ملك ليبيا محمد بن إدريس السنوسي.. دوره في بناء مشروع الأمة بالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4) - عين ليبيا

من إعداد: د. علي الصلابي

 

  • نصحه لزعماء العرب، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:

كان كثير الاتصال بجميع إخوانه ملوك ورؤساء العرب والمسلمين مسترشداً مستعيناً أو ناصحاً أميناً، وقد بذل جهوداً كبيرة ومساعي جليلة لدى كل من الملك عبد العزيز ال سعود والإمام يحيى حميد الدين أثناء الظروف العصيبة التي مرت بالسعودية واليمن، وكان بينهما سوء التفاهم ما كاد أن يكون ثغرة يتسرب منها التدخل الأجنبي، كتب للملك عبد العزيز، والإمام يحيى ناصحاً أميناً، وأظهر كل من الزعيمين تقديره لشعور إدريس السنوسي، وقد تبودل بينه وبينهما عدد من الرسائل في هذا الصدد، وهذه صورة من رسالة أرسلها إلى الملك عبد العزيز رحمه الله:

قال بعد البسملة: (إلى عين الملوك الكرماء، وحامي حوزة الحنيفية السمحاء، صاحب الجلالة الملك عبد العزيز ال سعود أدام الله بدور سعوده، ولا زال يعمر الأنام بعدله العمري وجوده، وبعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لقد بلغنا عن حكمة جلالتكم البالغة ما شرح صدر كل ودود، وكمد كل معاند حسود، وجعل كل موحد يرقص لصنعكم طرباً، مفتخراً بجلالكم بين الملوك عجماً وعرباً، فقد جاء حكم جلالتكم العادل في تلك القضية التي كانت بين حكومة جلالتكم وبين حكومة جلالة ملك اليمن كالصاعقة على رؤوس الذي يصطادون في الماء العكر، وهم من بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، فسقط بحمد الله في أيديهم ورد كيدهم في نحرهم، بعدما كانوا يعتقدون أن الدولتين واقعتان لا محالة في حرب، وكانت في نظرهم على قاب قوسين أو أقرب، ولكن الله سلم وكفى الله المؤمنين القتال، بما أوتيتموه من حكمة وروية فضربتم للناس خير مثال، وحمدنا الله كثيراً على أن الدسائس لا تجد منفذاً لجانبكم الحصين، وذلك ليقظتكم وسهركم على مصالح الإسلام والمسلمين، فقد تداركتم الأمر بحكمتكم قبل الفوات، وحزتم بذلك من العالم العربي والإسلامي أصدق الدعوات، وإني أتقدم إليكم أيها الأخ الكريم بخالص شكري القلبي على عدم تفضيلكم المصلحة الخاصة دون المصلحة العامة، مما جعل الألسنة تلهج بالدعاء لجلالتكم، أبقاكم الله للإسلام ذخراً وعضداً، وللدين الحنيف ركناً وسنداً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)….. الإمضاء: محمد إدريس السنوسي.

وبذل الملك إدريس رحمه الله ما في وسعه في القضايا التي تتنامى إلى سمعه، فيغضب لله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإن كانت هناك أمور لم يتدخل فيها لكونها خارجة عن إرادته وقدرته بحكم الوجود البريطاني والأمريكي.

وإليك أخي القارئ هذه الرسالة التي وجهها إلى الحكومة الاتحادية في 13 يوليو (1960 م) التي عممت على جميع الإدارات الحكومية، ثم نشرتها الصحف ووسائل الإعلام ؛ بسبب حصول ابن عمه عبد الله عابد السنوسي امتياز تنفيذ طريق فزان بكيفية مريبة، فأطلق الملك صرخته المدوية: (لقد بلغ السيل الزبى).

وكانت الرسالة موجهة إلى رئيس الحكومة الاتحادية والوزراء والوكلاء، وكل مسؤول بها، وإلى والي طرابلس، ووالي برقة، ووالي فزان، ونظارهن ومديريهن ومتصرفيهن، وكل مسؤول فيهن: (إنه بلغ السيل الزبى، وما يصم الآذان من سوء سيرة المسؤولين في الدولة من أخذ الرشوة سرّاً وعلانية، والمحسوبية القاضيتين على كيان الدولة وحسن سمعتها في الداخل والخارج، مع تبذير أموالها سراً وعلانية، وقد قال الله تبارك وتعالى: [البقرة: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ*} [البَقَرَة: 188]. 

ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم).

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).

وإنني بنعمة الله وقدرته سوف أغيره بيدي إن شاء الله، ولن تأخذني في الله ولا في طهارة سمعة بلادي لومة لائم والسلام).

وبالرغم من أن التحقيقات التي أجريت قد أثبتت براءة ذمة حكومة كعبار من التهم التي علقت بها، إلا أن الملك رأى أن نزاهة الحكم لا تتحمل وجود مثل تلك الشبهات، فطلب من الحكومة تقديم استقالتها، فتقدمت بها، وقبلها الملك في 16 أكتوبر (1960 م).

  • أدب العبارة في خطاب الملك إدريس وسمو معانيها وتواضعها الجم والدعوة إلى الخير والتقوى:

تميزت خطابات ملك ليبيا السابق برصانة الأسلوب، ومتانة التعبير، وقوة الحجة، وحرص الراعي على الرعية، ونصحه لشعبه، وكانت خطاباته عامرة بالدعوة إلى الخير والتقوى ومكارم الأخلاق، وهذا خطاب ألقاه بمناسبة توحيد الحكم في المملكة، وألغى الحكم الاتحادي في عام (1963 م) يوم 26 أبريل ؛ يؤكد ما ذهبت إليه:

مواطنيَّ الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

في هذه اللحظات التاريخية التي تمر بها أمتنا المجيدة، وفي هذه المرحلة التي يجتازها ركبنا الصاعد يسرني غاية السرور أن أعلن للشعب الليبي الكريم انتهاء العمل بشكل الحكم الاتحادي، والبدء رسميّاً في نظام الوحدة الشاملة الكاملة تطبيقاً للتعديل الدستوري الذي وافقت عليه المجالس النيابية والتشريعية بالإجماع، وإنني لأحمد الله تعالى كثير الحمد، وأتوجه إليه بالشكر العظيم والثناء الجميل ؛ على ما منّ به سبحانه وتعالى من نعمة حتى مشاهدة ولادة هذا الأمل الوطني الكبير، ووفقنا جميعاً بتأييده وعونه إلى تحقيق هذه الأمنية الغالية.

إن الوحدة التي تبدأ اليوم عهدها الميمون هدف جديد من أهدافنا الوطنية التي جاهدنا من أجلها، وضحى شعبنا في سبيلها، فهي ثمرة طيبة للجهاد ووفاء لأجر الصابرين، وهي بعد ذلك، خير وبركة ورمز لاجتماع الكلمة وتالف القلوب، ووعاء للمحبة والتاخي والوئام، ومبدأ يتبوأ مكان السمو في عالم الأخلاق والفضيلة، وحبل الله المتين الذي أمرنا سبحانه وتعالى بالاعتصام بعروته الوثقى، قال تعالى وهو أصدق القائلين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عِمرَان: 103]، وهو الدين القويم ؛ دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفَال: 46]، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ): «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

فالحمد لله الذي جمع على المحبة قلوبنا ووحد على الوفاق بلادنا وجعلنا من أمة التوحيد التي هي خير أمة أخرجت للناس.

وإني لأنتهز فرصة إعلان الوحدة المباركة السعيدة فأوصيكم جميعاً بتقوى الله تعالى ومراعاة وجهه في السر والعلن، وأحثكم على مضاعفة الجهد وبذل المزيد من العمل حتى نوفِّر لبلادنا الازدهار والرخاء والرفاهية، ونعيش جميعاً في ظل الوحدة أمة قوية في خلقها، عزيزة في شخصيتها، متينة في بنائها، نظيفة في سمعتها، إن الوحدة تلقي على كواهلنا مسؤوليات جساماً، وتضع نصب أعيننا واجبات كثيرة، فعلينا أن نقوم بها ونحافظ عليها، كما نحافظ على استقلالنا ونحوطها بالرعاية والحدب، ونغذيها بمشاعر المحبة والوطنية، حتى نستمر في طريق النمو والاكتمال، فالوحدة ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة إلى عمل الخير وطريق إلى افاق الإصلاح والفلاح، وواجبنا أن نأخذ منها القاعدة الصالحة للانطلاق إلى الأهداف العليا، ومصباح النور الذي ينير مواقع خطواتنا في طريق العمل الدؤوب والسعي المجدي والتعاون المثمر المفيد، إن كل مواطن مسؤول عن حماية الوحدة، وتفرض هذه المسؤولية أن شعار الوحدة تحت لوائه الخفاق كل السواعد العاملة والهمم المتوثبة، والكفاءات الخلاقة، ويشمل كل بقعة تستظل بسماء هذا الوطن العزيز، ويستمتع كل مواطن بخيراتها العميمة، ويعيش في كنفها عيشة الطمأنينة والسعادة والاستقرار، أبلغ شكر لنعمة ضيافتها، وأسمى مراتب الحق أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وفقنا الله جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه، وألهمنا الرشد والصواب، وجعل وحدتنا فاتحة عهد سعيد يفيض خيره ويزيد نفعه وتعم بركاته، ونبدأ مرحلة تنشط فيها العزائم، وتقوى الإرادات، فإنه تعالى أقرب مسؤول يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ومنه الهداية والتوفيق، وإليه الملجأ والمصير.

إن هذا الخطاب مليء بأدب العبارة، وسمو المعاني، والتواضع الجم والدعوة إلى الخير والبر والتقوى.

  • نظرة في كتاب الملك إدريس رحمه الله في اتحاد العرب، وائتلاف الموحدين، وبعض المقابلات الصحفية:

هذا الكتاب ذكره المؤرخ الليبي محمد الطيب الأشهب رحمه الله تعالى، ونقل لنا منه نقولاً، ولا ندري أين الكتاب الان، كان هذا الكتاب قد وضعه إدريس السنوسي بقلمه كرسالة شاملة في عام (1929 م)، شكلت بحثاً سياسيّاً علميّاً عامّاً، تناول فيه الموقف الإسلامي العربي والدولي من جميع الوجوه على حقيقته، فجاء بحثاً متميزاً مدعوماً بالحجج العقلية، والبراهين المنطقية، والأدلة التاريخية، وتحدَّث فيه عن العوائق والمشاكل التي تواجه تقدم العالمين (الإسلامي والعربي)، والأسباب التي أخَّرت المسلمين والعرب، والوسائل التي يجب اتخاذها لتمكين العرب من تحقيق وحدتهم التي يراها ضرورية، وتحدث عن الخلافة الإسلامية ومالها وما عليها، وعن سبب انهيارها، وتكلم عن المشاكل الدولية وعن الاستعمار وأهدافه، وعن المدنية الإسلامية والحضارة العربية، وعن دولة الإسلام وما تلاها من دول وحكومات عربية، وتحدث عن الأخطاء التي ارتكبت في مختلف عصور التاريخ الإسلامي والعربي، ثم انتقل من هذه المواضيع العامة إلى موضوع الوحدة العربية وما يقاسونه.

  • حديثه عن الوحدة العربية وحالة العرب:

قال رحمه الله: كل إنسان يعرف أن جزيرة العرب كانت قبل البعثة النبوية مضطربة بفعل الجهالة والفوضى والشقاق، إلى أن قال: وكان لابد من إصلاح أساس النظام، وعلى هذه الحاجة ظهر الإسلام.

وقال في موضع اخر من بحثه: صار العرب بعد زوال الحكومات العربية تابعين لكل متبوع، ولم يعنوا برفعة أمتهم، ولم ينتبهوا من رقدتهم، وبالأخص منهم من كانت دياره محتلة بالحكومات غير العربية ؛ لقد فسدت أخلاقهم وسجاياهم تحت سيطرة الدول المختلفة، وظلوا ناسين عظمتهم ومدنيتهم، وقد تعودوا طأطأة الرؤوس للذل، ومن الطبيعي أن لا تحتفظ أمة ببأسها وسجاياها، وخصالها في سلطان حكومة مستبدة، وهكذا شرع العرب يتغيرون ويفسدون، على أن العرب لن ينسوا جنسيتهم وقتاً ما، وليس فيهم من خرج عن عروبته.

إن عروبة العرب الماضية لتؤثر تأثيرها النفسي الان، وإن التاريخ يعيد نفسه، وإن العربية مثل الإسلام صبغة لا تزول، واستطرد إدريس السنوسي في بحثه إلى أن قال: فإذا نال العرب استقلالهم أو استقلت كل مقاطعة عربية إداريّاً، واتحدت مع بقية أخواتها ؛ فإنهن يقمن إمبراطورية عظيمة وحكومة متحدة على نسق واحد.

واستطرد في حديثه عن العرب، إلى أن قال: إنهم محتاجون إلى تربية أخلاقية، وتنمية عقولهم المنهوكة منذ مدة من الزمن، حتى يستردوا شملهم العربي، وأخلاقهم العالية، وفي الحقيقة: إن جملة البلاد العربية أصبحت في سبات عما يراد بها من الممالك الأخرى، ولن تستيقظ إلا على أصوات مدافع المستعمرين، ورب أمة لا تعرف نفسها حتى تصاب بمظالم الأجانب.

  • الأخوة الإسلامية والعروبة:

قال: حقّاً إن الإسلام يمنع تغلب الجنسية، ولكن لا يأبى تكامل الأمم إذا لم يضر بسائر البلاد الإسلامية، ولم يضيع الأخوة الدينية، والذي يمكنه الرقي في هذا العصر هو الذي يفهم الإحساس القومي، ولا يمكن الرقي بغير هذا، لأن الارتقاء رهين باتحاد الجماعات وتعاونها، والكمال لا يكون إلا بالأمة كلها، وما كان لرقي الأفراد إلى الان فائدة كبيرة في الأمة، ولهذه الأمنية يربي السياسيون الأمم، والاتحاد القومي موجود بنفسه، ويكفي فيه أن يكون الإنسان عربيّاً، فإن الفرد من هذه الأمة العربية يدرك بفطرته وبفكره الأول: أنه ابن هذه الأمة التي زلزلت الأرض حيناً من الزمن، وحق له أن يفهم ذلك، وهذا العصر هو عصر القوميات، فلا تستطيع الأمة العربية أن تقف بعيداً عن هذا التيار، والعرب هم أساس الإسلام ومنشؤه، فإذا ما تماسكوا وتكاتفوا وشدوا أزرهم ينهض الإسلام بلا ريب، ولا خوف على المسلمين من تفرق الكلمة إذا ما عرب الجزيرة نهضوا، ومن أجل هذا نرى أن العصبية العربية معقولة ومشروعة، بل وضرورية، على شرط أن لا تتعارض مع الأخوة الإسلامية، وأن لا تتعدى على الاخرين، وبهذه الوسيلة تقوى الأمة العربية ويقوى الإسلام معها.

  • الحجاز هو قطب رحى الجزيرة العربية:

قال الملك إدريس رحمه الله: لا ريب أن الحجاز هو قطب رحى الجزيرة العربية، ومنه منشأ الرجال الذين نشروا في العالم أسمى مبادأى الحرية، وعلموا الناس أجمل معاني العدل، والتسامح، والعلم، والقابض الان على أزمة أموره هو جلالة الملك عبد العزيز ال سعود، وفي بلاد اليمن جلالة الإمام يحيى بن حميد الدين، وهذان الملكان المستقلان المسيطران على صميم أحفاد عدنان وقحطان لا ريب في أنهما يشعران بثقل المسؤولية أمام الله وأمام أهل الجزيرة وعموم المسلمين، وهما الان أمام صحيفة يسطر لهما التاريخ فيها من جديد كما سطر لغيرهما في الماضي، ولا يعزب عن ذكائهما كيف يجب أن تدار دفة الأمور لإعادة مجد العرب والإسلام، وتعريف الأمم ما تجهله من مدنيتهم وادابهم وحضارتهم، وليس هناك ما يقرب بين الشعوب ويعرف بعضها بالبعض الاخر غير الأعمال المجيدة النافعة والاخذة بأسباب الإصلاح من كل وجوهه المعلومة في هذا العصر، عصر المعارف والفنون، فعليهما أن يعرفا كيف يقودان صميم الأمة العربية من أحفاد عدنان وقحطان في القرن العشرين، إنهما يريدان أن يقفا بالأمة العربية في مستوى واحد مع الأمم التي سبقتهم الان بمراحل، فعليهما إذاً أن يستعدا للكفاح في معترك هذه الحياة، وعليهما أن يخلقا في أرض الجزيرة حيث لا امتيازات ولا عوائق مدنية جديدة وشعباً قادراً على السير وحده، ولم يكن هذا بالشيء العسير؛ لأن الفرصة سانحة للعمل.

  • العمل الإصلاحي على وجهين: ديني ومادي:

وقال أيضاً: والعمل الإصلاحي على وجهين: ديني ومادي، أما الديني فهو تحرير الفكر من قيد التقليد، واعتبار الدين صديقاً للعلم وحاكماً عليه، وفهم الدين على طريقة السلف الصالح، ووضع ترتيبات ونظام للحج يكفل راحة الحجاج ورفاهيتهم وأمنهم، وأما المادي فهو: الاتحاد، وتحسين المواصلات في البلاد العربية، ومد السكك الحديدية، وخطوط التلغراف، والتليفون وتعميمها، وتعبيد الطرقات لسير السيارات، فبذلك ترتبط الممالك ارتباطاً منظماً، ثم وضع برامج واسعة وثابتة لنشر المعارف في عموم أنحاء المملكة بتعميم المدارس الدينية والثقافية، وتأسيس جماعة عربية بمكة لتعمل على ترقية الأمة العربية فنيّاً وأدبيّاً، ولتنظيم الوحدة ومتجه السير وحرية الرأي، ثم المداومة على عقد المؤتمر الإسلامي في كل سنة أوان الحج، وتنظيم طرق الدعاية إليه ونشرها في عموم الأقطار الإسلامية والعربية. 

