبية طبقاً لإحتياجاته.. فلا حاجة للتصفيق للصقر الوحيد عندهم..

لا أحد في الدولة يعزي علاج المواطنين لنفسه.. ليحصل على المديح.. كل ما يتحصل عليه المواطنون في الدولة هو نتيجة للقوانين والأنظمة التي تُسير أمور الدولة.. استراتيجيات خضعت للإمتحانات والنماذج التطبيقية والتجارب والإستفتاءات الخ.. الخ.. من أجل توفير الكماليات للمواطن.. ولكي ينتج المواطن .. أي كان.. حتى في مثل حالة ستيفن.. أو كارلي..

بدأت العائلة في إرسال هذه الفتاة منذ طفولتها للحصول على تمارين بدنية لتسهيل حركة جسمها، وأصابعها.
يقول والدها: هناك ثلاثة ممرضين يتناوبون على القيام بالتدريبات والتمارين العضلية لجسمها.. أي حوالي 50 ساعة في الأسبوع.. ومع ذلك فإن التطور والتقدم لم ينل حظاً كبيراً.. فهي بطيئة جداً..

واستمرت في عمليات الركل .. والقفز .. وتهشيم جمجمتها ـ أو هكذا يعتقد المرء ـ إلى أن بلغت الحادية عشرة من عمرها.

عندما بلغت الحادية عشرة أتوا لها بجهاز كمبيوتر، وطلبوا منها أن تكتب أي شيء.. ليعرفوا إن كانت قد استوعبت أي تعليم.. وكان القصد هو مجرد أن تتسلى به وأيضاً بمثابة راحة الضمير لوالديها ليمنحاها ما يمنحانه لأختها التوأم..

ولكن كانت هناك مفاجأة صعقت الحضور..

فكتبت بسلاسة وعقلانية لا تُصدق: “أريدكم أن تُعاملوني كفتاة طبيعية.. أنا إنسانة عادية.. فقط نحن عقولنا مركبة بشكل يختلف عن تركيبة عقولكم.. ”

واستطردت:

“أنا لا يمكنني النظر في وجوه الأشخاص الآخرين لفترة طويلة كما ترون.. لأنني التقط آلاف الصور لوجه الشخص خلال ثواني معدودة.. وهذا شيء مزعج لا يُطاق ولا يُحتمل.. هذا هو السبب..”

“أنني أتخبّط على الأرض وفوق السرير وأقوم بكل هذه الحركات لأن هناك أشياء في عقلي تجعلني أفعل ذلك.. ماذا تريدونني أن أفعل؟.. هذا ليس ذنبي فهذه هي تركيبة مخي.. هذا شيء مفروض عليّ.. هكذا هي عقولنا.. إنني استوعب أضعاف أضعاف ما تستوعبونه أنتم وبسرعة.. وعليه يجب أن اتخلص من هذه الكميات التي استوعبها في شكل حركات قوية كما تشاهدون.. هذا هو كل ما في الأمر”.

صرخ الأب: “يا إلهي إبنتي عادت إليَّ .. لم أفقدها .. إبنتي طبيعية تعيش في جسم غير جسمها الذي من المفروض أن يُطابق عقلها..”

ومنذ تلك اللحظة بدأت في التواصل مع والديها عن طريق الكتابة على الكمبيوتر.. والخروج في رحلات معهم حسب طلبها..

ويمكنكم الإطلاع على هذا الفيديو

وهذا هو عدد المشاهدين حتى اليوم: 2,110,510 أي أكثر من مليوني مشاهدة حينما أطلعت على الفيديو.

هذه معجزة من معجزات الله في خلقه، وهذا اختبار لنا كلنا.

وبالمناسبة هناك فيديوات أخرى عن كارلي.

ولنعود إلى ستيفن ويلتشير الذي شاهدتم بعض من لوحاته أعلاه ـ وهو معجزة أخرى:

ستيفن، في طفولته كان دائم الصراخ هو أيضاً، وكان رأسه يتحرك إلى الأمام وإلى الخلف في حركات أوتوماتيكية باستمرار..

عرفت قصته في البرنامج الذي حدثتكم عنه في بداية هذه المقالة، والذي بثته قناة الـ بي بي سيBBC  في نهاية الثمانينات، والذي يمكنكم مشاهدته على الوصلة التالية في اليوتيوب Youtube، وقصة ستيف تبدأ من الدقيقة السادسة ولكن كلا الحلقتين تستحقان المشاهدة:

أنظر إل الخطوط المستقيمة في لوحته برسم العمارات.. لا مسطرة ولا هم يحزنون.. حتى القلم لا يمسكه بالطريقة السليمة..
أنظر إل الخطوط المستقيمة في لوحته برسم العمارات.. لا مسطرة ولا هم يحزنون.. حتى القلم لا يمسكه بالطريقة السليمة..

خُصص البرنامـج لثلاثة أطفال: أحدهم تسأله عن أي تاريخ، مثلاً تسأله أي يوم من الأيام يوافق تاريخ معين، فيجيبك بأنه كان يوم خميس أو يوم أحد أو يوم جمعة.. وعندما تقوم بحساب ذلك الكترونيا ستجد أن ذلك اليوم فعلاً مطابق لما هو مذكور في التقويم التاريخي.. وبالمناسبة الجواب يأتيك بسرعة وبدون تفكير..

وهذه الحالة تنطـبق على (كيم بيك Kim Peek) الذي صـورت قصـته في فـيلمThe Rain Man الذي مثل دوره (دستن هوفمان Dustin Hoffman).

وهذه الظاهرة تنطبق على الكثير من هؤلاء المعاقين وأحدهم بالمناسبة يعيش في قريتنا.. وكلما قمت بتوصيله إلى البلدة القريبة (فهو لا يثق في كل شخص ولا يُسافر إلى البلدة القريبة إلى في الأوتوبيس، ولكنه يقبل السفر في سيارتي لأنه يثق في تماماً.. واتمتع برحلتي معه حيث يحدثني عن أشياء كثيرة عن ليبيا وكأنها شريط مصور في رأسه.. ومن بداية الرحلة إلى نهايتها لا أحصل على فرصة الحديث معه.. فهو يتحدث بشكل متواصل عن ليبيا ومصر ودول أخرى بسرعة)..
سألته مرة عن أرقام اليانصيب في الأسبوع القادم: فقال: لا أدري!
يا خسارة!!

عموماً العلماء لا يعرفون بالضبط كيف يحدث ذلك.. أي معرفة الأيام المطابقة لتواريخ معينة.

والطفل الثالث في البرنامج لا يعرف الموسيقى إطلاقا، ولكن إن عزفوا أمامه مقطوعة موسيقية فإنه سيتمكن من عزفها تماماً بطريقة أفضل من أي عازف موسيقى. وشاهدته (كما ستشاهدونه أنتم أيضاً) يعزف بيد على البيانو وباليد الأخرى على القيثارة التي وضعها فوق ركبتيه وهو جالس.. وفي تناغم رائع بين البيانو والقيثارة.. أرجو الإطلاع على ذلك في نفس الفيديو..
قام العلماء بالمقارنة بينه وبين فنان موسيقي محترف .. فعزفوا مقطوعة أمام الإثنين.. ففشل المحترف ونجح الصبي المصاب بمرض التوحد..
سبحانك الله..

كان ستيف في مدرسة الأطفال المعاقين دائم الصراخ كما ذكرت، وهكذا كانت حالته كل يوم، فلا هدوء في المكان.. ولا رحمة بالعاملين.. خاصة وأنه لا يتعب من الصراخ المستمر مهما حاولوا تهدئته. في أحد الأيام شاهده أحد العاملين الزائرين يصرخ، فأعطاه ورقة وقلم.. وكانت المفاجأة.. توقف الصراخ.. وبدأ الطفل في الرسم.. ولم يصدق المدرسون مدى الإتقان في الصورة.. رغماً من صغر سنه وإعاقته..

منذ تلك اللحظة أصبحوا يعطونه كتاب وأقلام وألوان للرسم.

يقول أحد أصدقاء عائلة ستيف: أنا دائماً أعرف أين سافر ستيف عندما يكون في الخارج.. فحالما أشاهد الصور التي رسمها في سفره أعرف أي بلد سافر إليه.. فمثلاً شاهدت صورة رائعة لمدينة نيويورك بتاكسياتها الصفراء فعرفتها حالا.. وهكذا..

يمكنكم مشاهدة لوحات ستيفن بزيارة موقعه:

www.stephenwiltshire.co.uk

وبالمناسبة تخلّص ستيفن من حركة رأسه التلقائية تلك التي حدثتكم عنها أعلاه..

ربما كان ذلك عامل نفسي يُعبر عن عدم سعادته في ذلك الوقت.. وحالما اكتشف نفسه ومواهبه وسعادة من هم حوله أصبح هو أيضاً سعيداً دائم الإبتسام..

أخذوا ستيف في رحلة بطائرة هليكوبتر فوق لندن لفترة ربع ساعة فقط.. وعادوا به إلى غرفة واسعة .. وجهزوا له صفيحة من الورق طولها عدة أمتار في شكل نصف دائري، وطلبوا منه أن يرسم لندن كما شاهدها من طائرة الهيليكوبتر..

جلس ستيف وبدأ يرسم.. يقول أحد كبار المعماريين في لندن .. “ستيف لا يستخدم مسطرة.. فيرسم البناية العالية مثلاً بخطوط مستقيمة .. وبعمق لا يستطيع حتى المعماري المحترف القيام به..”.

وبعد أن أكمل ستيفن الرسمة الرائعة لمدينة لندن يشقها نهر التيمز.. (اللوحة منشورة أدناه) فتحوا الأستوديو للجمهور لمشاهدة هذه اللوحة الرائعة.. وكانت كاميرا التلفزيون تسجل لقاءات مع الجمهور..

جاء شاب وخطيبته .. وقال: “أنا أتيت هنا لأشاهد عمارة كان أبي يعمل فيها.. وأريد أن أحسب عدد النوافذ”.
وقام بعد النوافذ فاندهش لأن العدد كان مطابقاً تماماً لعدد نوافذ تلك العمارة..

الخلاصة:

لا يُمكننا الغور في أحاسيس هؤلاء.. لا يُمكننا معرفة طريقة تفكيرهم..

ولكن يمكننا أن نُخفف من معاناتهم ومعاناة ذويهم..

كل منا يتعاطف ويُساعد بقدر ما يمكن.. لُنصبح مجتمعاً راقياً بكل معنى الكلمة..

تذكر:

أن كل إنسان مهم.. وكل حياة ترنو إلى العطف والحنان..



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا