السلوك الدبلوماسي واللغة العربية

السلوك الدبلوماسي واللغة العربية

د. محمود المعلول

كاتب وباحث ليبي

new-article1_23-11-2016

لقد سبق العرب والمسلمون الشعوب الأخرى في معرفة اللغة الدبلوماسية والسلوك الدبلوماسي وهي طريقة التعامل مع الآخرين تعاملاً حضارياً راقياً.

فالمسلمون عرفواً تلك الآداب التي لا يمكن أن تصل إليها أي أمة أخرى لأن مصدرها ديننا الإسلامي، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أسس قواعد للتعامل مع الآخرين سواء كانوا وفوداً أو سفراء ومبعوثين أو حتى أفراداً حيث استقبلهم بالحفاوة والتكريم وفي أحسن اللباس ، وحدد لهم يوماً معيناً وهو يوم الجمعة ، وكان له أعوان يساعدونه في استقبالهم حيث يقومون بترتيب دخولهم عليه .

والسلوك الدبلوماسي اليوم ينقسم إلى ثلاثة أنواع:

  • المراسم ـ البروتوكول.
  • آداب اللباقة (الإتيكيت).
  • أصول المجاملة.

فالمراسم هي مجموعة الترتيبات والإجراءات التي تتبعها الدول في المناسبات الرسمية مثل تنصيب الرؤساء والملوك والسلاطين واستقبالهم ونظام الأسبقية بين الدول والممثلين الدبلوماسيين، وآداب اللباقة تشمل مجموعة السلوكيات النابعة من القيم والتقاليد والأعراف مثل آداب التحية والمصافحة وآداب الزيارة وآداب الحديث والأكل وغيرها من سلوكيات نبيلة.

أما أصول المجاملة فتشمل الاستشعارات الإنسانية والنبيلة واللفتات الجميلة مثل التهاني والتعازي التي تبعث السرور وتسر النفوس وتطمئن القلوب وتخفف الآلام، وغيرها من تصرفات جميلة لطيفة راقية..

وقد سبق المسلمون كما ذكرنا غيرهم في هذا المجال في آداب اللباقة الإتيكيت، وفي تعاملهم الراقي مع الآخرين، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لبلال قائد الإبل التي عليها نساؤه (رفقاً بالقوارير)، وسيدنا أبو بكر الصديق عندما التقى برجل في الهجرة وكان معه النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل لأبي بكر: من هذا الذي معك؟ فقال: إنه هاد يهديني الطريق.

وفي العصر العباسي أن زوجة الرشيد زبيدة لامت زوجها هارون الرشيد على حبه للمأمون دون ولدها الأمين فقال لها: الآن أريك عذري، فدعا الأمين وكان عند الرشيد مسواك يستاك به فقال له ما جمعها؟ فقال: مساويك يا أمير المؤمنين، ودعا المأمون فقال له: ما جمعها فقال المأمون: عكس محاسن يا أمير المؤمنين فقالت زبيدة: الآن بان لي عذرك، وتقصد أنها عرفت سبب تفضيل الرشيد لولده المأمون على الأمين، وذلك ما كان عليه المأمون من ذوق رفيع وحسن تلطف وأخلاق وجمال عبارة على حين أن الأمين لم يكن كذلك..

ظاهرة التلطف في اللغة العربية:

إن اللغة العربية لغة دبلوماسية بحق فهي لغة راقية جميلة تراعي المشاعر والأحاسيس فلا يمكن أن تسيء إلى شخص مصاب بعاهة مثلاً كالأعمى أو الملدوغ أو الأبرص وغيرها من ألفاظ، كما أنها تبتعد عن الفحش في الكلام..

اشتهر عند العرب تسمية الأسماء بضدها تفاؤلاً فكانوا يسمون اللديغ بالسليم، ويسمون الصحراء التي لا ماء فيها بالمفازة تفاؤلاً بالفوز في عبورها، وكذلك كانوا يسمون الأعمى أبو بصير، وكانوا يسمون الأسود أبا البيضاء ويسمون الغراب بحاتم دفعاً للتشاؤم والتطير به، وكانوا يسمون المجنون والمسحور مطبوباً، لدفع  السوء عنه، أو للإشارة إلى أنه تحت العلاج، والخادم كانوا يسمونه مولى، تأدباً من الولاء وهو النصرة، ولقب الملك جذيمة الوضاح وكان أعظم ملوك العرب في الجاهلية، ومن أفضلهم رأياً وشجاعة بذلك لأنه كان به برص.

وفي العصر العباسي أسموا جارية المتوكل قبيحة وكانت فائقة الجمال، ومن أجمل نساء عصرها، أسموها بذلك للتعمية عنها، وهو من أسماء الاضداد تجنباً للحسد والعين، وقد تزوجها المتوكل وفضلها على نسائه وجواريه، وكانت العرب تسمي المصيبة بالجلل، وفرج المرأة والرجل بالعورة، والعورة في اللغة هي الخلل والعيب وما يستقبح النظر إليه، وإلى اليوم في مجتمعنا الليبي تسمي العجائز والأمهات ذكر الطفل بالروح تجنباً للفحش في الكلام، ورقياً وتأدباً في الحديث..

وهذه الظاهرة تسمى في اللغة العربية بظاهرة التلطف وهي مراعاة الجانب الاجتماعي والأدبي والأخلاقي من حشمة وأدب ورقي واحترام حيث يمكن للمتحدث أن يتحدث بهذه اللغة في أسلوب راقي محترم مراعاة للآثار النفسية والقيم الاجتماعية المرتبطة بحياة الفرد والجماعة، فلا يمكن أن يقول: إن فلان الأعمى.. كذا وكذا لما في ذلك من إهانة له، وإنما يمكن القول فلان البصير فيعرف المقصود لأن العرب كانت تسمي الأعمى بالبصير، ولا يمكن أن يقولوا لمن يعبر صحراء مهلكة بالصحراء، وإنما كانوا يسمونها مفازة تيمناً بالفوز في عبورها وقطعها سالماً، فتلك الألفاظ هي من جمال اللغة العربية فهي لغة أدب واحتشام وحسن تعبير بعكس اللغات الأخرى..

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التفاؤل ويحب الاسم الحسن لأن التفاؤل يبعث على الاستبشار والسرور في النفس، وهو عبادة يثاب عليها العبد، فعندما قدم سهيل بن عمرو للمفاوضات في صلح الحديبية قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (سهل أمركم)، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (يعجبني الفأل)، فقيل له وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الطيبة، ومعنى الكلمة الطيبة أنها تكون في كل شيء قال تعالى (وقولوا للناس حسناً) البقرة الآية 83، أي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتخير من الألفاظ أحسنها، ومن الكلمات أجملها فتلك هي الحياة جميلة مشرقة تبعث على التفاؤل والسرور، فالمسلمون كانوا دائماً مستبشرين متفائلين بعيدين عن الكرب والحزن والتشاؤم حتى في ألفاظهم واختيار كلماتهم.

ويقول رسولنا الكريم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء)، وورد أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يمشي بالليل فرأى ناراً فقال: السلام عليكم يا أهل الضوء وكره أن يقول: السلام عليكم يا أهل النار..

والله ولي التوفيق..

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. محمود المعلول

كاتب وباحث ليبي

اترك تعليقاً