خامساً: الزعيم الأساسي هو الذي يؤسس حكومة راسخة البنيان:

وقال: إن الزعيم الأساسي هو الذي يؤسس حكومة راسخة البنيان لا تزول بزوال الأفراد والأسر، وهو صاحب النظريات السامية التي تؤثر في حياة الأجيال مع المحافظة على دوام السلام بقدر المستطاع، ومراعاة الظروف الواقعية حتى لا يعتري بنيانه الخلل وهو لا يزال وليداً.

  • أيها العرب اتحدوا وكونوا كالبنيان المرصوص:

وقال أيضاً: أيها العرب اتحدوا وكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فإن الواجب المقدس يدعوكم أن توحدوا صفوفكم، وأن تجاهدوا جميعاً في سبيل الذود عن حياض بلادكم ودينكم، وليس الجهاد هو القتال فحسب، بل إن أول الجهاد هو أن تعرفوا معنى الأخوة العربية وتوحيد السبيل، ثم تدافعوا بكل ما استطعتم كلما أمكنكم الدفاع، وأوله باليد، وليس معنى ذلك هو إشهار السلاح فقط، ولكنه التعلم، تعلم كل ما يمكن أن تتفوقوا به من الصنائع، وباللسان ؛ أي:

ببذل كل ما أوتيتم من النصيحة والإرشاد، وبالقلم، أي: بتأسيس الصحف وارتباطها ببعضها لتوحيد الفكرة وتوجيه الرأي العام، وبعمل الملاجأى، والمستشفيات للفقراء واليتامى والمرضى، حتى لا يضطروا إلى الالتجاء للمؤسسات الأجنبية التي قد تدس لهم السم من عقائد دخيلة، ومذاهب فاسدة مفسدة، ثم إنشاء المدارس الوطنية وتشجيع التجارة الوطنية، والاكتفاء بمصنوعات البلاد.

وبعد أن تحدث في هذا الموضوع بإسهاب قال: والشعب العربي هو الان على أبواب نهضة عظيمة ستتجاوز بعون الله ما كان عليه قبل قرون، وإن التاريخ سيعيد نفسه، والأحفاد ـ كما قيل ـ هم سر الجدود.

 

 

 

 

 

 

إن الشعب العربي له مواهبه العظيمة في الحزب والسياسة، وفي العلم والإقدام، هذا ما لا ينكره أحد، والبلاد العربية في نظر عموم المسلمين متقدمة، ولها المكان المرموق لوجود البيت الحرام، وكذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس.

وقال في مكان اخر من البحث: إن الإسلام معناه الاتحاد، والإسلام واحد لا يقبل التجزئة، ولكن مع الأسف الشديد فقد أدى الجدل الكلامي إلى الاختلاف، فتفرق المسلمون إلى معتزلة وأهل سنة، وتفرقت المعتزلة شعباً، وتفرق أهل السنة في الاجتهاد إلى مذاهب، وهذا الاختلاف تجاذبته الأغراض السياسية، ولا سبيل لحسم هذا الخلاف إلا بالعودة إلى الإسلام الذي بينه صاحب الرسالة على بساطة أسلوبه وسمو معانيه وجوهره.

فلنفكر قليلاً في إنصاف وتعقُّل، ولننظر إلى الحقيقة، ولنرجع إلى أوامر النبي (ص) وكنه الإسلام، ونستعرض هذه المصائب التي انتابتنا منذ عصور طويلة، فإنه لا يوجد شيء مهلك كمنازعتنا معشر المسلمين… إلى أن قال: إن هذه الفوضى أفسدت الجماعة الإسلامية جيلاً بعد جيل، وأفسدت الثبات والصبر والسعي المضطرد والاجتهاد والتفكير، ثم قال: إن المسلمين لعدم تمسكهم بروح الإسلام أصبحوا في ضعف وانحطاط، وقد ذهب استعدادهم الفكري لانكبابهم على المنقولات، فالتقليد في الفكر لم يكن فضيلة، فكيف نقف هكذا صغاراً أمام الماضي؟ وكيف ننتظر من أسلافنا كل شيء كمن ينتظر الميراث ليعيش به؟.

هذه بعض النقولات من كتابه (اتحاد العرب وائتلاف الموحدين) يعطي الباحث خطوطاً عريضة في نظرة الملك إدريس رحمه الله لبعض القضايا التي تتعلق بنهوض الأمة وسعيها نحو التمكين.

وزيادة في إيضاح المنهج السياسي الذي كان يتبناه الملك إدريس ننقل هذه المقابلة الصحفية التي أجريت عام (1942 م) بين الملك ومندوب جريدة (البصيرة) التي كانت تصدر في الإسكندرية ؛ حيث أجاب على عدة أسئلة تتعلق بالوحدة العربية، ونهوض الأمة، فقال: من المشاهد الان أن العالم يسعى إلى التكتل داخل مجموعات قوية كبيرة، والعرب في بلادهم المختلفة لا حياة لهم ـ أقصد ـ حياة العز والقوة ـ إلا إذا اتحدوا داخل نطاق من التعاون التام، التعاون الذي يجمع بين الثقافة والصناعة والاقتصاد، وبذلك تستطيع المجموعة العربية الكبيرة المؤلفة من ثمانين مليوناً أن تحتفظ لنفسها بين الأمم العالمية بمكانة مرموقة محترمة، والوحدة العربية عندي أقرب إلى التحقيق في وقتنا الحاضر من اتحاد شرقي إسلامي، فإنه من المشاهد في بقاع الأرض المختلفة أن وحدة الدم واللسان والثقافة هي أكبر العوامل في تقارب الشعوب، واتحاد المصالح، وهذه الأمور جميعها متوفرة في الأمم العربية أكثر من توافرها في العالم الإسلامي، زد على هذا أن الأمم العربية متجاورة الحدود، ومتقاربة التخوم ؛ مما يجعل الاتحاد بينها أقوى أثراً وأسرع تنفيذاً، وأجاب عن سؤال اخر لنفس المندوب بقوله:

إن الواجب المقدس الذي يحتمه الدين وتفرضه الوطنية على كل عربي ؛ هو أن يجاهد الطغيان بكافة الوسائل التي يملكها، حتى يزول هذا الرعب الزاحف، وتشرق شمس الحرية والكرامة الإنسانية على الأمم العربية والعالم أجمع من جديد.

وعن سؤال اخر أجاب: إن الأهداف التي نرمي إليها والتي طالما سفكنا دماءنا في سبيل تحقيقها هي الحرية الكاملة، والاستقلال الشامل، ولا ننسى نحن الطرابلسيين واجباتنا حيال النهضة العربية الكبرى باعتبارنا وحدة من الوحدات التي تتكون منها المجموعة العربية. سنعمل كما عملنا في السابق متعاونين مع الأحرار العالميين على أن يسود الشرق العربي روح النهوض في المرافق العلمية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ؛ حتى يؤدي رسالته الإنسانية ويستعيد مجده الغابر.

وعندما التقت به مجلة (صوت الشرق) في فبراير عام (1957 م) وجَّهت له بعض الأسئلة، فأجاب: إن ليبيا تمد يدها لكل بلد عربي شقيق بإخلاص، واضعة كل مالها وأناسها في سبيل نصرة حرية هذا البلد، وتأييده في الذود عن حياضه وعزته وكرامته، ولن ننسى أبداً نصرة وتأييد البلاد العربية الشقيقة، والبلاد الحرة الصديقة لنا في جهادنا وكفاحنا في سبيل تحقيق استقلال ليبيا، وتحريرها من الاستعمار… إلى أن قال: أنصح العرب الأشقاء بالتمسك بالدين الكامل، والخلق الفاضل، والاتحاد الشامل، فلن يغلب شعب يحرص على هذه الأمور الثلاثة.

إن دراسة كتابه المذكور، وتصريحاته الصحفية تبين للباحث ضعف القول القائل بأن الملك إدريس لا يفهم في أمور السياسة، وأقرب إلى أهل التصوف من كونه رجل دولة، ولا توجد لديه رؤية سياسية واضحة، ولا يعرف كيف تساس أمور الأمم والشعوب!!

إن حياة هذا الرجل لغنية بالعبر والدروس والمواعظ، التي تحتاجها الأجيال الصاعدة التي تستلهم من الماضي ما يفيدها في حاضرها ومستقبلها وفق رؤية وتصور نابع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا