ميكافيلي الرجمة.. وصناعة الوهم! - عين ليبيا

من إعداد: امحمد علي هويسة

منذ أكثر من ستة أشهر والعاصمة طرابلس تعيش على إيقاع القذائف والصواريخ وهدير المدافع وقصف الطائرات، في غياب تام لقواعد القانون الدولي الإنساني المتعارف عليه في الحروب، وفي تدني واضح للمنظومة الأخلاقية للقوات المعتدية تتواصل عمليات القصف العشوائي للأحياء السكنية وإبادة المدنيين الأبرياء، مع حالة من الفشل المتكرر للبعثة الأممية في انتاج حلول لوقف العدوان، ولجم نزوات “ميكافيلي الرجمة ” السلطوية التي استباحت دماء الليبيين وأدخلت البلاد في مستنقع آسن من الفوضى والدمار.

بعد شروع “حفتر” في العدوان على مدينة طرابلس وما صاحبه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أدرك الليبيون خطورة تصرفات هذا الرجل وجنوحه نحو السلطة مهما كانت التضحيات والخسائر زاجاً بالشباب المغرر به في أتون الصراع المسلح بحجج ومبررات واهية تُسَوِقها قنوات التطبيل والتضليل الإعلامي.

والسؤال الذي يفرض نفسه.. ماذا يحمل السيد “حفتر” في جعبته لأهالي طرابلس والمنطقة الغربية عموماً غير القمع ومصادرة الحريات؟!!.

في الواقع اللواء المتقاعد “خليفة حفتر” ليس وليد مرجعية أو فكر ديمقراطي يمكن الوثوق به بل على العكس تمامًا هو إبن لنظام عسكري شمولي استباح ليبيا وعبث بثرواتها وقتل أبنائها على مدى أربعة عقود وصد كل محاولات التغيير والإصلاح، وقد رأينا تداعيات الحرب التي شُنَت على أهلنا في بنغازي ودرنة بدعوى مكافحة الإرهاب، وما صاحبها من خراب حل بالمدينتين المنكوبتين والمعاناة التي ألمت بأسر الضحايا من القتلى والجرحى والمفقودين، عدا الشرخ الإجتماعي العميق الذي يصعب تجاوزه على المدى القريب.. وبعد انتهاء عمليات التصفية والتهجير لكل من يحمل أيديولوجيا ثورة فبراير لم تشهد تلك الرقعة الجغرافية من البلاد أي مظاهر للدولة المدنية الآمنة المستقرة التي يتشدق بها أنصار تنظيم “الكرامة”، بل على النقيض تماماً أصبح الركن الشرقي من ليبيا بمثابة السجن الكبير المرعب لامكان فيه لحرية الرأي والتعبير وأبسط حقوق الإنسان!! وفي ظل سيطرة الحاكم العسكري تحولت المجالس البلدية المنتخبة الى مجالس تسييرية عسكرية وأجبر الأهالي على الخضوع والخنوع، وعاود زمن العقلية الطوباوية المُنفرة القائم على التمجيد والتطبيل للقائد ” الصنديد” الذي لا أحد خير منه.. هو ومن بعده الطوفان. والزائر لمدينة ـ الثورة ـ بنغازي في ظل سيطرة قوات “حفتر”  يصاب بالذهول والصدمة من حجم الدمار الذي حل بمعالم المدينة من مباني تاريخية ومراكز علمية وثقافية كالدار الوطنية للكتب، والجامعة الليبية العريقة التي باتت ركاماً تعلوها صور (الزعيم المشير)..!!  ووسط حالة الرعب والخوف الذي زرعته مليشيات تنظيم “الكرامة” في النفوس انتشرت ثقافة التنكيل بالمعارضين واستسهال قتل الناس بدم بارد والإفلات من العقاب، وكم الجرائم البشعة التي وقعت في بنغازي وضواحيها تؤكد همجية هذه المليشيات وإفلاس مشروع “حفتر” الإنقلابي.. منها:

– مجزرة الضمان الإجتماعى في يوليو 2016 م والتى قتل فيها (أربعة عشر) مواطن وألقي بهم في مكب للقمامة.

ـ مذبحة شارع الزيت بشبنة في اكتوبر 2016م والتي راح ضحيتها (عشرة) مواطنين أبرياء ومُثل بجثثهم.

ـ المذبحة المروعة بمنطقة الأبيار في اكتوبر2017م  لـ (ست وثلاثين) ليبي أعدموا رمياً بالرصاص وهم مقيدي الأيدي.

ناهيك عن عمليات التصفية التي طالت عائلات بأكملها.. كعائلة ” آل سويد” و” آل المنفي”، والإعتداءات العنيفة ضد الأئمة ومشايخ تحفيظ القرآن كواقعة الاعتداء على الشيخين “معتوق العماري” و “أبو شعالة” وغيرهم.. بالإضافة للممارسات المشينة كالتنكيل بالجثث ونبش القبور في انتهاك صريح لآدمية الإنسان وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، بل إن عمليات الإختطاف والترويع وما صاحبها من تعديات صارخة على الأهالي والممتلكات لم تكن التناقض الوحيد بين الشعارات من جهة والممارسات من جهة أخرى، فالكثير من الأحداث حافلة بشواهد على تواطؤ مفضوح في التغاضي عن تلك الانتهاكات، وهو مايطرح إستفهامات كثيرة عن مصداقية تلك الشعارات التي تتشدق بها الأبواق الإعلامية التي تتبنى مخطط العسكرتاريا؟!.

بعد اكتشاف مسؤولية “حفتر” وأتباعه عن الكثير من عمليات الإغتيال والخطف والإختفاء القسري التي كانت تحدث في المنطقة الشرقية من عام  2013م إلى 2019م بحسب شهادات بعض المنشقين من أعوانه، فضلاً عن التقارير التي تتحدث عن السجون السرية التي تُتخَذ كمقرات لممارسة التعذيب، وكما يبدو فإن سجون ” حفتر” السرية لم تقتصر على المواطنين المعارضين لما يسمى بعملية الكرامة، بل طالت أيضاً بعض “المسؤولين بالدولة” ممن اختلفوا معه في تقدير الأمور، فمنهم من قضى نحبه في السجون ومنهم من ينتظر كواقعة اعتقال نقيب المحامين السابق ” ابوبكر السهولي” الذي اعتقل في اكتوبر 2019م ولم يعرف مصيره بعد.. ؟! والنائب في البرلمان ” سهام سرقيوة ” التي اختطفت من بيتها في يوليو 2019م واقتيدت الى جهة مجهولة  بسبب معارضتها العدوان على طرابلس، وحالة عميد بنغازي السابق “اللواء أحمد العريبي ” الذي تم تغييبه في اكتوبر 2018م، والناشط “عثمان أبو الخطابية العبيدي” الذي اختطف بعد أن جهر بمعارضته لـ “حفتر”.. والقائمة تطول بالمغيبين والمعتقلين خارج إطار القانون. وربما يتسائل البعض.. كيف تمكنت مليشيات ” تنظيم الكرامة” من بسط نفوذها على المنطقة الشرقية بالكامل برغم التجاوزات والتعديات المنافية لتعاليم الشريعة الإسلامية والأعراف الاجتماعية ؟!!.

من أسوأ أنواع الديكتاتوريات في العالم ديكتاتورية العسكرتاريا المتحالفة مع رجال الدين حيث رجال الدين يقدموا الغطاء الشرعي التبريري لأعمال القمع وانتهاكات حقوق الإنسان وفي المقابل يقوم العسكر بإصباغ المصداقية والقداسة لرجل الدين حيث يصبح من المقدسات التي لا يجوز الطعن فيها، ومن المفارقات أن من يؤيد مشروع “حفتر” من مشايخ وجماعات سلفية ينتمون الى التيار المدخلي يعتقدون في ” خليفة حفتر” ولي الأمر الذي تجب طاعته ولايجوز الخروج عليه ( حسب التأويل المدخلي المستورد من السعودية ) وتحالف “حفتر” مع السلفيين المداخلة لا يقتصر على وجودهم العسكري في الجبهات، لكن أيضاً يشمل السيطرة على الخطاب الديني الرسمي في هيئة الأوقاف التابعة لحكومة برلمان طبرق ” المؤقتة” من خلال الإفتاء وتوجيه خطاب الأئمة في المساجد، وهؤلاء المدعين المارقين جاء ذكرهم في الحديث عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بقوله: “يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم .. إلخ *( صحيح البخاري ). وتعتبر هذه الفئة المارقة الوجه الآخر لعصابات داعش الإرهابية فكلاهما وجهان لعملة واحدة !! . واللافت أن مبررات “حفتر” وأعوانه في إعلانهم الحرب على عموم الليبيين وفي كل الإتجاهات تتحدث عن تحرير البلاد من الجماعات المسلحة، وتنظيم الدولة “داعش”!!.

لقد ” أثبت علم نفس الجماهير كما أكدت الخبرة أنه يمكن التأثير على الناس من خلال التكرار المبالغ فيه لخرافات لاعلاقة لها بالواقع”.

*يقول ـ علي عزت بيغوفيتش ـ رئيس البوسنة السابق.

إن الذاكرة الجمعية الليبية قد واكبت تصريحات “حفتر” منذ ألـ  2014م إلى 2019م، وما صدر عنها من خطب ووعود بالقضاء على تنظيم الدولة  “داعش” إلا أن تلك الأقوال لم تتحول مطلقاً لأفعال !!  فمن حارب فلول” داعش” في مدينة سرت وانتصرعليهم هم أبطال البنيان المرصوص التابعين لحكومة الوفاق الوطني في 2016م بعد أن قدموا أكثر من (700) شهيد وقرابة  (2800) جريح، ومن ألحق الهزيمة بـ ( الدواعش ) بمدينة درنة وماحولها في الـ 2015م هم مجلس شورى مجاهدي درنة بمساندة سرايا ثوار مدينة البيضاء بقيادة الشهيد العقيد ” محمد بوغفير ” رحمه الله، والوقائع الموثقة تشير إلى أن مليشيات حفتر هي من قدم الدعم اللوجستي لعصابات “داعش” في أكثر من مناسبة، وسهلت عبور الدواعش من درنة في اتجاه الجنوب الليبي، وغظت الطرف عن إنسحاب مقاتلي “داعش” من بنغازي وإلتحاقهم بصفوف تنظيم الدولة في مواقع اخرى. ومن المؤسف حقاً أن دكاكين الإعلام المأجور تتجاهل هذه الحقائق التي لاتتناغم مع ما يطرحه “حفتر” من بروباغندا مكافحة الإرهاب.

أخيراً.. إننا أمام كارثة وطنية لم تشهدها ليبيا عبر تاريخها الحديث، فالحرب الضروس التي أشعلها ميكافيللي الرجمة “حفتر” منذ مايقارب الخمس سنوات في البلاد وماخلفته من خسائر مادية جسيمة ومآسي إنسانية مفجعة من قتلى وجرحى ومهجرين.. بينت حقيقة الوهم والهذيان الذي يعيشه، والذي جعل من ليبيا ملعب مفتوح لسياسات دول إقليمية معادية لتطلعات الليبيين في الحرية وبناء دولتهم المدنية. وبرغم التشوهات السياسية في المشهد الليبي الحالي إلا أن إرادة الشعب الليبي الحرة ستظل كالسد المنيع في وجه الواهمين والمتآمرين. وبعيداً عن أسباب النزاع والإنقسام والفتن، كلنا معنيون بانقاذ الوطن من الضياع، فإن ضاع الوطن ليس ثمة أبرياء.. كلنا مذنبون.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا