محنة أمة وأزمة شعوبها “2/1”

محنة أمة وأزمة شعوبها “2/1”

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

[su_quote cite=”محمد إقبال”]لقد صرفت أغلب أوقات حياتي في دراسة الفلسفة الغربية. وغدت رؤية هذه الفلسفة شيئا مألوفا لدي الآن. وعن وعي، و عن لاوعي أيضا، أخضع وقائع الإسلام إلى التحليل من زاوية نظر هذه الفلسفة. وكان من نتيجة ذلك أنني قد لاحظت في العديد من المرات أنني لا أستطيع التعبير عن هذه الإشكاليات بلغة الأوردو.[/su_quote]

 

في محاضرة القاها استاذ تونسي تحت عنوان “كانط والاسلام”، تطرق الى مواضيع عدة ودسمة الا ان المحاضرة في مجملها كانت مفككة، وربما قد تكون حفزت البعض في مراجعة بعض ارهاصاتها، الا انها لم تكن على درجة من التماسك التي تسمح باستخلاص الفكرة التي اراد المحاضر ابرازها. على ان ما شدني في المحاضرة تسألين إستجلبهما المحاضر، السؤال الاول ذلك الذي طرحه المسلمين في القرن الثامن عشر ويقول: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟ ويقول السؤال الثاني الذي تطرحه بعض الثيارات الاسلامية المعاصرة اليوم: لماذا تخلفنا عن ركب الحضارة رغم اننا “خير امة”؟.

لا شك أن السؤال الثاني.. قياسا على السؤال الاول.. يجعلنا نستنتج ان من طرح السؤال الاول هم اكثر عقلانية واعمق فهم للحضارة من ابناء عصرنا، رغم انهم تقدموا عنا في الماضي بقرنين من الزمن، بينما ولجنا القرن الواحد والعشرين ونحن لما نحافظ على مستوى “التخلف” الذي كنا عليه وقتداك، بل تدحرجنا الى هاوية اعمق من تلك.

اجدني اولا أتفق مع الكاتب السعودي عبد الله بن بخيت في مقال له بجريدة الرياض يحاول فيه ان يجد جوابا عن السؤال الاول، يقول بن بخيت: “في ظني المشكلة لا تكمن في الإجابة بل في السؤال نفسه. هل هذا سؤال حقيقي أم سؤال إعلامي أم سؤال سياسي أم سؤال مضلل. هل ينطوي على شيء يمكن البحث فيه. من هو الغرب ومن هم المسلمون. هل السويد وأمريكا شيء واحد؟ هل الصومال وأفغانستان شيء واحد؟ هل القيم التي تنتظم المرأة الإندونيسية هي نفس القيم التي تنتظم المرأة السعودية؟. نفس السؤال يمكن طرحه لتحديد الفرق بين القيم الأمريكية والقيم السويدية. فسؤال لماذا تخلف المسلمون وتقدم الغرب مبني على افتراضات كثيرة لم يبحث فيها أصلا”. ويعترض عبد الله بن بخيت على الاشكالية التي تعترض هذا السؤال ليبين البون الشاسع في ما يطرحه فيقول:” عندما تقارن المسلمين بالغرب كأنك تقارن بين التفاحة والطاولة. لمجرد أن كليهما تنتهي بتاء التأنيث. تقارن ديناً بجغرافيا سياسية”. وحتى يعيد السؤال الى المنطق الذي طرح من اجله يقول: “يمكن أن يتسق السؤال لو أنه طرح على الشكل التالي: لماذا تقدمت الشعوب المسيحية وتخلفت الشعوب الإسلامية. هذا السؤال كسؤال يعتبر منطقيا لأنه يقارن اهل دين بأهل دين آخر، ولكنه من حيث المحتوى غير صحيح. ثمة شعوب مسيحية متخلفة”. وفي تقدير الكاتب: “أن طرح هذا السؤال أبعدنا عن الرؤية الصحيحة للأمور”، يقول:”إذا ابتعدنا عن الكلام الفلسفي والأكاديمي وهبطنا إلى التجربة الشخصية استطيع أن أقول ان الفرق بين شعوب العالم الثالث والشعوب الغربية يكمن في قيم الحرية وسيادة القانون.”

الا اني من ناحية اخرى اخالف السيد بن بخيث، ذلك ان الظروف الموضوعية التي طرح فيها السؤال الاول: “لماذا تقدم الغرب؟” تجيز طرحه بالشكل الذي طرح عليه، ففي زمن طرحه كانت هناك امبرطورية اسلامية مترامية الاطراف في طور الاحتضار وامبراطوريات نصرانية قد انتفضت من براتن التخلف، كان فعلا هناك ثنائية الفضاء الاسلامي والفضاء المسيحي كواقع سياسي قائما فعليا. وقد فطن ذلك الجيل من الرواد الى اسباب التخلف الذي دخلت نفقه الدول الاسلامية. فهذا السؤال يتضمن نقداً ذاتياً ومحاولة لمعرفة الواقع عن طريق تشريح احداثه، على ان معرفة الواقع وحدها لا تكفي إن لم نضع هذه المعرفة في خدمة مقاربتنا للأجوبة الصحيحة.

هذا السؤال المطروح والذي حاول الرواد الاصلاحيين ان يجدوا جوابا له سبق وان طرحه عالم تركي ومسئول عثماني يدعى ابراهيم موتيفريكا في زمن الركود الفكري للدولة العثمانية واجاب عليه اجابة موفقة في ضني. كان إبراهيم موتيفريكا مهندسا للعلاقات السياسية بين الإمبراطورية العثمانية وفرنسا والسويد، وقد اتاح له عمله كدبلوماسي أن يلم بالأفكار الأوروبية لعصر النهضة، ويتعرف عن كثب على آثار انتشار استخدام المطبعة، لذلك عمد عند عودته إلى إسطنبول على تأسيس دارا للطباعة، وبدأ في طباعة الأطالس والقواميس وبعض الكتب الدينية، وقد نشر خريطة أطلس العالم ووضّح فيها معالم العالم المعروف آنذاك بدقة متناهية. وإلى جانب الطباعة كتب موتيفريكا في التاريخ وعلم الأديان وعلم الاجتماع وعلم الفلك. وقد تسأل موتيفريكا “كيف تمكنت الامم النصرانية التي كانت ضعيفة مقارنة بأمم الاسلام من استعمار الكثير من الدول، وتمكنت ايضا من هزيمة جيش الدولة العثمانية القوي؟”، فكان جوابه كالتالي: “لان هذه الامم لها قوانين ولوائح ومؤسسات صنعت بعقل ومنطق”.

في تقديري هذا جزء من الجواب على التساؤل المطروح في وقته، ويأتي تتمة الجواب من رواد الحركة الاصلاحية وفي مقدمتهم عبد الرحمن الكواكبي الذي أدرك علة التخلف والانحطاط في المجتمعات الاسلامية، وكتب كتابه الشهير في هذا الموضوع والذي سماه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”. اعتبر المفكر عبد الرحمن في فاتحة كتابه أن الانحطاط مرض أصاب هذه الأمة، وقد حاول البحث عن أصل العلة، وأن يفرق بين مظاهرها وأسبابها. ولم يذهب لما ذهب اليه الكثيرون في أن سبب العلة التهاون في الدين، بل اعتبر التهاون في الدين نتيجة من نتائج الانحطاط وليس سببا له، وبذلك أسقط ما يتغنى به الكثيرين بإن العودة للدين سببا للارتقاء، فالأصل الارتقاء والحضارة سببا في العودة للدين والفضيلة وليس العكس. كما لم يرى الاختلاف في الآراء سببا في هذه العلة، بل ويرى في هذا الأختلاف فضيلة للعقل تميز بها العلماء في اختلافهم قبل الجهلاء. خلاصة تجربته جعلته يؤمن بأن سبب الانحطاط يعود الى الاستبداد السياسي، ونشر مقالاته التي ضمنها كتابه عن مفهوم الاستبداد وتأثيره في العلم والاخلاق والاقتصاد والعمران. ومما يدهشني في تجربة الكواكبي مجموعة من الامور هي:

أولا: فهمه لطبيعة العلاقة السليمة بين المواطن وبيئته في الامم المتحضرة، حين أشار إلى ان “علاقة الانجليزي والامريكي بقومه وحكومته ليست الا علاقة شريك في شركة اختيارية، خلافا للأمم المتخلفة التي تتبع حكوماتها في كل شيء حتى فيما تدين”.

ثانيا: اقراره بأن الاستبداد السياسي هو وليد للاستبداد الديني، ذلك أن التَّعاليم الدّينية “تدعو البشر إلى خشية قوّة عظيمة لا تُدرك العقول كُنْهَها، قوّة تتهدَّد الإنسان بكلّ مصيبة في الحياة وبعد الممات”. والمستبدين يبنون استبدادهم على هذا الأساسٍ، إذ “يسترهبون النّاس بالتّعالي الشّخصي، ويُذلِّلونهم بالقهر والقوّة وسلبِ الأموال حتَّى يجعلونهم خاضعين لهم”. ويعتقد كما يقرر هو بنفسه “أنَّ التَّشاكل بين الدين والسياسة يجرُّ عوام الناس – وهم السواد الأعظم – إلى نقطة أنْ يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحقّ وبين المستبدّ المُطاع بالقهر”، وتصبح النتيجة الطبيعية ألا يرى الناس “لأنفسهم حقّاً في مراقبة المستبدّ لانتفاء النّسبة بين عظمته ودناءتهم”.

ثالثا: فهمه الآية الكريمة ((ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر))، فهو يعتقد أن القصد من الآية هي مراقبة السلطة وليس مراقبة الناس. ويعتقد ان الغرب فهم هذه السنة الكونية وعمل بها عن طريق تأسيس البرلمانات التي تراقب اداء الحكومات.

رابعا: فهمه للحديث الشريف ” كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته” فاعتبرها أسمي قاعدة لمشروع سياسي، فالراعي في فهم الكوكبي هو سلطان ومسؤول عن الامة، اي هو أكبر مما يروج له الفقهاء.

وإذا كان مفكرو جيل النهضة – وجلهم من الاسلاميين في مذاهبهم الفكرية – قد وعوا اسباب التخلف بداية من جمال الدين الأفغاني الذي دعا إلى الجمع بين الأصالة والإبداع، وتلميذه محمد عبده الذي ثار في وجه الإتباع والتقليد ودعا إلى تحرير الفكر والعلم والتربية والتعليم من ذلك، وعبد الرحمن الكواكبي الذي اهتدى الى علة التخلف ونسبها الى الاستبداد السياسي، ومحمد إقبال الذي حاول أن يعيد بناء الفلسفة الإسلامية معتمدا على التراث الفلسفي في الإسلام وعلى التطورات في ميادين المعرفة الإنسانية، ومالك بن نبي الذي يرى في تصفية الأفكار الميتة وتنقية الأفكار المميتة الأساس الأول لأية نهضة حقة، فإن جيل النكبات كان بعيد كل البعد عن هذا الفهم.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

اترك تعليقاً