معركة الشرعية بين المجلس الوطني والمجالس المحلية المنتخبة - عين ليبيا

من إعداد: د. يونس فنوش

منذ بداية شهر يناير الماضي تحدثت عن قناعتي بأن الأزمة الحقيقية التي بتنا نواجهها ونعاني من آثارها وانعكاساتها السلبية هي ما أسميته “أزمة الشرعية”. فالحقيقة التي نعيشها، وعايشناها بتفاصيلها منذ اندلاع الثورة المباركة، هي أن المؤسسات التي أخذت تتولى المسؤولية في مختلف أنحاء البلاد، وعلى مختلف الأصعدة: من الصعيد الوطني الشامل إلى الصعد المحلية على مستوى المدن والمناطق، هي كلها مؤسسات لا تمتلك الشرعية الحقيقية، ونعني بها الشرعية المستمدة من رأي أو اختيار أغلبية الشعب، المعبر عنها بأسلوب الاقتراع السري المباشر، المكفولة له كل ضمانات النزاهة والشفافية والدقة والتنظيم.

في بداية الثورة كنا بحاجة ملحة وعاجلة إلى وجود هياكل وأطر تتولى المسؤولية، بعد أن وجدنا أنفسنا في مواجهة الفراغ الهائل الذي نتج عن انهيار الدولة بكامل مؤسساتها وأطرها التشريعية والتنفيذية. وبتوفيق الله وعونه، وصفاء الحس الوطني عند الغالبية الساحقة من المواطنين، وجدنا مواطنينا في مختلف المدن التي أخذت تتحرر واحدة بعد أخرى، يتفقون على تشكيل مجالس محلية، يختارون لها من بينهم العناصر التي يجدونها جديرة بثقتهم في قدرتها على تحمل المسؤولية في تلك الظروف البالغة الصعوبة. ويشهد الله أن تلك المجالس قامت بأدوار رائعة، سوف يسجلها لها التاريخ، فقد ملأت الفراغ الذي ورثناه عن الدولة المنهارة، وبذلت جهوداً جبارة في تسيير شؤون الحياة المختلفة.

وبعد أقل من أسبوعين من اندلاع الثورة، وتحرر المنطقة الشرقية من البلاد بكاملها، وجدنا أنفسنا مرة أخرى نرتفع إلى مستوى المسؤولية التاريخية، ونتفق على تشكيل “مجلس وطني انتقالي”، خولناه مهمة تمثيل دولة الثورة على الصعيد الوطني، وعلى الصعيد الدولي، ولم نجد في ذلك الحين أي غضاضة في أن يتكون هذا المجلس بالطريقة ذاتها التي تكونت بها المجالس المحلية، أعني طريقة الاختيار العفوي والتوافق الشعبي العام، فاتفقنا على تسمية المستشار مصطفى عبد الجليل رئيساً له، والسيد عبد الحفيظ غوقة ناطقاً رسمياً، ثم لم نبادر إلى إبداء أي احتجاج أو نقد عنيف لإخوتنا المواطنين الذين اختارهم السيد مصطفى عبد الجليل، لا ندري وحده أو بالتشاور مع المجالس المحلية، ليكونوا أعضاء في المجلس الوطني الانتقالي، بل لعلنا اتجهنا جميعنا إلى تحية كل من قبل تسميته في المجلس الوطني، وقبل بروز اسمه وصورته، في ذلك الظرف الصعب، الذي كان فيه كثيرون يختفون ويختبئون، متربصين لمراقبة كيف تتطور الأمور، وإلى أي جهة يرجح ميزان القوة والنصر.

لكن الأمور والمعطيات كلها قد تبدلت تماماً بعد تحقيق النصر النهائي على نظام الاستبداد، وشروعنا في اتخاذا الخطوات الأولى لتأسيس الدولة. وعلى الرغم من أننا وجدنا أنفسنا مقيدين وملزمين بتنفيذ خارطة الطريق التي أعلنها المجلس الوطني، بما تضمنته من حديث عن مراحل زمنية يفترض أن تمر بها مرحلة التأسيس، إلا أن الغالبية العظمى منا رأت أن المصلحة الوطنية تفرض علينا ألا نعرقل أنفسنا، وألا نغرق في دوامة الجدل حول بنود الإعلان الدستوري، ومادته الثلاثين الشهيرة، وفضلنا التوجه بأنظارنا إلى الأمام، فأخذنا أن نتجادل ونتحاور ونختلف ونتفق حول تطبيق تلك المادة، فخضنا معركة تعديل قانون الانتخابات، وشرعنا في خوض معركة تحديد الدوائر الانتخابية، ونحن نشاهد كيف أن المجلس الوطني، لا يساعد مطلقاً في تسهيل الأمور، ويماطل في اتخاذ الخطوات التي ينبغي عليه أن يتخذها، بالسرعة والحزم اللازمين. حتى أخذت تراودنا الشكوك في قدرتنا على إنجاز الاستحقاق الانتخابي الأول، المتمثل في انتخابات المؤتمر الوطني العام، ومن ثم الشكوك في مآل الثورة والبلاد، إذا ما احتدم الخلاف بيننا حول إجراء الانتخابات دون توفر الحد الأدنى من الظروف اللازمة لسلامتها ودقتها وشفافيتها، أو تأجيلها لفترة لا يعلم مداها إلا الله.

ولقد عبرت عن قناعتي بأن الحل الوحيد الذي نراه ممكنا لأزمة الشرعية هو المضي قدماً في تحقيق تلك الشرعية، بدءاً من أدنى المستويات، وهو المستوى المحلي في المدن أو المناطق، وانتهاء بالمستوى الوطني، أي المجلس الوطني الانتقالي. وقلت إن علينا أن نشرع فوراً في تنظيم انتخابات حرة ونزيهة وشفافة في كل المدن، لانتخاب مجلس يمثل إرادة السكان في كل مدينة أو منطقة. ثم يقوم كل مجلس من هذه المجالس باختيار عدد من أعضائه المنتخبين، ليمثلوا المدينة في المجلس الوطني. ونأمل أن نصل في نهاية المطاف، إذا تمكنا من تنظيم انتخابات في كل المدن والمناطق، لتكوين مجلس وطني من أعضاء منتخبين في مدنهم، يمتلكون الشرعية الحقيقية لتمثيل السكان، وبالتبعية سوف يمتلك هذا المجلس الوطني الشرعية المطلوبة، ولن يعود من حق أحد أن يشكك في شرعيته، وسوف نتفق جميعنا على تخويله، أي ذلك المجلس الوطني المكون من أعضاء منتخبين، صلاحية ممارسة السلطة فيما تبقى من المرحلة الانتقالية، وأهم خطوة فيها تشكيل أو انتخاب الجمعية التأسيسية التي ستضع الدستور الدائم.

بيد أن المعلومات الواردة من أروقة المجلس الوطني تشير إلى أن ثمة مقاومة ورفضاً لفكرة إحلال ممثلي المدن المنتخبين، محل إخوانهم الذين تبرعوا بتمثيل المدينة في المجلس طوال المرحلة الماضية. هذا ما حدث مع ممثلي مدينة مصراته. وهو مؤشر بالغ الخطورة على أن ثمة داخل المجلس الوطني من له مصلحة في عدم الاعتراف بشرعية ممثلي المجالس المحلية النابعة من الانتخاب الحر المباشر، ربما من أجل التشبث بالكرسي أو المنصب، أو لتحقيق مآرب أخرى.

ومهما كان الدافع وراء ذلك، فإنني أرى أن على مختلف القوى الوطنية النشطة في الساحة السياسية على جميع الأصعدة المحلية والوطنية، أن تقف بقوة وحزم لرفض هذا التوجه، ومقاومته بكل السبل الديمقراطية المشروعة. فليس من حق المجلس الوطني، ولا من حق رئيسه، أن يرفض تمثيل الأعضاء المنتخبين انتخاباً شرعياً مدنهم في المجلس الوطني. وعلى كل المدن التي لها مجالس منتخبة أن تصر على حقها في اختيار ممثليها في المجلس الوطني، وأن تقف دون ذلك وقفة قوية صامدة.

وإني أبدأ بحث إخواننا في المجلس المنتخب لمدينة مصراته، أن يتمسكوا بحقهم في اختيار ممثلي مصراته في المجلس الوطني، وألا يتسامحوا في هذه المسألة بأي شكل من الأشكال. لأن معركة الشرعية، كما قلت في عنوان هذه المقالة، تبدأ من هذه النقطة، أي الاعتراف بشرعية المجالس المنتخبة، واعتمادها معياراً للتمثيل في المجلس الوطني.

للتواصل مع الكاتب:

البريد الإلكتروني: yfannush@yahoo.com

هاتف: 0925121949



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا