معزوفة الظلم! “قصة قصيرة” - عين ليبيا

من إعداد: د. عبيد الرقيق

كان شغوفا بالمتابعة حريصا أن لا تفوته الأخبار. نهض من فراشه أدار مفتاح التلفاز على عجل يترقب أخبار انتفاضة شعبية اشتعلت في دولة مجاورة. ينتظر كل جديد يعجَل بسقوط النظام. بنهم شديد شرع في قراءة شريط الأخبار الذي غلب عليه اللون الأحمر في إشارة إلى العاجل المتوالي!.

يشدَه شوق عميق إلى نفحة أمل تنفخ فيه روح الثورة من جديد, بعد أن قتلت فيه سنين طويلة! يشتد معانقة لشاشة التلفاز, فيلتقي نظره مع خبر عاجل فحواه, “اندلاع الثورة في وطنه!” فيتسمر مشدوها يفرك عينيه مرة ومرات ثم يصيح بصمت شديد! الشعب يريد إسقاط النظام..!. لم يتمالك نفسه فتنطلق يداه لتغير قناة التلفاز لتأكيد الخبر من قناة أخرى ثم قنوات… أربكه الحدث فعجز أن يقرر حينها أين الوقوف؟!.

مهرولا, خرج إلى الشارع , تخيَل أن الجموع سبقته!, لكنه تسمَر في مكانه ثم مشى مترددا خطوات وخطوات! هل يمضي إلى الأمام أم يعود للخلف؟! وهل الباب لا يزال مفتوحا؟!. جفَ ريقه فتمنى شربة ماء بارد, لكنه أحس بماء ينسكب بين يديه التي عجزت عن حمل الكأس! تصبب عرقا, انه الخوف المعشش في النفوس طيلة عقود, فمن يقوى على مقارعة الخوف المتراكم من ذاك السلطان؟!

كتم أنفاسه وأشاح بوجهه إلى اليسار, فإذا بغمامة تشكَلت في الأفق, تنبئ بإنهمار المطر.. المطر الذي لن يكون بدون قصف الرعد وشرر البرق فمن يا ترى يحميه ؟! آه ما أروع أن تستمع لصوت تساقط حبات المطر على الأرض الجدباء وما ازكي أن تستنشق بعمق عطر الأديم المتراقص في خيلاء!.. انه بوح الوطن الساكن في حنايا القلب, والأضلع العوجاء أقواس للنصر!.

لم يستفق من الصدمة إلا بعد أن وجد نفسه في زنزانة بأحد السجون!.. فإذا الوجوه التي أمامه ليست بالتي يألفها!, لقد تغيَرت وتغيَر معها أسلوب الزمان والمكان!.. لكنه كم هو محظوظ, هذا الذي لم يطل زمن اعتقاله.. فالشكر لله ثم الثورة التي عجلت بسقوط الحاكم وأختصرت زمن الاعتقال!.. هاهي أبواب السجن تفتح عنوة فيتنسم السجناء الحرية ويعانقون الحياة ..لقد أصبح الصبح ..فلا السجن ولا السجان باق!.. ها قد رحل النظام ورحل معه السجانون, لقد انتهى عهد وانقضى..وأطل عهد جديد.

يريد ان يبدأ مسيرة حياته الجديدة, انه يستشعرها حلوة مرفهة وميسرة. انه ألأمل بعد طول رجاء! لكن صدمة الواقع كبيرة!..حيث تعم الفوضى وتختلط الأمور ويبرز لصوص الحروب من بين الجثث والركام!..يتصيَدون الفرص ويلبسون ثياب في ظاهرها الثورة وفي باطنها الحقد المغلف بالطمع حد الجريمة!..هل يتحول ذلك الأمل إلى ما يشبه الحلم, إنه يجد نفسه مكبلا بقيود من نوع آخر كأنه يعيش تجربة اعتقال جديدة في سجن كبير بحجم الوطن!.. الوجوه قد تغيرت!.., لكن الأسلوب وطريقة الاستجواب والتحقيق لم تتغير!.. هذه المرة الكيد بالمكشوف والوشاية بقوة السلاح والانتقام ليس مصنفا!.

يبكي بحرقة فينسكب الدمع مهراقا على وجنتيه, يستذكر الماضي والحاضر فيتحجر سيل الذاكرة, يتمتم بصوت تخنقه العبرات فيقول “ما أقسى أن يسجن الوطن فينا!.. أو أن يتضخم السجن, ليصبح بحجم الوطن!.. حين يفتقد الأمن والأمان..تضيع الأوطان, وتصبح “معزوفة الظلم” للخوف عنوان!.. هل يتحول الشعب كله إلى ضحية؟!.. او كله إلى جلاَد؟!.. فقط لأنه الشعب! يتساءل بمرارة.. ثم يقول: ألا إنني من هذا الشعب, لكني مفتون بحب الوطن حتى الهوس! فمن يا ترى ينازعني في ذلك؟!



جميع الحقوق محفوظة © 2025 عين ليبيا