وقفات للتأمل: هل نحصد إلا ما نزرع؟!

وقفات للتأمل: هل نحصد إلا ما نزرع؟!

د. إبراهيم التركاوي

باحث أكاديمي في الفكر الإسلامي

new-article4_6-11-2016

إن الله -عزّ وجلّ- أقام الكون وأحكم شؤون العباد بسنن، لا تتبدل، ولا تتحول {..فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} (فاطر: 43)

ومن سنن الله الحاكمة لمستقبل الأمم والمجتمعات: أن (الإنسان لا يحصد إلا ما زرع).

ولقد حفلت رسالات السماء بتلك السُنَّة الحاكمة من جانب، ونطق بها الواقع في دنيا الناس من جانب آخر..

  • فأما ما حفلت به رسالات السماء:

إذا تأملنا القرآن الكريم، وجدناه ينضح بتلك الحقيقة في أكثر من موطن:

أولا: وضع القرآن الكريم قانونا عاما، يبين أن الإنسان يجني ثمار جهده، ونتاج عمله أيا كان، في الدنيا والآخرة، فقال -جلّ وعلا-: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8)

ثانيا: رتّب القرآن الثواب والعقاب علي حسب ما يزرعه الإنسان: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الأنعام:160)

ثالثا: وعد القرآن الإنسان بحصاد مضاعف لما زرعه من خير: {..وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20)

وفي الحديث القدسي: “.. يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِـيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ” (رواه مسلم)

وإذا ما تأملنا ما جاء في العهد الجديد، نجد في رسالة بولس الرسول إلي أهل (غلاطية): “لاتضلوا، الله لا يشمخ عليه، فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصده أيضا؛ لأن مَن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية ” (الإصحاح السادس: 7-8)

وجاء في الشرح: إن كل إنسان زارع إما لجسده أو للروح، وإيماننا وأفكارنا وكلماتنا وأفعالنا، هي البذار الذي نزرعه للأبدية، إما أبدية البركة والهناء أو أبدية التعاسة والشقاء . فكم يجدر بكل واحد منا أن يفكر ماذا يكون حصاده!

  • وأما ما نطق به الواقع في دنيا الناس:

* ما نطق به الواقع -في جانبه المضيء- أن ما تسعد به البشرية من تقدم ورقي، أسعدَ الإنسانَ، ووفّر وقته، وهيّأ له سبل العيش الكريم، فجعله يطير في السماء كالطير، ويغوص في الماء كالسمك، ومكّنه من الكون برا وبحرا وجوا.. لا شك أنه من زرع أناس أجهدوا ذكاءهم، وأعملوا فكرهم، وواصلوا بالليل والنهار جهدهم، فكان لهم حصاد ما زرعوا..!

* وما نطق به الواقع – في جانبه المظلم – أن ما تعانيه البشرية عامة والعالم الإسلامي خاصة، من آلام الدمار والتشريد، ومن أوجاع الفقر والجوع، هو -على حد تعبير الدكتور محمد عمارة- بسبب تركز الثروات ومن ثم الاستهلاك المترف، في يد القلة، وتركز الفقر وانعدام القوة الشرائية في جانب الكثرة الكاثرة من البشر.. الأمر الذي جعل رأس المال العالمي ينصرف عن الاستثمار الإنتاجي والتجاري والخدمي إلى السمسرة والمضاربات والمقامرات وصناعة السلاح وتجارات الجارة والمخدرات!

نجد هذا المشهد البائس والمتوحش في نسبة ما ينفق -من الاقتصاد العالمي- على الدمار والترف إلي نسبة ما ينفق علي ضرورات وحاجات الناس.

فأول تجارة في عالم الرأسمالية المتوحشة هي تجارة السلاح، تليها تجارة المخدرات.. تليها تجارة الدعارة!.. وما ينفق علي الخمور والقطط والكلاب هو أضعاف أضعاف ما ينفق علي الصحة والتعليم والغذاء..!

إن أمتنا -اليوم- تجني حصاد ما زرعت، ذلّة وتبعيّة، وفقرا ورجعيّة.. ولا عجب، فقد تجاهلت رسالتها، وتنكّرت لقيمها، ويمّمت وجهها شرقا وغربا، وشرعت لأنفسها مالم يأذن به الله -عزّ وجلّ-..

تُري ماذا كسبت بعد ذلك كله؟ كسبت أزمات الجوع والخوف..!!

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (النحل: 112)

رُوِي أن سيدا كان له عبد يعملُ في مزرعته، فقال هذا السيد لعبده: ازرع هذه القطعة بُرا، وذهب وتركه، وكان هذا العبد لبيبا عاقلا ، فما كان منه إلا أن زرع القطعة شعيرا بدل البُر. ولم يأت ذلك الرجل إلا بعد أن استوي الزرع، وحان وقت حصاده. فجاء، فإذا هي قد زُرعت شعيرا، فما كان منه إلا أن قال لعبده: أنا قلت لك ازرعها بُرا، لم زرعتها شعيرا؟

قال له: رجوت من الشعير أن ينتج بُرا!

قال: يا أحمق، أفترجو من الشعير أن ينتج برا؟

قال: يا سيدي، أفتعصي الله وترجو رحمته، أفتعصي الله وترجو جنته؟

ففطن الرجل لحكمة عبده وكياسته، فتاب وعاد إلى الله، وأصبح العبد حرا لوجه الله.

ونتساءل، أنزرع الجهل ونرجو تقدما؟!، أنزرع الشر ونرجو خيرا؟!

كلا..  ما يُنالُ الخيرُ بالشرّ ولا  ** يَحصد الزارع إلاّ ما زَرَع!

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. إبراهيم التركاوي

باحث أكاديمي في الفكر الإسلامي

اترك تعليقاً