الصفات المعتبرة للسفراء عند المسلمين وعند الغرب

الصفات المعتبرة للسفراء عند المسلمين وعند الغرب

د. محمود المعلول

كاتب وباحث ليبي

new-article1_7-11-2016

لقد سبق المسلمون غيرهم من الأمم والشعوب في وضع شروط وقواعد جديدة لاختيار السفراء والرسل والمبعوثين لأن السفير يعكس صوره أمته وثقافتها وحضارتها أينما رحل وأينما توجه، فهو ليس ممثلاً لدولته فحسب بل ممثلاً لرسالة الإسلام، ومما لا شك فيه أن شخصية السفير وأمانته وتقواه لها أبلغ الأثر في الدعوة إلى الدين عن طريق أعماله وتصرفاته وكلامه ومحاسن أخلاقه.

ويمكننا القول أن الكثير من الأمم السابقة قد وضعت شروط وقواعد لاختيار السفراء وعندما جاء الإسلام أقر تلك القواعد وأخذ بها مثل الأمان الممنوح للرسل والسفراء فقد كان معروفاً من قبل، كذلك فإن أسس اختيار السفراء كانت معروفة من قبل عند الأمم ذات الحضارات فقد جاء في الحضارة الهندية في وصايا الفيلسوف (مانو) قوله: يجب أن يختار السفير من بين العارفين تماماً بكل القواعد بحيث يستطيع أن يفهم حقائق الأشخاص من هيئتهم ومنظرهم وحركاتهم، وأن يكون نقي الصفات غير قابل للفساد نشيطاً رفيع النسب.

اشترط المسلمون صفات كثيرة للسفير لكي تنجح سفارته ويستطيع تأدية مهمته على الوجه الأكمل كما أن المسؤولية في اختياره تقع على من بيدهم الحكم (رئيس الدولة) فإن أحسنوا الاختيار صلح الأمر الذي من أجله بعث السفير لأنه السفير هو ممثل للأمة كلها، ومما لا شك فيه أن الصفات التي اشترطها الني الأكرم صلى الله عليه وسلم تختلف عن الصفات والسمات التي يمتاز بها السفراء اليوم.

الصفات الخليقة (حصافة الرأي وكمال العقل والحكمة وطلاقة اللسان).

الصفات الخلقية يضم الخاء معناها نفاذ الرأي وحصافة العقل والحكمة مع طلاقة اللسان في الكلام ومعرفة مخارجه ومداخله، فعلى الحاكم والمسؤول أن يختار السفير من صفوة الأشخاص الموجودين عنده علماً ورأياً وحكمةً، وضرورة توخي الدقة في اختيار السفراء، وقد جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن قوله “وأرسلت لكم من صالحي أهلي وأولي دينهم وأولي علمهم“، مما يدل على أنه عليه السلام اختار شخصاً تتوفر فيه صفات الكمال من صلاح وعلم ودين، وهي صفات مطلوبة لنجاح السفير في عمله.

وقد قال عليه الصلاة والسلام ” من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ” ، طبقاً لذلك فإن الرجل المناسب في المكان المناسب بمعنى أن يتم الاختيار وفق الأصلح وصاحب الكفاءة والخبرة ، وبناء على ذلك اختار عليه السلام سفرائه ورسله إلى الملوك من أهل الذكاء والفطنة والحكمة ، وقد أرسل عليه السلام عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد أبني الجلندي ملكي عمان فلما وصل عمرو بن العاص إليهما وجد أخ الحاكم أسهل خلقاً من أخيه فبدأ به عمرو بن العاص مع أن الرسالة موجهة إلى أخيه لكي يكون مدخلاً إلى أخيه فيسلم وفعلاً كان ذلك .

وكذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسله عليه السلام إلى المقوقس حاكم مصر فقال له المقوقس عن سيدنا محمد: ما منعه إن كان نبياً أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده فرد عليه السفير بقوله: وما منع عيسى وقد أخذه قومه ليقتلوه أن يدعو الله عليهم فيهلكهم، فقال له المقوقس: أحسنت أنت حكيم جاء من عند حكيم..

والشواهد كثيرة من التاريخ الإسلامي التي تدل على حكمة السفراء وردهم بأحسن العبارات في المواقف الصعبة كما رد حاطب في ذلك الموقف لأنه تمَّ اختيارهم على أسس صحيحة فكانوا من العلماء وأهل الذكاء والفطنة.

لقد اهتم المسلمون بصفات السفير وأن يتم اختياره وفق تلك الصفات المعتبرة، ومنها أن يكون ذا نسب وشرف في قومه من أهل الفضل والصلاح لأن صاحب تلك الصفات لابد أن يقتفي آثار أهله كما يقول أبن الفراء ” ليكن من أهل الشرف والبيوتات ذا همة عالية فإنه لابد من مقتف آثار أوليته محب لمناقبها.

ويضيف ابن الفراء في صفات السفراء والرسل والمبعوثين فيقول: “اختر لرسالتك في هدفك وصلحك ومهماتك ومناظرتك والنيابة عنك رجلاً حصيفاً بليغا حولاً قلباً، قليل الغفلة، منتهز الفرصة ذا رأي جزل، وقول فصل، ولسان سليط، وقلب حديد، فطناً للطائف التدبير، ومستقلاً لما ترجو، أو تحاول بالحزامة وإصابة الرأي متعقباً له بالحذر والتميز… جامعاً مع هذا العلم الفرائض والسنن والأحكام والسير، ليحتذي مثال من سلف فيما يورده ويصدره، عالماً بأحوال الخراج والحسابات، وسائر الأعمال ليناظر كلاً بحسب ما يراه من صوابه وخطئه”.

من النص السابق يتضح أن المسلمين اشترطوا في السفير أن يكون ملماً بكل العلوم والمعارف بمعنى واسع الثقافة والمعرفة، ومن بين هذه العلوم الرياضيات والتاريخ، والسنن والأحكام..

وأما الماوردي فقد جعل اختيار السفير من مسؤولية الحاكم، ويذكر في صفات السفير صفات سبقت الأمم الأخرى، وأضافت عليها فيقول: “على الملك أن يتفقد أمر رسله… فلا يرسل إلا من رضي أن يكون صورته الممثلة عند عدوه، ولسانه الناطق بحضرته ، فلا يختار لرسالته إلا رائع المنظر، كامل المخبر، صحيح العقل ، حاضر البديهة  ذكي الفطنة، فصيح اللهجة، جيد العبارة، ظاهر النصيحة، موثوقاً بدينه وأمانته، مجرباً حسن الاستماع والتأدية ، كتوماً للأسرار، عفيفاً عن الأطماع، غير منهمك في الفواحش والسكر والشرب، فإنه في كل هذه الخلال عوائد يعود نفعها على الملك والمملكة إذا وجدت في الرسول، وفي انحدارها ضرر عليهما”…

لقد اشترط المسلمون شروطاً كثيرة في السفير، كما ذكروا أن السفير الناجح يجب أن يبتعد عن عدة أمور ومنها: (الحدة ـ الحسد ـ الغفلة ـ العجلة ـ النميمة ـ الكذب ـ الضجر ـ العجب ـ الهذر)، لأن تلك الأخلاق الذميمة تفقد السفير مكانته، وتقلل من أداء مهمته، وكلها عوائق تعيقه عن أداء مهمته بل أنها صورة شائنة له ولأمته.

الصفات الخلقية (الجبلية) للسفراء:

أهتم رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم عند اختباره للسفراء بالصفات الخلقية وهي صفات الشكل وتمام القد لأن النفس تأنس بصاحب الوجه الحسن والطلة البهية مع توفر باقي الصفات الأخرى، وقد سار الخلفاء من بعد النبي على هذا النهج فاختاروا السفراء ممن عرفوا بجمال المنظر وحسن الخلقة، وفي الحديث الشريف “إذا أبردتم لي بريداً فأبرودوه حسن الوجه حسن الاسم”، وكان عليه السلام يختار سفرائه ممن عرفوا بجمال الخلقة وحسن المنظر كما فعل مع دحية الكلبي الذي وصف بأنه “أجمل الصحابة وجهاً، ومن كبارهم، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورته، كما قيل أن دحية إذا قدم بلاد الشام لم تبق مخدرة إلا خرجت لتنظر إليه.

ودحية هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضال الكلبي صحابي جليل ، أسلم قديماً ، ومعنى دحية في لغة أهل اليمن الرئيس كما ذكر السهيلي، وأول مشاهده معركة الخندق وقيل أحد وزوجته هي درة بنت أبي لهب أبنه عم النبي، وقد شهد دحية بعد إسلامه المشاهد كلها فلم يفارق النبي، وكان الرسول يشبهه بجبريل عليه السلام وكان جبريل ينزل على صورته لأنه كان من أجمل الناس ذو هيئة حسنة جميلة، وكان إذا قدم المدينة أو الشام لم تبق معصر أو عاتق إلا خرجت تنظر إليه، والمعصر هي الفتاة (الشابة) التي بلغت سن الحيض ، والعاتق هي المرأة البكر التي لم تتزوج قال كثير عزة (ت 105 هـ) نظرت إليها نظرة وهي عاتق.. على حين أن شبت وبان نهودها.

وقد شهد دحية معركة اليرموك والتي كانت فيها هزيمة الروم وزوال سلطانهم من على أرض الإسلام، أما وفاته فقد كانت في عهد معاوية بالشام سنة 45 هـ / 665 م.

فلابد أن يكون السفير وسيماً جسيماً يملأ العيون، وفي جمال الشكل يقول أبن الفراء “يستحب بالرسول تمام القد وعبالة الجسم حتى لا يكون قميئاً ولا ضئيلاً.. فإن الصورة تسبق اللسان، والجثمان يستر الجنان“، ويضيف إلى حسن الخلقة أن يكون حسن الصوت وحسن الرواء والمظهر مقبول الشمائل حسن البيان جيد العبارة حافظاً لما يبلغ ليؤديه على وجهه..

اشترط رسولنا الكريم في السفير صفات تؤهله وتميزه عن غيره لحمل الرسالة فالهيئة أي قوام الجسم مع جمال الشكل واللباس كل ذلك له دور كبير في إنجاح مهمة السفير أو فشلها فمثلاً لا يمكن أن يكون السفير أعوراً أو أعرجاً لأن ذلك يعتبر من أهم المعوقات لأداء مهمته واختلاطه بالناس.

وقد أرسل الرسول دحية الكلبي إلى هرقل إمبراطور الروم وكان دحية ذو هيئة حسنة جميلة فلا عجب أن يختاره الرسول سفيراً إلى أعظم دول الأرض وأشدها سطوة وبأساً، ومصعب بن عمير (595 ـ 625 م) كان هو الأخر ذو هيئة حسنة جميلة اختاره الرسول أول سفير في الإسلام إلى أهل المدينة يعلمهم القرآن الكريم وتعاليم الإسلام، وكان مصعب أعطر شباب مكة وقد سماه المسلمون بمصعب الخير فلا عجب أن يختاره الرسول دون غيره من الصحابة، وقد قام بمهمته خير قيام ، وأسلم على يديه كبار الصحابة من قبيلتي الأوس والخزرج وقال عنه النبي (ما رأيت بمكة أحداً أحسن لمة ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير)، واللمة هي الشعر والحلة هي اللباس وهذه من أهم الصفات الواجب توفرها في السفير اليوم، بالإضافة إلى الصفات الأخرى التي تحرص الدول المتقدمة اليوم على توفرها في سفرائها ودبلوماسييها .

وقد ذكر الإمام الغزالي (450 ـ 505 هـ / 1058 ـ 1111 م) الجمال فقال: “أن الجمال في الأكثر يدل على فضيلة النفس لأن نور النفس إذا تمَّ إشراقه تأدى إلى البدن فالمخبر والمنظر كثيراً ما يتلازمان ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيئات البدن فقالوا الوجه والعين مرآة الباطن، وقال تعالى مادحاً الملك طالوت (وزاده بسطة في العلم والجسم) سورة البقرة الآية 247، ولسنا نعني بالجمال ما يحرك الشهوة فإن ذلك أنوثة وإنما نعني به ارتفاع القامة على الاستقامة والاعتدال في اللحم وتناسب الأعضاء وتناصف خلقه الوجه بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه”.

وهكذا نجد أن النبي الكريم حرص كل الحرص على توافر صفات معينة في المبعوث أو السفير، ومن كانت هذه صفاته راق في العيون وحبب إلى القلوب وأنست به النفوس وانشرحت لحديثه الصدور وبالتالي كان مجاباً إلى حاجته.

أما من ناحية الأسماء فتجدر الإشارة إلى أمر هام وهو أن النبي عليه السلام كان يعجبه الاسم الحسن الجميل فقد غير أسماء بعض الصحابة فمثلاً كان أسم الصحابي المهاجر بن أبي أمية أخو زوجة الرسول السيدة أم سلمة (الوليد) فكره الرسول اسمه وقال هو المهاجر، وأرسله سفيراً إلى الحارث بن عبد كلال الحميري أحد زعماء اليمن.

كذلك اشترط المسلمون أن يعرف السفير لغة القوم المبعوث إليهم ، فالرسول الأكرم عندما أرسل السفراء اختارهم كل سفير يعرف لغة القوم المبعوث إليهم فأبن عساكر يذكر ما نصه أن رسول الله لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة 6 هـ / أبريل 628 م أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتباً فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد وذلك في المحرم سنة 7 هـ / مايو 628 م وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم ، ويضيف أبن سعد في كتابه الطبقات الكبرى فأصبحوا يعني الرسل وكل منهم يتكلم بلسان القوم الذين أرسل إليهم ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذا أعظم من كان من حق الله عليهم في أمر عباده .

ولقد عرف العرب منذ القدم السفراء والمبعوثين فكانوا يختارون في أصحاب الحكمة والفطنة والذكاء وقد قالت العرب في أمثالها السائرة (أرسل حكيماً ولا توصه ) ، وكانت السفارات قبل الإسلام بقصد عقد الأحلاف لتسهيل مرور تجارة القوافل ، والتفاوض والتحكيم فيما يقوم بينهم من حروب ومنازعات وتقديم التهاني أو التعازي .

إن جمال الشكل من الأمور المهمة عند اختيار السفير، وهناك من يعتبرها من الأمور المكملة التي يستحسن وجودها مثل امتلاء الجسم والطول وجمال المنظر ووضوح الصوت وحسنة وجهوريته لأن تلك الصفات تقرب صاحبها من ناظريه، وتجعله أكثر قبولاً وبالتالي ينجح في مهمته أكبر نجاح..

ومما تجدر الإشارة إليه ومن الأمور المهمة أنه على السفير أن يلبس أفخر الثياب وأجملها، ويتعطر بأحسن العطور لأنه رمز من رموز البلد، ولأن ذلك مدعاة للهيبة والاحترام كما فعل سفير الخليفة العباسي المعتصم مع ملك الروم الذي عندما دخل عليه هابه واحترمه وأعجب به لأنه تجمل وتزين بأحسن الثياب.

وقد عرفت في الدولة الإسلامية الأولى ومن أتى بعدها أن يأتي الرسل والسفراء في أحسن منظر والتأنق في اللباس والطيب، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قدوة المسلمين في ذلك حيث كان يتزين عند استقباله للرسل والوفود والمبعوثين بأحسن الثياب، ويحث أصحابه على ذلك، وهناك من يرى أن المبالغة في استقبال الرسل والسفراء في الدولة الإسلامية كانت لسببين الأول: إكرام الرسل والسفراء لأن هؤلاء السفراء يتكلمون باسم من أرسلهم، والسبب الثاني: إظهار عظمة وقوة الدولة الإسلامية لتقع هيبتها في نفوس السفراء فيقصون ما شاهدوه وسمعوه على ملوكهم .

والخلاصة أن الدول المتقدمة اليوم تهتم بحسن المنظر لسفرائها ومبعوثيها فإذا كان السفير لائق المنظر يلقى قبولاً كبيراً في الحياة الاجتماعية للبلد الموفد إليها، أما إذا كان ذو عاهة أو دميم الخلقة فإنه تنفر منه النفوس، ويصعب عليه تأدية مهمته، وفي العصر الحاضر تشترط الدول الغربية إجراء كشف طبي دقيق لمن ترسله سفيراً لها، وقد سبق الفكر الإسلامي الدول الغربية في اشتراط هذا الشرط.

إن الحضارة الإسلامية قد سبقت الغرب في كثير من الأمور، واشترطت شروطاً للسفراء والمبعوثين حتى يقوموا بتأدية مهامهم على أكمل وجه، فكان يتم اختيار السفراء والمبعوثين من العلماء والفقهاء وأهل الذكاء والفطنة.

الصفات الثقافية للسفراء:

بالإضافة إلى حصافة الرأي وكمال العقل والحكمة والشخصية الفذة التي تستطيع التأثير في الآخرين والصدق والأمانة تحرص الدول في العصر الحاضر على أن تتوفر في سفيرها أو مبعوثها الدبلوماسي صفات مثل سعة الثقافة والمعرفة وسعة الاطلاع والعلم بالتاريخ وخاصة تاريخ البلد الموفد إليها وعادات أهلها وتقاليدهم وطريقة عيشهم ومعتقداتهم، وكلها من الأمور المهمة التي لها تأثير في عمل السفير، وتساعد السفير على أداء مهمته.

اشترط المسلمون أن يكون السفير ذا ثقافة عامة شاملة، وقد تميز  السفراء في الدول الإسلامية بسعة الثقافة والفهم الدقيق للإسلام، والإحاطة التامة بكل ما نزل من القرآن الكريم وسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكذلك وهو ما تتطلبه الدول في العصر الحاضر بالسفير الخبرة الواسعة بالدولة المعتمد لديها أو الذاهب إليها لتبليغ رسالته، وبالناس الذين سيلتقي بهم، وتذكر لنا كتب التاريخ أن سفراء الدولة الإسلامية الأولى والدول التي جاءت من بعدها كانوا يتحدثون مع الناس ويناقشونهم في عقائدهم حديث الخبير والعارف والملم بكل الديانات والثقافات كحاطب بن أبي بلتعة الذي خاطب المقوقس وشجاع بن وهب الذي تحدث مع المنذر بن ساوي عن المجوسية ودحية الكلبي الذي تحدث مع قيصر الروم، وفي العهد الأموي والعباسي نجد عامر الشعبي الذي تحدث مع ملك الروم وأعجب به أشد الإعجاب وكذلك الإمام الباقلاني ويحيي الغزال.

إن أولئك السفراء كانوا من صفوة الأمة الإسلامية علماً وثقافة وخبرة بالأمم والشعوب والحكومات وبالإضافة إلى تلك الصفات نجدهم يتحلون بالصبر وحسن الخلق، ومراعاة حق مخاطبيهم في الفهم والمعرفة ، ولذلك كانوا يشرحون ويوضحون لهم، ويجيبون على أسئلتهم، أيضاً اتصف أولئك السفراء بسرعة مواجهة المواقف المفاجئة وحسن الحيلة، وتخلصوا من الانفعال والعصبية، وتمكنوا من تحقيق أهدافهم التي جاءوا من أجلها، بالإضافة إلى تمتعهم بحسن الفهم وحسن الخطاب وحسن العرض، ولذلك كانوا يتحدثون مع مخاطبيهم في بداهة عالية وهدوء ودقة متناهية.

اتصف السفراء في الحضارة الإسلامية بالصدق والصراحة والتقيد بتعاليم الإسلام فلم تذكر المصادر التاريخية أنهم خالفوا تعاليم الإسلام مثل شرب الخمر أو غيره مع أن أولئك الملوك عرضوا عليهم ذلك، ولكنهم رفضوا لأنهم كانوا ممثلين لعقيدة سامية، وكانوا يمثلون هذه الدعوة سلوكاً على الأرض.

يكفي مثلاً لسعة الثقافة والإلمام الشامل أن نذكر مثالاً لهؤلاء السفراء وهو الإمام الباقلاني (338 ـ 403 هـ / 950 ـ 1013 م) الذي ذكر عنه بأنه فريد عصره في مختلف العلوم فهو كما يذكر عنه الزركلي القاضي محمد بن الطيب المعروف بالباقلاني، أو بابن الباقلاني نسبة إلى الباقلاء وبيعها ، وكان والده يشتغل بذلك ، قال عنه أبن خلكان ” وكان في علمه أوحد زمانه… وكان موصوفاً بجودة الاستنباط، وسرعة الجواب”..

كان يضرب به المثل في الذكاء، وكان إمام المالكية في عصره بالعراق، وكان في وقته أوحد زمانه، لقب بلسان الأمة، وسيف السنة، اتصف بسرعة الجواب وجودة الاستنباط ، ألف العديد من الكتب ، ولد بالبصرة، وعاش ببغداد حتى توفاه الله، وأخذ العلم من علماء العراق في ذلك الزمان، وإليه انتهت رئاسة المذهب المالكي في عصره بلا منازع قال عنه المؤرخ اليافعي “هو سيف السنة، وناصر الملة، الإمام الكبير، الحبر الشهير، لسان المتكلمين، وموضح البراهين ، وقامع المبتدعين ، وقاطع المبطلين… المجدد على رأس المائة الرابعة، وكان كل ليلة إذا قضى ورده كتب خمس وثلاثين ورقة تصنيفاً من حفظه، وكان فريد عصره في فنه… انتهت إليه الرئاسة في العلم”..

قال عنه الخطيب البغدادي: “سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كل مصنف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه سوى القاضي أبي بكر، فإن صدره يحوي علمه وعلم الناس“، وقال عنه الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: “كان يضرب المثل بفهمه وذكائه”، ويذكر النباهي في كتابه تاريخ قضاه الأندلس أن عضد الدولة البويهي أرسله إلى ملك الروم ليظهر به رفعة الإسلام ويغض من النصرانية..

ومن الطرائف عن القاضي الباقلاني أن أعدائه كانوا يلقبونه بالشيطان لقوة حجته، ففي أحد الأيام كان بمجلس السلطان أبن المعلم، وهو أحد المعارضين والمخالفين للباقلاني فلما دخل الباقلاني إلى المجلس قال أبن المعلم دخل الشيطان فسمعه الباقلاني من بعيد، وعندما اقترب منه قرأ عليه الآية (إن أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً)..

جرت للقاضي الباقلاني بهذه السفارة أمور كثيرة، رفعت من قدره وشأنه، ودلت على عزة هذه الأمة وقوتها وشموخها ومكانتها بين الأمم، وأنها كانت تختار في سفرائها من أهل المكانة العالية والثقافة الواسعة، وقد أورد قصته القاضي عياض في كتابه ترتيب المدارك وتقريب المسالك، ووصفه بأوصاف جميلة منها قوله إنه “كان عالم عصره.. فاضلاً متورعاً.. ممن لم تحفظ له قط زلة، ولا نسبت إليه نقيصة، وكان يلقب شيخ السنة ولسان الأمة، وكان فارس هذا العلم مباركاً على هذه الأمة”..

فعندما علم ملك الروم بمكانة القاضي الباقلاني في الأمة الإسلامية أمر أن يوضع له سرير وراء باب لا يمكن أن يدخل منه الشخص إلا راكعاً، لكي يضطر الباقلاني للركوع، وبذلك يذله ويذل الأمة الإسلامية، فلما وصل الباقلاني إلى القصر قال لهم: أين الإمبراطور؟ فقالوا له: إن الإمبراطور وراء هذا الباب، فلما أراد الدخول ورأي الباب تفطن للأمر، فأدار ظهره ودخل من الباب وهو يمشي إلى خلفه (جعل مؤخرته في وجه الإمبراطور) احتقاراً له ورداً على تلك الإهانة، حيث استقبل الملك بدبره فعجب الملك من فطنته وذكائه وحنكته، ووقعت له الهيبة في نفسه ….

سار الباقلاني حتى دخل بلاد الروم فلما وصل إلى القسطنطينية، وعرف أن من عادة الروم عند دخولهم على الإمبراطور تقبيل الأرض بين يديه والسجود والانحناء له، وأخبر ملوك الروم بقدومه أرسل له من يستقبله، فقالوا له: لا تدخلوا على الملك بعمائمكم حتى تنزعوها، وحتى تنزعوا أخفافكم، فرفض الإمام الباقلاني ذلك، وقال: “لا أفعل، ولا أدخل على الملك إلا بما أنا عليه من الزي واللباس”، فلما وصل الخبر إلى ملك الروم قال: دعوه يدخل ومن معه كما يشاءون، فدخل الباقلاني ومن معه كما أرادوا.

وعندما سأله ملك الروم عن سبب امتناعه قال: أنا رجل من علماء المسلمين وما تحبونه منا ذل وصغار، والله تعالى قد رفعنا بالإسلام، وأعزنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فإن من شأن الملوك إذا بعثوا رسلهم (سفرائهم) إلى ملك آخر رفع أقدارهم لا إذلالهم، سيما إذا كان الرسول من أهل العلم..

أعد ملك الروم مائدة للإمام الباقلاني، وقال له: من شأن الرسول حضور مائدة الملك، فيجب أن تجيب إلى ذلك، فقبل الإمام ولكنه طلب ألا يكون على المائدة لحم خنزير أو شيء حرمه الله سبحانه وتعالى.

قال ملك الروم للإمام الباقلاني بعد أن استقبله: “إنما محلك عندنا محل الأبرار الأخيار، وقد أخبرنا صاحبكم في كتابه أنك لسان المسلمين والمناظر عنهم، وأنا اشتهي أن اعرف ذلك منك”.

ناظر الإمام الباقلاني ملك الروم وكبير القساوسة ورجال الدين في الدولة البيزنطية في عدة أمور منها انشقاق القمر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسيح، وغيرها من أمور، وكان مما جرى بمجلس الملك أن الباقلاني قال للقسيس: كيف أنت، وكيف الأهل والأولاد؟ فرد عليه إمبراطور الروم: ذكر من أرسلك في كتابه أنك لسان الأمة، ومتقدم العلماء على علماء الملة! أما علمت أننا ننزهه هؤلاء عن الأهل والولد؟ فقال الباقلاني: أنتم لا تنزهون الله سبحانه وتعالى عن الأهل والأولاد وتنزهونهم فكأن هؤلاء عندكم أقدس وأجل وأعلى من الله فسقط في أيديهم، ولم يستطيعوا جواباً..

ثم سأله ملك الروم عن قصة سيدتنا عائشة فرد عليه: هما اثنتان قيل فيهما ما قيل زوج نبينا ومريم ابنة عمران، فأما زوج نبينا فلم تلد، وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفها، وكل برأها الله مما رميت به، فسكت الملك ولم يدر جواباً..

وبعد ذلك قال الملك لكبير القساوسة بعد أن غلبهم الباقلاني في جميع المناظرات ما ترى في أمر هذا الشيطان؟ فقال له: تقضي حاجته، وتلاطف صاحبه، وتبعث بالهدايا إليه، وتخرجه عن بلدك من يومك إن قدرت، وإلا لم آمن الفتنة به على النصرانية..

والخلاصة أن نتيجة هذه السفارة كانت الغلبة فيها للإمام الباقلاني وللأمة الإسلامية حتى أن علماء النصارى خافوا من وجوده في بلادهم، ولذلك طلبوا من الإمبراطور التعجيل في سفره ورحيله حتى لا تصل أفكاره عن النصرانية إلى باقي أنحاء الإمبراطورية البيزنطية، ففعل الملك ذلك، ورد على رسالة عضد الدولة، وأطلق جميع أسرى المسلمين، وبعث الهدايا إلى عضد الدولة، وأرسل مع الباقلاني سريه من الجند ترافقه وتحميه حتى يبلغ مأمنه، ويغادر الدولة البيزنطية..

إن تلك المناظرة بين الإمام الباقلاني وعلماء النصرانية بحضور الإمبراطور البيزنطي تبين بوضوح التفوق الحضاري للدولة الإسلامية، وإنها كانت ترسل أفضل السفراء لبيان دينها وحضارتها وثقافتها فالباقلاني كان من أفضل علماء الأمة بشهادة جميع معاصريه، فهو كما تصفه المصادر والمراجع كان فريد عصره في مختلف العلوم.

صفات السفراء عند الغرب:

اهتمت دول الغرب باختيار السفراء والمبعوثين ومما لا شك فيه أنها أخذت الكثير من الفكر الإسلامي في هذا المجال حيث حرصت على اختيار سفرائها من أهل الذكاء والفطنة والعلم والسيرة الحسنة واللياقة الجسمية وحسن المنظر، واشترطوا على السفير أن يكون محباً لبلاده مدافعاً عن حقوقها، شارحاً وجهه نظرها بأحسن صورة وأفضل أداء..

لا نبالغ إذا قلنا إن الغرب قد أخذ الكثير من الصفات عند اختياره للسفراء والمبعوثين من الفكر الإسلامي فهذا المفكر الإيطالي ميكافللي يوصي الأمير أو الحاكم عند اختياره للأشخاص المحيطين به ومنهم بطبيعة الحال السفراء أن يكونوا لائقين ومن أصحاب الفطنة وحسن التصرف والتبصر بالأمور، وأن الخطيئة الأولى للأمير التي يقترفها تكون في إساءة اختياره..

وكلامه السابق هو مبدأ من أهم المبادئ في اختيار المسؤولين بالتاريخ الإسلامي إذ يجب أن يكون الرجل المناسب في المكان المناسب.

وقد عرفت الدبلوماسية عند الغرب ارتباطها بالكذب والخداع حتى أصبحت صفة الكذب مرادفة للدبلوماسية، وهي صفات غير مرغوبة من ناحية الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي إذ يجب على السفير أن يكون صادقاً، وأن يسمع أكثر مما يتكلم.

حدد الغرب الكثير من الصفات للسفير، وإذا قارنا تتلك الصفات بالصفات المعتبرة للسفراء في الفكر الإسلامي نجد أن المسلمين قد سبقوا الغرب في الكثير من هذه الصفات، وقد حددها بعضهم بتسع صفات هي:

  1. يجب أن يكون السفير مجيداً للغة وخاصة الإنجليزية.
  2. أن يلمس أن جميع الأجانب موضع ريبة، وأن يخفي دهاءه عن الجميع.
  3. يجب أن يكرم الوفادة ويستخدم طاهياً ممتازاً.
  4. يجب أن يكون ذواقاً واسع الاطلاع، ويعتز بمجتمع الكتاب والفنانين والعلماء.
  5. يجب أن يكون صبوراً، وراغباً أن يستنفذ جميع جهده في المفاوضات.
  6. يجب أن يتملك رباطة الجأش.
  7. يجب أن يكون منعزلاً في حياته الخاصة، حتى لا يعطي لأعدائه فرصة لنشر ما يفضحه.
  8. يجب أن يكون متسامحاً لتعليمات حكومته الوطنية.
  9. يجب أن يذكر أن الانتصارات الدبلوماسية المكشوفة يعقبها إحساس بانكسار الشوكة.

وحدد هارولد نيكلسون سبع فضائل يجب أن يتمتع بها السفير أو أي دبلوماسي وخاصة في عملية المفاوضات، وهي الصدق ـ الدقة ـ الهدوء ـ التواضع ـ المزاج الحسن ـ الصبر ـ الولاء، كذلك يذكر الباحث هاني الرضا أن هناك صفات وخصائص من المستحب أن يتمتع بها السفير وهي أن يكون عالماً خبيراً في الإلهيات ومتبحراً في أرسطو وأفلاطون، وقادراً بسرعة على أن يجد حلاً للمسائل العويصة بصورة صحيحة.

ومن الأمور التي اشترطتها بعض الدول في السفير بالعصر الحاضر أن يكون السفير من أهل المال والنسب إلا أن الدكتور صلاح المنجد يقول: أن لهما أثر في ارتفاع قدر الدبلوماسي إلا أنهما لا يكفيان وحدهما لجعله رفيع القدر ولابد من الكفاءة والثقافة والقدرة على العمل، ولكنه يردف فيقول: إذا تساوى مرشحان لمرتبة دبلوماسية في الثقافة والكفاءة فيفضل المرشح ذو الغنى عن المرشح الفقير.

والخلاصة أن الفكر الإسلامي سبق الفكر الأوروبي في الكثير من المسائل التي تهتم باختيار السفراء والرسل والمبعوثين لأنه اعتبر أن هذه المسائل من الأمور الشرعية المهمة، وعليها تقوم مصلحة المسلمين، ولذلك نرى الكثير من الفقهاء قد وضعوا شروطاً للسفير أو المبعوث، وأسهبوا في الحديث عن هذا الموضوع، كما أخذ القانون الدولي الحديث والدبلوماسية الحديثة الكثير من مفرداتهما من الشريعة الإسلامية.

والله الموفق

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. محمود المعلول

كاتب وباحث ليبي

اترك تعليقاً