مكائد دول الاستبداد.. السودان مثلاً - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

لفهم مدى تجبر دول الاستبداد العربي وإمعانها في تخريب الانتفاضات الثورية في ليبيا وتونس والسودان واليمن نعرض تسلسل المؤامرات في السودان التي تزخر بمثقفين وحركة نسوية متقدمة من كل الطوائف ونشطاء من كل القبائل الأفريقية مثل الزغاوة والمساليت والقرعان والبرقو والزاندى والمادى والكاكوا والتوبسا والاشولي واللاتوكا والانجواك والبيجا، إضافة الى القبائل البدوية العربية في دارفور مثل النوير والجنجويد، إلا أنها لا تعدم وجود أصحاب الأنفس الضعيفة أمام الصيت والمال.

في يوم الإثنين الماضي السادس من ديسمبر أحيا شرفاء السودان الذكرى الثالثة لإندلاع الثورة السودانية، وكانت وقفة مليونيه بالخرطوم لرفض حكم العسكر، الذكرى الثالثة لبداية الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، في أبريل 2019.

ترجع إخفاقات عمر البشير بتمادي اللعب بالمتناقضات بين دول الخليج الفارسي، بين قطبي التنافر؛ إيران وقطر وتركيا من جهة والأمارات والسعودية إضافة إلى مصر من جهة أخرى. في سنة 2010 بدأت الخرطوم التي كانت تعاني من ضائقة مالية بعد فقدان معظم إحتياطياتها النفطية عقب انفصال جنوب السودان، تتقارب مع السعودية والإمارات، وفي غضون أشهر قليلة من بدء الهجوم الذي قادته السعودية على اليمن سنة 2015 تبرع السودان بما يقارب 10000 جندي لدعم التحالف، مقابل دفع رواتب الجنود وتوفير الودائع المباشرة في خزائن الدولة السودانية ودعم السلع الأساسية.

عند قطع العلاقات السعودية الإماراتية مع قطر توقعت السعودية والإمارات أن تأتي الخرطوم إلى جانبهما ضد قطر وإيران، إلا ان البشير قرر في يونيو 2017  البقاء محايدًا في أزمة قطر، مما أثار غضب الإمارات والسعودية. انتقاما عليه توقفت الرياض عن دفع رواتب الجنود السودانيين، وبحلول عام 2018 قدر المسؤولون الإماراتيون أنهم قاموا بتحويل 7 مليارات دولار الى السودان. عندها أقنعت السعودية والإمارات بأن البشير غير موثوق فيه ويجب استبداله، وبذلك أوقفت الإمارات في ديسمبر 2018 شحنات الوقود إلى السودان مما تسبب في أزمة خانقة، وفي مواجهة النقص الحاد في النقد الأجنبي والعجز والديون الساحقة قطع البشير الدعم عن الخبز، مما أثار أول مظاهرات الثورة السودانية.

مع ظهور الانتفاضة، فقد البشير حلفائه القلائل المتبقين، وفي 24 ديسمبر 2018، خرج محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي رئيس قوات الدعم السريع شبه العسكرية لدعم مطالب المتظاهرين، أصبح من الواضح أن ولاء الجيش والأجهزة الأمنية للبشير كان مهتزًا ولا يعول عليه، واستمرت الانتفاضة إلى سقوط نظام البشير في ابريل 2019م.

محمد حمدان حميدتي قائد مليشيات الجنجويد هو الذي شارك في حرب اليمن مع الإماراتيين وأرسل إلى ليبيا مليشيات الجنجويد المعروفة باسم قوات الدعم السريع جنبًا إلى جنب مع جيش حفتر الذي يحظى بدعم من مصر والإمارات وروسيا.

في 7 أبريل 2019، بعد يوم واحد من بدء المتظاهرين الثوريين اعتصاما أمام مقرات الجيش في الخرطوم، ترأس الفريق جلال الدين الشيخ “نائب رئيس جهاز الأمن” وفدًا من ضباط الجيش والاستخبارات في زيارة للقاهرة حيث طلب دعم مصر والسعودية والإمارات للانقلاب على البشير. أفادت التقارير أن الدول الثلاث تواصلت مع عبد الفتاح البرهان، وهو جنرال عسكري كان قد نسق عمليات الجيش السوداني في التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.

بعد ذلك بأيام قليلة أي في 11 أبريل 2019م، أطاح قادة الأجهزة العسكرية والأمنية بالبشير، وكان على راس العسكر البرهان وحميدتي، ونصبوا مجلسًا عسكريًا انتقاليًا لحكم البلاد. شجع الدعم الإماراتي والسعودي المجلس العسكري الانتقالي – الذي حل محل البشير في الأسابيع الحرجة التي أعقبت سقوطه – على قمع المتظاهرين وأسفر عن مقتل 130 شخصا على يد قوات حميدتي في 3 يونيو 2019، وعرقلة المطالب الثورية للحكم المدني، وتمكين ظهور اتفاقية لتقاسم السلطة التي لعب فيها الجنرالات دوراً مهيمناً.

أعطى هذا التغيير فرصة للإمارات والمملكة السعودية ومصر لإدخال السودان في النهاية إلى محورها، لذلك ألقوا بثقلهم وراء المجلس العسكري الانتقالي، وعلى وجه الخصوص على حميدتي، الذي حصل بالفعل على موارد مالية كبيرة في العام الأخير من حكم البشير بفضل نشر قوات الدعم السريع في اليمن وصادراته من الذهب السوداني إلى دبي. في غضون عشرة أيام وعدت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بتقديم 3 مليارات دولار من المساعدة المباشرة للنظام الجديد.

في اتفاقية تقاسم السلطة التي تمت في أغسطس 2019، احتفظ العسكر بنفوذ كبير: عبدالفتاح البرهان رئيسا للمجلس العسكري الانتقالي، بمثابة رئيس مجلس السيادة الجديد – ورئيسا بحكم الواقع – وأصبح حميدتي نائب رئيس مجلس السيادة، لأول 21 شهرًا من المرحلة الانتقالية، وتم الاتفاق على أن يتم تعيين مجلس الوزراء من قوى الحرية والتغيير.

بعد التوقيع على الإعلان الدستوري، الذي وضع خارطة طريق لمؤتمر دستوري وانتخابات، قدمت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية الدعم للحكومة الجديدة براسة حمدوك، حيث قامت بتحويل 200 مليون دولار شهريًا نقدًا وإعانات للسلع إلى الحكومة في النصف الثاني من عام 2019 م. تماشيًا مع هذا التوافق الجديد رفضت الحكومة السودانية عرضًا لإرسال وفد إلى قطر مقابل مليار دولار كتمويل، وتغلغل تأثير الإمارات في المشهد السياسي السوداني عبر حميدتي، الذي وصفه دبلوماسي بأنه “عميل ووكيل الإمارات”، معززاً مكانته كلاعب مركزي بفضل قدرته على شراء المعارضين والمنافسين المحتملين.

للضغط على الحكومة المدنية أنهت الإمارات والسعودية رسمياً دعمهما المباشر للحكومة السودانية في ديسمبر 2019 دون تفسير بعد أن صرفت نصف مبلغ الثلاثة مليارات دولار التي وعدت بها فقط؛ غير أن حميدتي قدم عرضاً بإيداع مئات الملايين من الدولارات في البنك المركزي لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، وهو جزء من برنامج تلميع العسكر.

إن الخلافات بين مكوني السلطة الانتقالية، كَبّلَ المكون المدني عن القيام بوظيفته في التحوّل الديموقراطي، كإنهاء ملف النهب والسيطرة على أملاك الدولة من رجالات البشير، ولم يتم تعيين نائب عام ولا رئيس للقضاة، وكذلك لم تتشكل المحكمة الدستورية وهو مناظر لما حدث في ليبيا من حفتر وفي تونس قبل انقلاب قيس سعيد، ولم يتوحد الجيش بل بقيت قوات التدخل السريع التابعة لحميدتي مليشيات خارجة عن الدولة وهو مرادف لجيش حفتر في ليبيا، وأيضاً لم تُستكمل التحقيقات في مجزرة القيادة العامة 2019، وتُتهم بها قوات التدخل السريع، وقضايا كثيرة.

مع تلاشي نفوذ قطر وتركيا، فإن خطوط الصدع السياسي الناشئة داخل السودان هي مصدر الخلافات بين دول الاستبداد العربية. ترى الحكومة المصرية المقربة تقليديًا من الجيش السوداني أن حميدتي لا ثقة فيه، وأقامت علاقة مع البرهان، وأصبح التنافس بين البرهان وحميدتي أكثر وضوحا منذ أبريل 2020، ويشير إلى أن ترتيب القوة الحالي غير مستقر ويمكن أن يؤثر على العلاقات بين مصر وشركائها الخليجيين.

لمحاولة تقويض امل السودانيين في تنفيذ بنود اتفاق الانتقالي والذهاب الى انتخابات تم الايعاز الى البرهان (المفضل عند مصر) للقيام بانقلاب في 25 أكتوبر 2021، إذ أعلن البرهان عن انقلابٍ عسكري، حيث جمّد النقاط الأساسية في الوثيقة الدستورية، وفرض حالة الطوارئ، وحل مجلس السيادة والحكومة، وبالتالي أنهى المرحلة الانتقالية، والتي وصلت إلى لحظة تسليم مجلس السيادة للمدنيين في أكتوبر القادم. وبذلك أنهى البرهان بانقلابه أمل التغيير وأعاد السودان إلى عهدة البشير وسياساته، وهذا كذلك مناظرا لما حدث في تونس.

بتاريخ 21 أكتوبر بدأت الاحتجاجات تتوسع في المدن السودانية، منذرة المكون العسكري بألا ينجز الى الانقلاب وتحدى مئات آلاف السودانيين، القمع الأمني الذي واجهت به القوات الانقلابية، المحتجين السلميين، وظلوا متمسكين بالخروج في المواكب؛ خرجت 7 مواكب بالعاصمة والولايات دعت لها لجان المقاومة، وخروج عشرات الآلاف في مدن البلاد المختلفة صبيحة يوم الانقلاب وأحصت لجنة الاطباء المركزية، سقوط 44 شهيداً، معظمهم بالرصاص الحي، بجانب مئات الجرحى منذ استيلاء الجيش على السلطة بالقوة.

قال مسؤول سوداني عمل بحكومة حمدوك الانتقالية قبل أن يطيح به البرهان بعد الانقلاب “المصريون هم من يتخذون القرارات.”من الواضح ان العسكر والطائفيون والأنظمة المستبدة هي المفضلة لدى دول الاستبداد العربي وفي إدارات الدول العظمى، وروسيا والصين تعلنان تأييدهما هكذا أشكال من الحكم جهاراً نهاراً من أجل الاستمرار في النهب والفساد ورهن البلاد للخارج.

رغم رجوع رئيس الوزراء الى الحكم إلا أنه رجع تحث ضغوط، منكسرا متماهيا موقعا على شروط مجحفة تنازل بها مرة أخرى للعسكر، الأمر الذي لفضه جمهور المتظاهرين، والكثير من الأحزاب، وتستمر الانتفاضات ومقاومة العسكر حتى يزول ويرجع الى ثكناته. إن درس السودان وهو الدرس نفسه في ليبيا يقول: برفض أية تدخلات للعسكر في السياسة من جديد؛ فلقد أفسد العسكر الثورة في السودان بقيادة البرهان وحميدتي عندما أصبح لعبة في يد مصر والامارات وإسرائيل وأفسد العسكر الثورة في ليبيا عندما أصبح حفتر عميلا لتلك الدول نفسها إضافة إلى الروس والجنجويد والتشاديين المرتزقة، وجميع هؤلاء أذيال لشبكة يقودها محمد دحلان مستشار محمد بن زايد والمخابرات المصرية.

نعم مخاض الثورة عسير وطريقها ملئ بالأشواك، قد تضعف وتخبوا قليلا وقد تفقد داعميها ولكنها لن تنطفي ولن تتوقف فالتاريخ لن يعيد نفسه وإرادة الشعوب تنتكس ولكنها لا تنكسر، فالفيضان آت لإكتساح كل العملاء وأذيال دول الاستبداد وإن طال الزمن.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا