وطنية المليشيات وعمالة العسكر - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

تتردد كلمة الملشيات كثيراً في الإعلام العربي خلال العقدين الماضيين وبطريقة هستيرية تفقد معناها، وتُنعj كل مجموعة مقاومة للإستبداد والطاغوت بأنها مليشيا خارجة عن القانون، ويرجع ذلك إلى أن النظام الرسمي العربي بأمراءه وملوكه ورؤساءه مغتصبون للسلطة لعقود طويلة، فتعمل هذه الحكومات على تشنيع الخصوم بوصفهم خوارج وإخوان وصفويين ومقاتلة، بالمقابل لا يجد الشباب الحر في دول الإستبداد إلا الإنضمام لمجموعات مسلحة مقامة للحكومة التي نصبت نفسها وشرعنت لبقاء أبنائها في الحكم لعقود طويلة. كلمة مليشيا لها تعريفات كثيرة منها القُوى غير النظامية، ومنها قوة الإحتياط ومنها المجموعات المسلحة التابعة لتنظيم سياسي معين، ومنها قوة الطوارئ، والأكثر إستعمالا أنها قوى عسكرية غير نظامية تقوم بمهام حماية المجتمع في حالة الطواري، وعكسها قوى المرتزقة التي تقدم خدماتها بمقابل متفق عليه مسبقاً، أما نعثها (الفرنسي) بأنها مجموعات خارجة عن القانون وضد الحكومة فهو مصطلح لدعم الحكومات الإستبدادية الأفريقية الموالية لفرنسا.

تاريخيا معظم الجيوش كانت غير نظامية حتى العصر الحديث، فجيوش العرب في الجاهلية لم تكن سوى مليشيات مسلحة وحتى في العصر الإسلامي كان الولاء يقتصر على قائد المجموعة ولا شأن له بقيادة الجيش، فهي مليشيات بالمفهوم الحديث، فمثلا كانت هزيمة المسلمين في غزوة أحد نتيجة تصرف قائد المجموعة وعدم إطاعته لقيادة الجيش المتمثل في رسول الله والذين معه، بأن ذهبت المجموعة لجمع الغنائم وترك ظهر المسلمين لعدوهم. وبالمثل في الفتنة الكبرى تكونت مجموعة من الفرق المسلحة تنفذ أوامر قاداتها ليستمر القتال، وليس أوامر أمير المؤمنين على كرم الله وجهه وهي مليشيات قبلية بالمفهوم الحديث، ولا شك أن المجموعات الجهادية الليبية المقاومة للأستعمار الإيطالي لم تكن سوى مليشيات مسلحة لها أهداف نبيلة.

الفرق الكبير بين مليشيات الهاجانا الصهيونية (التي أجرمت في حق الفلسطنيين) ومليشيات بني سليم التي قتلت سبعون صحابيا ممن بعثهم الرسول إلى بئر معونة لنشر الإسلام، ومليشيات بوكوحرام في نيجيريا أو داعش وجيش حفتر وصحوات بوهديمة ولواء الكانيات من جهة والمجموعات المسلحة المنضبطة مثل قوات صلاح الدين اللأيوبي أو مجاهدوا عمر المختار أو الحلبوص أو المتحركة أن الفرق هو عدالة القضية والإلتزام بالقيم الإسلامية النبيلة، ففي الأولى نجد الحرب لأجل شخص أو قبيلة والغدر والسحل والتمثيل بالجثت وفي الثانية نجد مقارعة العدو في ساحات الوغى لأجل قضية عادلة وأهداف نبيلة وقيم عالية والإبتعاد عن سفاسف الأمور.

في ليبيا لا يوجد جيش بالمعنى المهني المتعارف عليه، فهو عبارة عن كتائب أمنية مرفهة، وكم هائل من الضباط تابعين للجنة دفاع مؤقتة لم ترقي لوزارة، وتستخدم قيادة الدولة هذه المجموعات لما يزيد عن أربعة عقود لإحكام القبضة الحديدية على البلاد والعباد.

مع تفكيك الجيش في سنة 2011 قام معظم الضباط الشرفاء بالعودة إلى مدنهم وقراهم وتاسيس مجموعات مسلحة في مدنهم لحفظ الأمن ومقارعة الخارجين عن القانون بما يعرف بالمجالس العسكرية وهي نواة لما نحن عليه الآن ممن أٌسطلح على تسميتهم بالمليشياة. نعم عدد المشاركين في حرب التحرير سنة 2011 لم يتجاوز 40 الف في حين ان من تم تسجيلهم بعد ذلك يتجاول 80 ألف وهي مجموعات لا يقوم جل أفرادها بعمل مثمر مع تكدس مشين لألاف الشباب ومرتبات تدفع بلا مقابل يذكر، وهو خرق لقوانين الدولة وسؤ إدارة من المجلس الإنتقالي والحكومات المتعاقبة.

هذه المجموعات المقاتلة من عسكريين وقوات مساندة تابعة لمؤسسات الدولة العسكرية رغم تفككها وعدم وجود هيكلية تضمها ولا قيادة موحدة تجمعها، تنادت لصد عدوان حفتر وأردعته بل وغيرت ميزان القوى داخليا وخارجيا، ليس حبا في حكومة الرئاسي الضعيفة ولكن نصرة لمنطلقات وأهداف ثورة السابع عشر من فبراير، وهي التمسك بالخيار المدني للحكم، والتداول السلمي للسلطة، ومنع عسكرة الدولة، ومنع الإستبداد والدفاع عن الحريات العامة. هولاء من حاربوا داعش في سرت وحافضوا على مصارف الدولة من العبث بها، ولجموا قوى الشر من المجرمين والعملاء المتربصين بامن المواطن. لا شك أن المليشيات هي الحامية للمحاكم والسفارات والمطارات والمواني والبعثات الدبلوماسية وحتى محطات البنزين وتسيير المرور في الطرقات.

جيش حفتر وجيش اللجنة المؤقتة للدفاع الذي يدعي بانه الجيش النظامي هو الجيش الذي يدك عاصمته بالأسلحة النارية القاتلة ويُهجر أهلها ويوقف الدراسة عن ابنائها ويهد المنازل على روؤس ساكنيها، ويوظف دول قزمية وأخرى عظمى لمشروع تنصيب حفتر لحكم ليبيا بقوة السلاح، ناهيك عن الإستلاء على المصرف المركزي في بنغازي وأرصدة المصارف التجارية في مدن الشرق الليبي لشراء الدمم والدخيرة المصرية والمعدات الحربية الإماراتية. الجيش الذي أعطى للإمارات قاعدة الخادم وعلى إستعداد للتخلي عن الجغبوب لمصر ولا يهمه أن تكون قواعد بحرية للروس في راس هلال، ناهيك عن تجنيد مئات المرتزقة من العدل والمساواة والذين يتواجدون في واحة زلة، فالبون شاسع بين مليشيا للوطن وجيش مرتزق.

مشكلة المليشيات المنضبطة في ليبيا هي مشكلة الحكومات المتعاقبة، وحتى الترتيبات الأمنية تم إذعان جلهم لها ولكن سؤ إدارة الملف العسكري والأمني حال دون الوصول إلى حلول ناجعة، مثل إعادة تأهيل هؤلاء الشباب وإدماجهم في مؤسسات الدولة الإقتصادية أو العسكرية والأمنية، وعدم وضع أسس مثينة وقواعد واضحة لتأسيس جيش وطني محترف بل بقيت المجموعات المسلحة مشتتة مرتبكة لا رابط مؤسساتي يجمعها.

وطنية وصدق نوايا المليشيات كان على المحك يوم ألرابع من أبريل حين أعلن حفتر بداية عملياته لغزو العاصمة، وبذلك فلقد تنادت المجموعات المسلحة بطريقة عفوية لصد الهجوم، لم تكن من مدينة ولا من منطقة واحدة بل شارك في صد المعتدي كل الليبيين، حيث هب الجميع لحماية منطلقات السابع عشر من فبراير والوقوف أمام سطوة حفتر وزبانيته، وهب هؤلاء بانفسهم طواعية إلى ساحات الوغى، فلم يكن هناك أوامر فردية رغم وجود إعلان للنفير العام، وشاهدنا جيش اللجنة المؤقتة للدفاع إما مواليا لحفتر مثل سحبان وبن نايل ومادي أو مغيرا جلده وقابعا في مكاتبه يحتسي فناجين القهوة. لم تكن الدعايات المغرضة مثل فتح إعتمادات الإستيراد وإستشراء الفساد تحبط من عزائم تلك الفتية، بل دخلوا معارك الشرف والبطولة فمنهم من تقبله الله بقبول حسن ومنهم من ينتظر ولله الفضل والمنة.

ما بعد الحرب ليس كما قبله، فمن أخطاء الرئاسي التماهي مع حفتر لتقوية شوكته إعلاميا وعسكريا وحتى ماليا، منها تمويل المصارف في الشرق الليبي بالعملة الصعبة التي إستغلها حفتر لشراء العتاد الحربي، ومنها التغاضي عن إكتساح حفتر للجنوب، ومنها التغاضي عن حفتر عند الهجوم على الحقول النفطية وكان من الممكن تكسير شوكته قبل ان يقوم بهذا العمل، ومنه عدم مساعدة أهالي بنغازي ودرنة من التخلص من الطاغوت ومنها التماهي مع الدول العربية الداعمة للإنقلابي حفتر، ومنها التغاضي عن إستعمال مصالح الغرب الإقتصادية في ليبيا لتعديل سياساتها. هذه السياسات يجب ان يتم معالجتها ومعالجتها بسرعة من اجل بنا مؤسسات الدولة على اسس سليمة، وعدم الإكثرات إلى بمبداء التوافق الهزيل الذي اربك المشهر وحال دون بناء دولة عصرية بعيدة عن الحكم الفاشي، فالإهتمام يجب أن يكون منصبا لبناء الدولة وليس لتوحيد الجيش، والمنطقة الشرقية ليست حفتر وأبنا عمومة الفرجاني الإثنى عشر المتربعين على مشروع الكرامة ولا صراصير مجلس النواب، بل المنطقة الشرقية لها زخم من المثقفين والأكاديمين والعسكريين الشرفاء والمخضرمين في العمل السياسي وأصحاب البيوتات وأبناء العائلات العريقة، هؤلاء هم من سيمثل شرقنا الحبيب في اللقاءات القادمة.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا