هل تنتصر السياسة على الأيديولوجيا؟ - عين ليبيا

من إعداد: عبدالرزاق العرادي

إذا كان لا بد من منتصر بين الأيديولوجيا والسياسة فإني من أنصار السياسة.

النقاش الحالي بشأن الوضع في ليبيا ومسودة الاتفاق بعد تفجر فضيحة المبعوث الأممي إلى ليبيا، أخذ منحى تركز على شخص المبعوث المرتشي وتناسى المسودة ومدى توازنها وتناسى أيضاً مآسي الوطن والمواطن وحاجته العاجلة للحل.

لا بد أن نعي  إرث الحرب والانقسام ومعاناة الأرامل والأيتام، والجرحى والنازحين في الداخل والخارج والفقر الذي حل بالكثيرين، والغلاء الفاحش الذي نكد معيشتهم. لا بد أن نعي حاجة الناس إلى الأمن والخدمات. علينا أن نعجل بالخطى نحو الحل، قبل الانفجار القادم، من قبل هذا الشعب، الذي لا يحس بمعاناته من هم في سدة الحكم.

فليشنق ليون:

انصب كل النقاش على تخوين ليون، واعتباره شخصاً غير نزيه، وغير مؤهل للوساطة، دون أي إشارة للاتفاق السياسي الذي أنتجه عام من الحوار بين الليبيين، كان ليون راعيه الأساسي بحكم موقعه في البعثة الأممية في ليبيا.

لا شك أن ليون وقع في فضيحة كبرى، حين سمح لنفسه بأن يكون موظفاً في جهاز خاص بدولة كانت طرفاً في النزاع الليبي، رغم كونه كان موفداً من أكبر منظمة في العالم. بل إنه يجب أن يخضع للتحقيق صيانة لسمعة الأمم المتحدة ووساطتها في النزاعات.

فليشنق ليون. لو هتف بهذا الشعار في الشارع، فسأكون من ضمن الهاتفين، لكن إلى متى؟ يجب أن نعود من فورة الهتاف إلى طاولة البحث، وأن نعيد أعناقنا إلى وضعها الطبيعي بعد أن أرهقها التطاول إلى خارج الحدود الليبية، نعيب الزمان.

احذروا الانفجار القادم:

إذا أردنا حلاً فلا ينبغي أن نقف عند من قام بصياغته؟. علينا أن نكون معنيين بالدرجة الأولة بما يتضمنه الاتفاق، وما يحققه من أهداف، وما يوفره للمواطن الليبي من جمع كلمة، وعيش كريم، وما يحقنه من الدماء الليبية التي سالت في غير طائل، وبلا أمل في حسم، من أي نوع.

إحدى مشاكل النظر الأيديولوجي أنه يحكم على القضايا بأطر خارجة عن جوهرها، ويغلفها في قوالب مسبقة، ثم يحكم على القضايا من خلال أحكامه الجاهزة على القوالب. إن النظر الأيديولوجي إلى المسألة سيغطي على الجانب العقلي فيها بالجانب العاطفي، ويجعل فضيحة ليون مشجباً لإلغاء الاتفاق، أو تأجيله. إنه سيجعل نية ليون هي المرجع في قبول الاتفاق ورفضه، لا حقيقة الاتفاق وبنوده، ولا واقع الليبيين، وحاجتهم إلى مخرج من أزماتهم المتطاولة.

إن تأخير التوافق، والتوقيع، ليس أكثر من مهلة جديدة يربحها أمراء الحرب لصالح مزيد من القتل، مزيد من الدمار، مزيد من الشقاق، مزيد من الفرقة، مزيد من النهب للخزينة العامة، مزيد من منع تصدير أرزاق الليبيين، ثم نجد أنفسنا وقد قبلنا بالتوقيع على اتفاق جديد، سيأتي متأخرا بأشهر، أو أسابيع، أو سنة، أو سنوات، ولن يكون في رضا الجميع.

إن النظر السياسي الاستراتيجي إلى واقع ليبيا يقول إنه لا بديل عن الحوار كمخرج من الأزمة الليبية. هذا هو جوهر المسألة، وإنه لا معنى لرفض الحوار بأثر رجعي،  لأننا عرفنا أن ليون كان منحازاً إلى طرف بعينه، أو أنه كان يبحث عن مصالح شخصية من وراء دعم فريق في الحوار الليبي.

يجب أن نعرف ما نريد:

في العمل السياسي وتدبير الأمور العامة يفيدك أن تعرف ما تريد، أكثر مما يفيدك معرفة ما لا تريد. الخصوم ليسوا وكلاء بيع في مركز تجاري يعرضون عليك الأصناف واحدا تلو الآخر، حتى تجد الشيء الذي تعرف أنه ليس مما لا تريد. لا مفر أمامك من أن تعرف ما تريد وتسعى إليه بغض النظر عن نوايا من يحملونه، أو يعينون عليه.

لم يلق الرسول صلى الله عليه وسلم بالاً لنية قزمان لما عرف من قدرته على القتال، رغم أنه أخبر أنه من أهل النار، حتى ولو مات من الجراحات التي أصيب بها في أحد. لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدرك أن هزيمة العدو هي هدفه. ولو كان يجهل ما يريد لمنع قزمان من القتال معه، لأن نيته كانت الدفاع عن “أحساب قومه”، وليست رفع راية الإسلام.

ليون فشل:

إن النظر إلى فضيحة ليون من وجه آخر، يقول إن الليبيين نجحوا وإن ليون فشل في كل مساعيه؛ فقد نجحت الشخصيات، والمؤسسات المحسوبة على فجر ليبيا في الدخول بقوة إلى المؤسسات المنبثقة عن الاتفاق. وهو نجاح يجب أن يكرس بالمضي في الاتفاق، وتعديل ما يستحق التعديل فيه.

واقترب الليبيون أكثر من الاتفاق والتوحد، رغم إرادة ليون في تفريقهم، وعدم التئام شملهم، والرد على ليون وموظفيه ورؤسائه الجدد يكون بمنع مراده، باستيعاب خلاف التنوع ومعرفتنا لمرادنا.

التوقيع بالتغليب والتقريب:

مما عاد في ثنايا الجدل على خلفية فضيحة ليون الحديثُ  عن تخطيء التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق، وجرى التحجج بأن الفضيحة تعود بالنقض على مبدأ التوقيع، وقبول الاتفاق، وكأن الذين وقعوا بالأحرف الأولى وقعوا على تزكية برناردينو ليون  أو عصمته من الارتشاء أو البحث عن مصالحه الشخصية، وهنا لا بد من التذكير بأمرين مهمين:

الأول أن الذين وقعوا الاتفاق بالأحرف الأولى، كانوا يدركون أنه ليس مثالياً، وأن المصلحة تكمن في التوصل إلى اتفاق يفضي إلى حكومة وفاق، تحاول تدارك الواقع، قبل أن يتحلل ما هو قائم، من بقايا الدولة وعلاقات المجتمع تحت وطأة الفتن والحروب.

الثاني أن الذين وقعوا كانوا يرجحون باجتهاد بشري نجحوا في تعطيل منح الشرعية كاملة لمجلس النواب ومنع تسليح جيش حفتر وإبعاد تهمة الإرهاب عن معسكر فجر ليبيا.

لقد بسط العالم المغربي الدكتور أحمد الريسوني في كتابه عن التغليب والتقريب، القول عن نسبية اجتهادات البشر، وضرورة وعيهم بهذه النسبية، وبيَّن أنهم مخاطبون شرعاً بالعمل بما يقودهم إليه النظر المنضبط بضوابط الشرع الواعي بضرورات الواقع، وسيكون اجتهادهم في هذا رأياً يقبل النقد والنقض، لكنه بعيد كل البعد عن منطق “الحق” و”الباطل” و”الكفر والإيمان”  والولاء والبراء. إنه تدبير دنيوي، ومقاربة للمصلحة، وسعي إلى ارتكاب أخف الضررين.

يعود النظر الأيديولوجي هنا بقوالبه الجاهزة ويلبس الخلاف بالعقيدة، ويضع أغلفته ليخبرنا بأن من يرتكب مثل هذا الفعل كافر أو منافق أو تلزمه توبة، ناهيك عن التدني الأخلاقي بتخوين المخالف ووصفه بأنه ذيل وأبن سوء. وتلك قصة أخرى لن تنتهي قبل أن تنتصر السياسة، في ميدان السياسة، وتعود الأيديولوجيا إلى الأخذ بشيء من فقه النسبية.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا