ممنوع تعليق صورة الزعيم.. قصة من وحي الواقع - عين ليبيا

من إعداد: د. عبيد الرقيق

في أول يوم لدخوله المدرسة الابتدائية، وقعت عينا التلميذ “مسعود” على صورة كبيرة معلقة قبالة الباب الرئيسي، يتأمل فيها كثيرا ثم ينصرف،  دخل مسعود ذات يوم مكتب مدير المدرسة فوقعت عيناه على صورة أخرى لنفس الشخص الذي في الصورة الكبيرة، لكنها بحجم اصغر ويحتضنها برواز أنيق، سأل التلميذ المدير في براءة طفولية: اهو جدك يا أستاذ أم أبوك؟ فأنا عندي صورة بابا وجدو في حوشنا!، كتم المدير ضحكة استغراب وأجاب مبتسما، لا..لا, هذا بابا “…..” الحاكم والرئيس والقائد والزعيم، واستطرد قائلا:  يا ابني كيف لا تعرفه؟! الم تشاهده يوميا في التلفزيون؟ أجاب مسعود في خجل، آه عرفته.. عرفته، سامحني يا أستاذ!.

كبر مسعود وكبر معه إدراكه لصورة الزعيم، وتعلم في المدرسة كما في مجتمعه وجوب تقدير واحترام صورة الزعيم وتقديسها!. لكنه لم يدرك على وجه التحديد سر ذلك العرف القديم الجديد، مما دفعه للاهتمام بالأمر داخل نفسه كثيرا، وذات يوم مات الزعيم فأعلن الحداد ونُكّست الأعلام، وجرت مراسم تنصيب الزعيم الجديد “الابن”، أزيلت جميع صور الزعيم السابق وحلت محلها صور الزعيم الجديد!، تساءل مسعود في نفسه: يا الهي! كيف؟! وبكل هذه البساطة تختفي صورة ذلك الزعيم، الذي لازمتنا مذ كنت طفلا!! أكاد لا اصدق عينيي! وبنية المزاح يدخل مسعود على مديره في مكتبه ويسأله: لماذا أزلتم صورة الزعيم؟! ينتفض المدير، يلتفت إلى موقع الصورة ثم يهدأ ويجيب: وكيف نزيل صورة الزعيم يا مسعود، أم انك تتعامى؟! فيجيب مسعود: لا بالتأكيد يا سيادة المدير لقد قصدت صورة زعيمنا السابق الكبير!.. التي تعودنا عليها عقودا، ثم يستطرد: أليس ممكنا الجمع بين صورتي الزعيم الأب والابن؟! يتلعثم المدير قليلا ثم فجأة يغير الحديث سائلا: كيف حال الوالد يا مسعود؟!.

بعد فترة كُلَف مسعود مديرا في إحدى المؤسسات، وفي يوم من الأيام أثناء التنظيف وقعت صورة الزعيم التي في مكتبه فتهشّم زجاجها، مما دعاه إلى إسنادها أرضا في انتظار إصلاحها، لكن مسعود سهى ونسي الصورة لبضعة أيام، وفي ذات صباح دخل عليه رجلان وسألاه: لماذا لا توجد صورة الزعيم في مكتبك؟! وضع يده على جبهته متذكرا إياها وقال: معذرة.. أي فكرتوني! ينادي على السكرتير ويطلب منه إصلاح زجاج الصورة فورا، فيتم الإصلاح وتعلق الصورة في مكانها.

في اليوم التالي يدخل مسعود مكتبه، يرن جرس الهاتف، المطلوب إعطاء إشارة للفاكس، ويستلم الورقة ثم يقرأها، تغمره الدهشة ويكاد لا يصدق ما تنظر عيناه وكيف لا!، فهو قرار إعفائه من مهامه!. يتمالك نفسه ويتهيأ لتقبل الأمر، يحاول أن يبدو عاديا لكنه يحمل في نفسه غضبا مشحونا بالاستغراب، فهو لم يجد تفسيرا أو سببا مبررا لذلك القرار المفاجيء الغريب، يغادر مكتبه وفي جوفه غصة بحجم كبير،  يغادر وفي نفسه أشياء لا تقبل البوح في زمن ليس زمنها، ومكان ليس مكانها.

في ذات جمعة وخلال صعود الإمام للمنبر، يتعمد مسعود تعليق صورة الزعيم التي تعمد إحضارها معه، ويشرع في تعليقها أمام المصلين!، ساد الصمت برغم همهمات وحشرجات بين المصلين، لكن ذهولا الم بالجميع بما فيهم الإمام! همهمات وأشلاء كلمات مكبوتة تتناثر هنا وهناك بين المصلين لكن المقام والمكان لا يسمح بالجهر، وأثناء خطبة الجمعة تذوب بعض شحنات الغضب المحتجز لدى بعض المصلين لكن لم تتلاشى ملامح التفكير في الحدث وفي انتظار انتهاء الصلاة، تنتهي الصلاة ويخرج المصلون ويتعمد مسعود البقاء في المسجد وتبقى الصورة في مكانها.

كان مسعود متأكدا أن لا احد يقدر على منعه مما فعل، كما كان متأكدا أن الكثير منهم لم يروقهم تصرفه هذا لكنهم عاجزون عن تنحيتها، بالرغم أن فيهم من يغلي حقدا وغيضا مكبوتا على مسعود وفعلته!! مسعود كان ملما ومشبعا بأجواء الثقافة الحاكمية التسلطية السائدة والتي تعتبر الحاكم وحاشيته ومقتنياته خطا احمرا يحظر تجاوزه! لذلك كان مطمئنا على فعلته وعدم قدرة احد على منعه، لذلك هو يتمادى في استفزاز الوسط الراكد المشبع سلبية ونفاقا ووصولية، ويحاول عمدا الإثارة لعله يحدث حراكا ولو بسيطا.

ولأن دوام الحال من المحال، يشاء الله أن تتغير الأمور فتحدث انتفاضة شعبية تسقط الزعيم وتنهي ذلك النظام ، لتدخل الدولة عهدا جديدا فتجرى الانتخابات الرئاسية وللمرة الأولى! تعلن النتائج.. وإذا مسعود هو أول رئيس منتخب!.. بعد أدائه القسم يستذكر مسعود ارث ومثالب الماضي القريب وتقفز إلى ذهنه ذكريات صورة “الزعيم” فيقرر أن يكون أول مرسوم يحمل توقيعه هو المنشور رقم “صفر”، ويتضمن ما يلي: (يمنع منعا باتا تعليق صورة الرئيس في مكاتب الإدارات والمؤسسات العامة والخاصة ويعاقب كل من يخالف ذلك).

قبل أن تنتهي مراسم التنصيب كانت صور الرئيس “مسعود” في كل مكان في الميادين والشوارع وفي أيدي الأطفال.. في اليوم التالي يفاجأ الجميع برجال الحرس البلدي وهم يزيلون صور الرئيس لكن بقية من خوف لازالت عالقة في نفوسهم وكأنهم في حلم مشدوهين غير مصدقين.. يتساءلون: هل ولّى عصر تقديس صورة الزعيم؟! يهزنا شوق التغيير فنتساءل معهم: هل تتلاشى ببساطة ثقافة مهزومة تكرّس الاستبداد والتسلط؟.. ثقافة تحتقر الذات وتؤلّه الحاكم طمعا وخوفا؟! هل يقوى الشعب على هزيمة الذات المكسورة ويكون الزعيم زعيما تحبه الناس صدقا وإخلاصا لا خوفا أو طمعا أو ترهيبا؟!، هل يعلّق الشعب صورة الزعيم في القلوب والعقول؟! حبا صادقا لا نفاقا أو تملقا أو هاجسا من رعب مخيف، كرّسته ثقافة الاستبداد والقهر والجبروت..؟!.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا