سلة الأوهام

سلة الأوهام

إذا خسرنا معركة التغيير فسيتم إيقاف الحياة لعدة عقود.!.

يتوهم الليبيون -أهلي-  أنهم قبليون، وأنهم وطنيون، وأنهم قريبون جدا من الله، دعواتهم مسموعة والأيدي التي تمتد إليهم بسوء مقطوعة، ويتوهمون -صباح مساء- أنهم أصحاب تاريخ مجيد وورثة أسلاف عظماء، كما يتوهمون أنهم أغنياء يدوسون ذهباً ويتنفسون عطراً ويسكنون جناناً.. ويتوهمون أنهم لا يتوهمون..!

إن كومة الأوهام التي تسد الأفق ويتحصن خلفها الليبيون ليست قدراً، بل ثلوثاً للوعي وفقراً..!

إن استسلام المثقفون والمتثاقفون -المنتجون للفكر حصراً- إلى دوافع العاطفة وهيولاتها، وكذلك استسهالهم لعفوية الفكر بدل التعمق في التفكير، وتلفقهم السريع للحقائق القشورية الملوثة بدل استجلاء الحقيقة الجوهرية وفلسفتها، أسهم في ترسيخ وعي زائف ومرضي، انتفت عنه كل صفات المثالية، وغرق بشكل طوعي ورغبة محمومة في وحل الظواهر، التي كانت منذ البدء سبب تشكيل منظومة الوهم المتجسدة في وعي خال من المعرفة الحقة والمنطق العقلاني..!

ميثولوجيون ونوستالجيون وبراغماتيون كثر مثقفون أو معطوفون على الثقافة، يجتهدون في إنتاج وعي زائف وتدعيمه بميثولوجيات مجوفة، ويعملون بإتقان فاتن على تجفيف منابع التجديد والتغيير، بعدما اعتادوا تعاطي المفاهيم الخاطئة، التي أنتجتها سياسات وأيدولوجيات الأنظمة المتهالكة لحماية وجودها وتبريره، فقد كانت ولازالت القوموية والأممية وحب الوطن -السياج الأيدلوجي الافتراضي- لقاحات فعالة لإحباط التغيير ومكافحته، وسد ثقوب التنوير بأساليب ثقافوية بائسة، وتحولت الأصنام الاجتماعية تدريجياً إلى أصنام ثقافية، وترسخ التسطيح وساد حتى أُنكر ما عداه وبات اغتراباً، وتحول التعليم ذاته -بلهجة سوادانية- إلى غذاء فاسد، وأداة سيطرة، ومهرب كلاسيكي من المنطق، وسدادة صدئة شديدة الإحكام تمنع تسرب التحليل والنقد، وترسخ التقليدية وتعممها وتمنح تراخيص قيادة الثقافة أو تمليك ركحها وخصخصته..!

داؤنا الخبيث هو التاريخ المملؤ بالفنتازيا والكليشيهات الغرائبية، والخاضع بقوة للتسييس ورؤى الساسة، والمتورط في الأيدلوجيات ووحل المفاهيم الخاطئة والزائفة والمقعرة، الحقيقة إن تاريخنا مجرد هيكل براق، اعتادت السلطات المنصرمة على تأثيثه بما يروقها ويناسبها ويلائم أطماعها، ويسهم في تقديسها وصبغها بميثولوجيات أرقى من الدحض أو التشريح..!

أجزم قطعاً– أن تاريخنا بمجمله هو تاريخ استعمارنا، سير وأساطير تأغرقنا وتفينقنا وترومنا ثم تعثمنا وتفشسنا..!

لا نملك ولا نعرف من الوطن سوى اللحاء -أمس واليوم وغداً- وجيوب الجهل تعم ثقافتنا، واحتفاؤنا المريب بمناخات التعصب والتعنصر، وانزواؤنا المفجع في اللايقين، واكتساؤنا بالدعائية الهشة، والاجتهاد الفاضح لمنتجي الثقافة وأوليائها في عمليات إنتاج الأفراد الأيدلوجيين المصفحين، مدمني الجهوية والظهورية والأوهام، والارتكاز الميكافيللي على اللغة المضللة وأثاثها من المصطلحات الأميبية العاجزة عن توليد الفكر وتطويره، كل هذا جعلنا سكان وملاك مثاليون لزيف -التاريخ والحاضر والمستقبل- وأدى بنا إلى نهج سبل العداء والمقاطعة لكل تطور، فانكفأنا على انفسنا نلوك فتافيت تاريخ مجرثم، وثقافة منتهية الصلاحية، ويصيح كل منا على دمنته وصخرته كأعظم وريث للبَعَام -الشمبانزي- العريق..!

منطقياً .. ينبع الفكر -أي فكر- من جهود الفرد -الشخص المفرد- التي يبذلها لفهم أو اختراق الواقع باتجاه حقائق مثلى، وإن كان الفكر ينطلق من معرفة كاذبة أو ظنية في مبتدئه، إلا أنه ينحاز إلى المنطق، والمعرفة الصادقة، ويلتزمهما لتحقيق نقائه، أما تكرار لوك الأكاذيب والمفاهيم الخاطئة والأوهام، فلن ينتج سوى فكراً هداماً مفرغاً، لا يصلح للاقتناء أو للتطوير، وسيعكف رواده على الأسطرة -صناعة الأساطير-  وتوليد النوستالوجيا، وإعادة تدويرها لسد جوع معارفي بوعي وبلا ضمير، وليكونوا نسيج ثقافة مفعم بالأوهام ومكتظ بالعلاقات السيئة بين حقائق بعضها ملوث، وبعضها مؤسطر، وبعضها سراب هوى وأمانيه..!

لا يمكن تنقية فكر أو ترميم ثقافة ما لم يشتعل في المثقفين وعي قيمي، وينالوا أو ينتزعوا استقلاليتهم، وتنضج رؤى تحقيق التاريخ وتجديد بنائه والكشف فيه، ورفع ستر السرية عن بعض حقائقه المنسية بترصد وإصرار، ومنع انصياعه لمحددات الحاضر ونزعاته وتحيزاته، والابتعاد عن محاكمته تحت الذرائع الايدلوجية.!.

كما أن عمليات تزييف التاريخ وصناعة الأوهام وأدلجة الأخطاء التي تتم الآن، يجب أن يضلع مثقفون -أصلاء- بمواجهتها ووقفها، إذ لا يمكن أن نركن لرؤى واهمين، طاب لهم مناخ الزيف، وأضحوا عاجزين عن رؤية الحقائق، أو ربما وجدوا متعة في العيش على الأوهام..!

بلا شك.. التاريخ ليس معادلة خطية، وليس أرض معركة يقف فيها الخير على جانب، والشر على جانب آخر، بل هو واقع منصرم اختلطت خيراته وشروره..!

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً