من عبر وقصص التاريخ “1”

من عبر وقصص التاريخ “1”

د. محمود المعلول

كاتب وباحث ليبي

new-article1_5-12-2016

ذكرني السقوط السريع للأنظمة الحاكمة في الوطن العربي بقصص من التاريخ عن أناس تمتعوا في الحياة كيفما أرادوا ، وكانوا من أصحاب الجاه والسلطان والأمر والنهي للعباد بغير طاعة الله ثم آل أمرهم إلى الذلة والمهانة .

إن الله سبحانه وتعالى جعل شروط للتمكين في الأرض، من خالفها فإنه سيذله ويقهره ويأخذه أخذ عزيز مقتدر فقال تعالى (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) الآية 41 من سورة الحج، ولذلك وجب على أي حاكم أو مسؤول أن يسعى في الأرض بالإصلاح ويحارب الفساد ويحقق العدل والمساواة بين الناس بعد ذلك سيمكنه الله في الأرض ويعزه وينصره.

فكل من تولى أمر من أمور الناس صغيراً أو كبيراً عليه أن يعدل بينهم بالحق والعدل والإنصاف، فهو محاسب عن كل كبيرة وصغيرة، لأنه المسؤول عن الجميع.

إن الدنيا متقلبة الأحوال، ترفع الوضيع وتحط من شأن العظيم، والرجال ليسوا بسواء، وحتى عند مجيء الإسلام كان هناك من الرجال من أمة العرب من يعد بألف رجل أمثال عمرو بن معد يكرب وزيد الخيل بن مهلهل الطائي وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد الذي قالت فيه أمه عند تشييع جنازته: –

أنت خير من ألف ألف من القوم                                    إذا كنت في وجوه الرجال

أشجاع فأنت أشجع من ليث                                      صهر ابن جهم أبي أشبال

أجواد فأنت أجود من سيل                                            أتى يستقل بين الجبال

فقال عمر بن الخطاب: – (والله لقد صدقت، وإن أبا سليمان كان لكذلك)

فهذه حال الدنيا متقلبة الأحوال لا يدوم لها حال من الأحوال ، سواء لملك من الملوك أو لسوقة من الناس ، فهذا السلطان السلجوقي علاء الدين محمد خوارزم شاه أحتل المغول بلاده وأسروا نسائه وبناته ، وجعلوهن سبايا وخادمات، مات شريداً طريداً فلم يجد قطعة أرض ليدفن فيها، بعد أن فقد ملكه فيقول كما أورد النسوي في كتابه سيرة جلال الدين منكبرتي: ” لم يبق لنا مما ملكناه من الأقاليم قدر ذراعين نحفر فنقبر ، فما الدنيا لساكنيها بدار، ولا الركون إليها سوى انخداع واغترار، ما هي إلا رباط يدخل من باب ويخرج من باب فاعتبروا يا أولي الأبصار”.

وكذلك الملك يزدجرد ( 631 ـ 651 م ) آخر ملوك الفرس لم يجد درهم ليشتري به حياته بعد أن طلب منه أحد قطاع الطرق درهم ليعفو عنه ، وهذا المؤرخ المقري التلمساني (986 ـ 1041 هـ / 1578 ـ 1631 م) صاحب كتاب نفح الطيب يقول عن أولاد وأحفاد الملك أبي عبد الله الصغير الذي سلم غرناطة للأسبان بدون قتال ، وكان هذا المؤرخ قد رآهم سنة 1037 هـ / 1627 م في المغرب فقال عنهم ” رأيتهم في أسوأ حال يعيشون من أموال الصدقات ، وأنهم من جملة الشحاذين والفقراء والمساكين الذين يعطف عليهم الناس ، بعد الملك الطويل العريض فسبحان المعز المذل”.

فهذه حال الدنيا تتقلب بأهلها فهؤلاء عاشوا في ظل الملك ثم أصبحوا من الشحاذين والفقراء ربما بسبب أنهم لم يحافظوا على هذا الملك، ولم يعاملوا الناس معاملة عادلة.

وكانت أم هذا الملك قد قالت له بعد أن سلم غرناطة بدون قتال: “أبك كالنساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال”، وكان الملك فرديناند قد ألقى القبض على إحدى بنات الملك أبي عبد الله الصغير، واتخذها جارية من جواريه، وأصبحت أما لأحد أبنائه غير الشرعيين.

وقال الصوفي الكبير مالك بن دينار (ت 127 هـ / 745 م): مررت بقصر تضرب فيه الجواري بالدفوف ويقلن:

ألا يا دار لا يدخلك حزن                                           ولا يغدر بصاحبك الزمان

فنعم الدار تأوي كل ضيف                                      إذا ما ضاق بالضيف المكان

ثم مررت عليه بعد حين وهو خراب وبه عجوز فسألتها: عما كنت رأيت وسمعت فقالت: يا عبد الله إن الله يغير ولا يتغير والموت غالب على كل مخلوق، وقد والله دخل بها الحزن وذهب بأهلها الزمان.

وقال ابن رشيق القيرواني (390 ـ 456 هـ / 999 ـ 1063 م) في رثاء المعز بن باديس الصنهاجي (406 ـ 453 هـ / 1015 ـ 1061 م):

لكل حي وإن طال المدى هلك                                     لا عز مملكة يبقى ولا ملك

قصة جعفر البرمكي والبرامكة:

البرامكة لقب لأشهر الأسر الفارسية التي تولت الوزارة في العهد العباسي الأول، وبرمك لقب كبير سدنة معبد النوبهار في مدينة بلخ، وجد البرامكة هو برمك من ولد كبير سدنة المعبد، وهو أول من دخل في الإسلام، وكان كل من يتولى هذا البيت يدعى بالبرموك، وهناك من يؤكد من المؤرخين بأن أصل البرامكة هم من أتباع البوذية، وليس المجوسية.

وعائلة البرامكة تولت زعامة الإمبراطورية العباسية لمدة (17) سنة، وقدمت خدمات جليلة للعباسيين، فمنذ بداية الدعوة العباسية كان البرامكة يقفون مع الدعاة العباسيين ويساندونهم، فقد دخل خالد بن برمك في الدعوة العباسية السرية، وأخذ يدعو للعباسيين بالخلافة، وكان من وجهاء خراسان البارزين، وعلى قدر من الكفاية في الإدارة والسياسة، وانضم إلى الداعية محمد بن علي العباسي، وأخذ يجمع له الأنصار والأعوان ضد بني أمية.

أما ابنه يحيي والد جعفر فتولى مناصب مهمة عند انتصار العباسيين، فقد جعله هارون الرشيد (146 ـ 193 هـ / 763 ـ 808 م) كاتباً ووزيراً له، وهو أول من أمر من الوزراء حسب قول أحد المؤرخين، وكان والد جعفر على علاقة حسنة مع والدة هارون الرشيد الخيزران، والتي كانت تسانده وتساعده.

تعتبر نكبة البرامكة من أشهر المآسي والنكبات في التاريخ التي ذكرها المؤرخون وأسهبوا في ذكرها لعدة أسباب منها كرم البرامكة الذي غطى على الكثير من مساوئهم، كذلك أثارت فظاعة الفتك بهم العطف في قلوب المؤرخين الذين تناولوا نبكتهم ومحنتهم.

وبداية مأساة البرامكة وزوال أمرهم تبدأ بمقتل جعفر البرمكى على يد الرشيد، وجعفر كان وزير هارون الرشيد الأول يقول عنه المؤرخ ابن خلكان (608 ـ 681 هـ / 1211 ـ 1282 م): “كان من علو القدر، ونفاذ الأمر وبعد المهمة، وعظم المحل وجلالة المنزلة، عند هارون الرشيد بحالة انفرد بها ولم يشارك فيها“.

وتحدث عن جوده وكرمه ومنزلته كثير من المؤرخين، ولم يبلغ أحد من الوزراء منزلته التي بلغها عند الرشيد، وكان قتل جعفر على يد الرشيد يوم السبت الأول من شهر صفر سنة 187 هـ، وصلبه على جسر بغداد وعمره (37) سنة.

ويقول أحد المؤرخين عن جعفر إنه حاز ضياع الدنيا لنفسه، فكان الرشيد لا يمر بضيعة ولا بستان إلا قيل هذا لجعفر، وبنا قصراً بعشرين مليون درهم، وكان جعفر يشتري الجارية الواحدة بأربعين ألف دينار.

ويذكر المؤرخ ابن خلدون (732 ـ 808 هـ / 1332 ـ 1406 م) الأسباب لمأساة البرامكة ونكبتهم وهي: –

استبداد البرامكة بأمر الدولة، وعلو اسمهم على اسم الخليفة.

استيلاؤهم على الضياع والأموال.

اصطناع الأقارب والمحاسيب في الوظائف.

سعاية الحساد والوشاة بهم عند الخليفة.

ولما قتل جعفر أكثر الشعراء في رثائه هو وآل بيته الذين سجنهم الرشيد فقال الشاعر الرقاشي: –

أما والله لولا خوف واش                                                وعين للخليفة لا تنام

لطفنا حول جذعك واستلمنا                                        كما للناس بالحجر استلام

وقال الشاعر دعبل الخزاعي يرثي جعفراً ووالده يحيي الذي سجنه الرشيد:

لمل رأيت السيف صبح جعفراً                                ونادى منادي للخليفة في يحيي

بكيت على الدنيا وأيقنت إنما                                قصارى الفتى فيها مفارقة الدنيا

وما هي إلا دولة بعد دولة                                    تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى

إذا نزلت هذا منازل رفعة من                                          الملك حطت ذا إلى غاية سفلى

وقال الشاعر الحسن بن هانئ (أبو نواس) :

لم يظلم الدهر إذ توالت                                                  فيهم مصيباته دراكا

كانوا يجيزون من يعادي                                                   منه فعاداهم لذاكا

وبعد أن قتل الرشيد جعفراً أمر بعائلته وأهله فسجنهم يذكر أحد المؤرخين أن ولداً ليحيي والد جعفر قال لأبيه وهم في القيود بالسجن: يا أبت بعد الأمر والنهي والأموال صرنا إلى هذا؟ فقال له: يا بني دعوة مظلوم غفلنا عنها لم يغفل الله عنها.

ومن عجائب الدهر وتقلب الأيام بأهلها أن والدة جعفر البرمكي التي كانت تعيش في النعيم والجاه العريض، وكانت تعيش مع أبنها في أحسن حال، وحولها الخدم والعبيد والجواري، أنقلب حالها وتغير بعد مقتل أبنها إلى العيش على هبات المحسنين.

ومما يروى في ذلك ما حكاه محمد بن غسان بن عبد الرحمن الهاشمي قال: دخلت على والدتي يوم عيد الأضحى فوجدت عندها امرأة في ثياب رثة فقالت لي والدتي: أتعرف هذه؟ فقلت: لا! قالت: هذه أم جعفر البرمكي فأقبلت عليها وأكرمتها فقالت لي: ” لقد آتى علىَّ يا بني عيد مثل هذا اليوم وعلى رأسي أربعمائة وصيفة (خادمة) وإني لأعد أبني عاقاً لي، ولقد آتى علىَّ يا بني هذا العيد، وما عندي إلا جلدا شاتين أفترش أحدهما، وألتحف بالآخر “، قال: فدفعت إليها (500) درهم، فكادت تموت فرحاً بها.

فأنظر أخي القارئ الكريم تقلبات الدنيا بأهلها، وإلى كلام تلك المرأة التي قالت إن أبنها جعل لخدمتها (400) خادمة وهي تعده عاقاً لها بذلك، وقد جاء العيد وليس عندها شيء، فسبحان الله المعز المذل.

وصدق الله العظيم إذ يقول (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، فالدولة والتداول في اللغة هو التغيير والتبدل من حال إلى حال، والدولة انقلاب الزمان، ودالت الأيام دارت، فهذا جعفر البرمكى اختص بمنادمة الرشيد، فكان لا يفارقه في مجلس من مجالس لهوه وأنسه، وتنازل له الرشيد عن أهم أمور الدولة، كالنظر في المظالم والخاتم، وأمر بكتابة اسمه على الدراهم، وجعل له ديوان البريد وديوان الطراز، وهذا الأمر لم يتنازل عنه الخلفاء من قبل لأحد كما يقول المؤرخ تقي الدين المقـريزي (766 ـ 845 هـ / 1365 ـ 1441 م) كما عهد إليه الرشيد بتربية ابنه المأمون، ولكن تقلب الزمان بأهله جعل الرشيد ينكل به، ويسجن والده وباقي أفراد أسرته.

ومن الطريف أن الرشيد دخلت عليه امرأة من البرامكة ومعه جماعة من وجوه القوم، فقالت له: (يا أمير المؤمنين أقر الله عينيك، وفرحك بما آتاك، وأتم سعدك، لقد حكمت فقسطت) فقال لها: ممن تكونين أيتها المرأة؟ فقالت: من آل برمك ممن يتمت أطفالهم ورملت نساءهم وأخذت أموالهم.

وقد أعجب القوم بفصاحتها فقال لها الرشيد: أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله، ونفذ فيهم قدره، وأما المال فمردود إليك، وأمر لها الرشيد بأموال وافرة.

وعندما خرجت قال الرشيد لأصحابه: هل تعلمون بأن المرأة دعت علينا ولم تدع لنا؟ قال الحاضرون: وكيف ذلك؟ قال الرشيد: أما قولها أقر الله عينيك، فإنها تعني الاستقرار، والعين إذا استقرت عميت، وقولها فرحك بما آتاك، قد أخذته من قوله تعالى (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة)، وأما قولها أتم سعدك، أخذته من قول الشاعر:

إذا تم شيء بدأ نقصه                                                 ترقب زوالاً إذا قيل تم

وأما قولها حكمت فقسطت، فقد أخذته من قوله تعالى (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً)، فأعجب الحاضرون بذكاء الرشيد أكثر من إعجابهم بفصاحة المرأة.

وخلاصة الكلام إن الذي يمكن الله له في الأرض يجب عليه أن يسعى بين الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح ومحاربة الفساد، وإن لم يعمل بذلك فإن الله سيذله ويقهره ويأخذه أخذ عزيز مقتدر، وأخيراً نقول (اللهم ولي علينا خيارنا).

والله ولي التوفيق…

 

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. محمود المعلول

كاتب وباحث ليبي

اترك تعليقاً