قراءة في الشأن الليبي بمفردات إقليمية دولية (3)

قراءة في الشأن الليبي بمفردات إقليمية دولية (3)

new-article1_19-11-2016

لقد ذهبت إلى القول في الجزئيين السابقين من هذا المقال، بانه – وفي تقديري – ومن خلال معايشة العقود الاربعة المنّصرمة، وما تَكشّف امامنا خلال انتفاضة فبراير المجيدة، بان هذه (المُنّصرمة) سعت ومن خلال مشّروعها الخيمة، الى جعل ليبيا مخزن هائل للأعتدة والذخائر الحربية، يمتد باتساع جغرافيتها، وبنك كبير يراكم عائدات نفط البلاد في اوراق مالية ببنوك داخلية وخارجية في حوافظ ومُجنبات وحقائب وودائع. يُحّتفظ بها في تلك البنوك، حتى يأتي الوقت المناسب المعّلوم لديها. فتُفْتح حينها هذه المخازن والخزائن، بمعّرفتها واشرافها، تحت غطاء من فوّضى، قد حاكته وصنعته وادارته بإرادتها، وبأدوات ووسائل ذات وجوه وملامح ولسان محلي اقليمي. لتكون تلك الذخائر والمُدخرات، احد الروافد الهامة، الذى يتغدى عليها هذا التَوَحش، الذى يضرب المنطقة الممتدة من سوريا وشرق المتوسط شمالا، الى النيجر ومالي في ما وراء الصحراء جنوبا. والذي تسعى به وبواسطته الى تفكيك المنطقة جغرافيا. ديمغرافيا. ثقافيا. لتُعيد به، تموّضعها بها على نحو جديد وبثوب جديد.

لكن اود القول، بان هذه (المنصرمة) والقادرون في هذا العالم، كانوا ودائما ينظرون بشك وبريبة وطمع الى المنطقة المحصورة ما بين خط طول 50 شرق 19 غرب، وخط عرض 15 جنوب 38 شمال، بحكم ترابطها الجغرافي الذي يشدّ بعضها الى بعض، مدعوما بنسيج ثقافي يلفّها ويُدثرها، ويًشكل هذا الثقافي ويُصيغ جمّلة حساسياتها المعنوية سلبا وايجابا. وبمفاعيله ايضا، تتواصل وتترابط بل وتتماها بُناها التحتية   ببُناها الفوّقية، مُشكلة بذلك لون واسلوب بل وجه اخر للحياة، المتعددة الوجوه في هذا الكون. مدعوم كل هذا بما تكّتسبه المنطقة من اهمية عالية، بمخّزونها الهائل من الموارد الطبيعية في جوف ارضها وعلى سطحها، وبتموقعها الجيد على رقعة واسعة ومُتميزة على جغرافية خريطة العالم، وبما تضم جغرافيتها من ارث حضاري ثقافي هام، في منابع روحية، تتغدى عليها، وتستلّهمها ديانات الشرق الرئيسية الثلاث. كل هذا جعل من هذه (المنّصرمة) خاصتا، والقادرون من ذوي النزعة الاستعمارية في هذا العالم، يَسّعون الى وضع العوائق والعراقيل في طريق الادوات والاساليب، التي تتوَسّلها هذه المنطقة.  لتعّبر بها مفازات التخلف التي تحتويها. لتنّضم بمحاولة تخطيها هذه، الى ركب الساعين، نحو اثراء الحياة واغنائها بتنوع إيجابي خلاَق، والى كل العاملين على زيادة رقعة ومساحات الحكم الرشيد فيها، وتوسيع فضاءات الديمقراطيات على حساب مساحة الطغيان والسفه من جغرافية هذا العالم.

غير ان هذه المنطقة التي تحّتوينا، ونُعّتبر أحد مفرداتها الجغرافية. الديمغرافية. الثقافية. تُعانى في بعضٍ من جسمها، كان يعمل ودائما على شدّها الى القُعود، ويُعيقها عن النهوض والانطلاق نحو النمو.  وهذا الجسم المُعطّل يمتل ثقل ديمغرافي، وبيده وتحت حوزته جل الموارد الطبيعية. نفطية، مائية، وكل المنابع الروحية الثقافية. ويتموّقع على حيز جغرافي واسع، يمّتد من الحدود الجنوبية للعراق وسوريا ولبنان تم المتوسط شمالا، الى جنوب السودان وخليج عدن جنوبا، ومن الخليج العربي شرقا الى الحدود الليبية المصرية غربا. هذا الجسم، الذي يضم الثقل الديمغرافي للمنطقة، وبيده موارد نفطية مائية هامة، وبه رصيد ثقافي جيد، وتضم جغرافياته جل المنابع الروحية، التي تتيمّمها المنطقة. كان دائما عاجز عن ادارة شأنه الداخلي على نحو منتج وبناء، مما انعكس سلبا على داخله الذي يحتويه وخارجه الذي يُحيطه. فهو لم ينجح في توظيف وادارة موارده الهائلة. بشرية. طبيعية. معنوية. على نحو جيد، ناضج وبناء، يُخرجه من دارة التخلف والاستهلاك السالب، الى افاق النمو والتقدم. بل عجز -على سبيل المثال- عن ترّويض الماء وتطويعه الى قمح وحبوب، وان شاتم الى (عيش) يملأ به بطنه، ويتقى به الجوع، ويُبعده عن تكفف الاخريين. ولم يكن قادر على استثمار موارده النفطية في إنسانه، ليلج بهذا الانسان، افاق العلوم والتقنية، ومن خلاله يتمكن من دفع بلاده ومحيطه الى افاق النمو والتقدم.  وعجز ولم يُفلح في ذلك، كما افّلح جاره الإيراني، الذي توّج جهده هذا، بدخول النادي الذرى، ليجلس على طاولته مع الكبار.  وكان هذا الجسم المُعطل منغلقا، ومنكفئا على ذاته، فلم يُحّسن ويُجيد، استثمار وتوظيف ما بيده من منابع روحية لاستنهاض ما تضم جغرافياته من مُكوّن بشرى واسع، نحو البناء والتعاطي مع الحياة على نحو إيجابي.  بل نراه يتَحرّك نحو تَوَجُهْ، قد يجعل من نجْد وتهامة (مذهب ضِرار)، يُأجج الحساسيات الدينية السالبة بالمنطقة والعالم.  وقد يذهب بنا جميعا، نحو تمذّهبْ واقتتال فج في شِيَع واحزاب، متخطيا بذلك سماحة الاسلام وسِلّمِيته. فبرغم كل هذه المقومات الاساسية، التي يحتاجها كل ساعي نحو النمو والتقدم، وهذه في مجملها بحوزته هذا الجسم وفى متناول يده، الا اننا نراه لا يزال يرّسف في قيود، ما يسمى تجاوزا بالعالم النامي. فهو وباختصار شديد، جسم مُثقل بكل ما يشدّه الى القُعُود والتخلّف.

لم يكتفى هذا الجسم المثقل بحالته البائسة هذه، التي يحّتضنها وتحّتضنه، بل كان ودائما يسعى الى ترّويج وتصدير حالت قُعوده هذه، الى امتداده الجغرافي الثقافي الديمغرافي، فهو لا يتوانى البتّة، عن أي سانحة، قد تُمكنه من وضع العوائق والعراقيل في طريق الادوات والوسائل والسبل – ثورات. انتفاضات – التي تتسلح بها المكونات الجغرافية الاخرى بالمنطقة، وتعّتمدها وسيلة تُحاولها، للفكاك من واقع البؤس، الذي يشكل جل مفردات حياتها.  فينّهض هذا الجسم، لإجهاض كل مساعيها واجتهاداتها، فيسّعى نحو تعطيل واتلاف تلك الادوات والوسائل والسبل.  والشواهد على ذلك كثيرة. ونكتفي بقراءتها من خلال وقعنا الليبي. فمع الايام الاولى لانتفاضة الليبيين مع فبراير المجيد، في سعيهم نحو الخروج من حالة البؤس، التي اوصلهم لها، التفقير والتجهيل والقمع والاقصاء والسفه، الذي اعتمدته الادارة الخرقاء لبلادهم، كركيزة اساسية، تتكئ عليها في تصّريف شئون حياتهم، خلال العقود الاربعة الماضية. ومع شروع انتفاضتهم في صياغة مفرداتها من خلال المجلس الانتقالي وساحة المحكمة ببنغازي. شاهدنا هذا الجسم المُعطل، تنتابه حالة من الحراك، لم نعهده فيها من قبل، ولم يهدى حتى اعتلى الامواج الاولى للانتفاضة، وصارت اسماء قطر والامارات والاردن والسعودية والسودان ومصر واخيرا صلالة بعُمان، تتداول اتنا حضور الشأن الليبي في القنوات الاعلامية، ثم أصبح لهذه الاسماء حضور ملموس، يسّهل رصده من على جغرافية الحياة اليومية لليبيا، فكانت تُطالعنا، بصيغ ووجوه وهيئات عديدة.

مرة نشاهدها، في تمذّْهُب ديني، يجوب شوارع مدننا، ويستفزها، بمظّهره ومفاهيمه وبمقولاته وازيائه.  التي – وفى تقديري – قد تتقبّلها وتستسيغها صحراء نجد وتهامة، ولا اضنها تتوافق مع فِطّرة البطنان والقاف والجفارة ببلادنا.  وحينا تطل علينا من خلال شاشات التلفاز التي تبت من محطات ببلدانها، تتولى من خلالها اشاعة الشقاق، وزيادة منسوب الفُرقة بين ابناء البلد الواحد. او في سحنات البنغاليين والباكستانيين والصوماليين والإرتيريين ومن ملوني شرق افريقيا، التي تدفع بهم موجات الهجرة الملونة المتتالية على بلادنا، والتي تتشكل بدايات مواكبها عند شواطئ الصومال واريتريا، لتنتهي الى الشواطئ الجنوبية للمتوسط، بعد تسهيل مرورها عبر الركن الجنوبي الشرقي لخريطة ليبيا. وكان حضورها احياننا وفى عديد المرات، يتّخذ شكل غارات جوية، تنطلق من جنوب الجزيرة العربية، لتفرغ حمولتها المدمرة على ليبيا.  وقد تحولت رقعة احد بلدان ذلك الجسم، الى غرفة عمليات حربية، وساحة تدريب واعداد عسكري، تمتد على اتساع جغرافية ذلك القُطر، تضم في ما تضم خبراء ومستشارين عسكريين واجتماعيين ونفسانيين، وساسة وغيرهم، تتولى تلك الغرفة ادارة، هذا التوَحّش الذى يضرب جل المنطقة، بأدواته الحربية الخشنة منها والناعمة.

ومن المفارقات الصادمة، التي تشكلها افّعال هذا الجسم المعطل بجملة فسيفساءه، وبالنظر الى ما بيده من موارد كبيرة. بشرية. مائية. نفطية. روحية ثقافية. وغيرها، والتي قد تؤهله الى موقع متقدم في الفِعّل العالمي، نجد ان معدل ادائه في هذا الفِعْل، لا يتخطى الصفر، فهو نكرة، وخارج وجود عوالم الفِعْل. وبقول اخر، فهو وبهذا، لا يتخطى وفى كيّنونته عن اداة في يد الاخرين، وموظف بإداراتهم، يهشون عليه في الاتجاه الذي يريدونه., فينّطاع صاغرا. ومن هنا، فالمرور – وفى تقدير – الى ليبيا دولة الدستور والمؤسسات، دولة القانون والمواطنة، لا تكون عبر وقفات داخل فسيفساء، هذا الجسم التابع. بل – في تقديري – عبر تقعيد وتجدير ليبيا داخل امتداد جغرافياتها الطبيعية الثلاث. ديمغرافية. ثقافية. جغرافية، التي تُشكل الفضاء المغاربي المتوسطي، وبقول اخر، ان ليبيا التي ارادتها جموع الناس، التي انتقضت مع فبراير، لا يثم الوصول اليها الا عبر البوابة المتوسطية المغاربية، وذلك يدفع بالتوجّه والتحرّك، نحو حث واستنهاض هذا المُدخل في مكوناته، ليُعَرّفْ وينبه بان هذا المَسّعي سيصب لصالحه وللمتوسط وللجميع، وفى البعّد عن هذا المُدّخل، او الذهاب عبر غير، سيكون الشر الكثير، الذي سيطاله لا ريب. وسيُعيدنا نحن الليبيين الى عبث الماضي، وإن بوجه جديد.  فهل الهيئة الاممية، التي تحاول الشأن الليبي، تعي ذلك…

 

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً