في ليبيا “سوق نخاسة” لتهريب المهاجرين، لا لتملّكهم واستعبادهم

في ليبيا “سوق نخاسة” لتهريب المهاجرين، لا لتملّكهم واستعبادهم

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

تناولت وتتناول هذه الايام وسائل الاعلام المختلفة موضوع ما يسمونه مجازا “عودة تجارة الرقيق وسوق النخاسة في ليبيا” ، والذي برز الحديث عنه بعد ان قدمت اذاعة (سي إن إن) الامريكية تقريرا اظهرت فيه مقاطع فيديو من داخل احد مراكز تجميع المهاجرين في ضواحي طرابلس، توضح فيه ما يشبه عمليات “مزايدة بيع” لبعض المهاجرين المحتجزين في ذلك الموقع! ولأن ذلك التقرير ترتب عنه اثارة اعلامية كبيرة، في محاولة لاتهام الليبيين بأنهم يمارسون تلك الاعمال المنافية للاعراف الانسانية، والتي سبق تجريمها وتحريمها دوليا، ويتهموننا بأننا نعيد “تجارة الرقيق واسواق النخاسة”! بعدما تجاوزها العصر ازمانا طويلة، لهذه الاعتبارات ولأننا على مقربة لصيقة بالواقع الليبي المعاش يكون لزاما توضيح مايلي:-

ليس خافيا على أحد أن مسألة الهجرة الغير قانونية، مسألة عالمية وموجودة كظاهرة حقيقية منذ أن ترسّمت الحدود بين الدول،  ومن الطبيعي ان يكون اتجاه هجرة البشر من الدول ذات الوضع الاقتصادي البائس الى غيرها من الدول ذات الوضع الاقتصادي المرتفع  أملا في حياة كريمة ومعيشة طيبة، ولهذا يكون منطقيا ان تتجه انظار البشر المحرومين من العيش الكريم في دولهم الى الدول ذات المستوى العالي من المعيشة، والقارة الافريقية باستثناء بضع دول فيها، تعاني وضعا اقتصاديا بائسا مما يجعل ابنائها اكثر المهاجرين منها بحثا عن لقمة العيش!

ان المعدومين من المهاجرين بحثا عن لقمة العيش، لا يمكنهم دخول البلدان المقصودة للهجرة بصورة طبيعية لإعتبارات التأشيرات وشروط الدخول القانونية، ولهذا كان اللجوء الى استعمال طرق اخرى تمكّن من دخولهم تلك الدول خارج نطاق القانون، وهو ما أوجد أصلا ظاهرة تهريب البشر، حيث استغلها المهرّبون كتجارة يتكسّبون منها، فخاطروا بأنفسهم طمعا في المال رغم معرفتهم ما قد يترتب على عمليات تهريبهم للمهاجرين من عقوبات قانونية حسب البلد الذي يتواجدون فيه!، ولهذا ظهرت وبشكل عام تجارة تهريب البشر قصد الهجرة، وتكوّنت لها مجموعات وعصابات من المهربين المحترفين الذين يتقاضون مبالغ مالية مقابل كل فرد يهرّبونه، وهي ظاهرة تنتشر في كل الدول التي تمر بها رحلة الهجرة ابتداء من دول المصدر مرورا بدول العبور وصولا الى دول المقصد.

قبل فبراير 2011 كانت ليبيا دولة عبور لبعض المهاجرين الافارقة، الا ان ذلك كان في اضيق الحدود، نتيجة لوجود اجهزة امنية منضبطة، تحمي وتراقب حدود الدولة، اما الآن ونتيجة لحالة الفوضى التي تعيشها ليبيا والانفلات الامني الكبير، الذي ادى الى ضعف سلطة الاجهزة الامنية التي كانت  تقوم بضبط الحدود ومراقبتها، فقد أتجهت انظار المهربين والمهاجرين معا الى ليبيا بشكل مركز، ويبدوهذا منطقيا، اذ اصبح ميسورا في ظل الوضع الليبي المنفلت أمنيا ان تتدفق امواج من الراغبين في العبور الى اوروبا من ليبيا، باعتبارها الثغرة الاسهل امنيا، وفعلا اصبحت ليبيا منذ ما بعد 2011 ملاذا وقبلة لكل المهاجرين من افريقيا وحتى من دول اخرى من آسيا مثلا.

لقد ساهمت هشاشة الوضع الأمني في ليبيا في ازدهار تجارة تهريب المهاجرين، الأمر الذي اسال لعاب الكثير من الليبيين الباحثين عن المال بأي طريقة!، ما دفعهم الى اقتحام هذا المضمار والانضمام الى شبكات و”مافيا” تهريب البشر، وأدى ذلك الى انتشار سريع لهم وفي كل مناطق ليبيا، واصبحوا ينظمون انفسهم جغرافيا في عملية استلام وتسليم للمهاجرين في رحلة عبورهم خارج ليبيا، هذا الامر تطلّب وجود اماكن اقامة مؤقتة للمهاجرين، في اغلب مناطق ليبيا التي تمتد خلالها طرق ومعابرالتهريب، داخل الاراضي الليبية وصولا الى نقاط الخروج على الساحل الليبي، ومراكز تجميع واقامة المهاجرين هذه يتحكم فيها المهرّبون انفسهم، وعلينا الاعتراف بأنها تفتقر لابسط معايير الاقامة البشرية، ولذلك يعاني فيها المهاجرون الويلات في انتظار تسفيرهم.

ونتيجة للطلب على تهريب المهاجرين من قبل عصابات التهريب العالمية، الذين اتخذوا من ليبيا نقطة تمركز وعبور للمهاجرين نحو اوروبا، لجأ بعض المهربين المحليين لإتباع اسلوب جديد للكسب المادي، من خلال استغلال المهاجرين فاوجدوا مراكز تجميع خاصة لهم داخل الارض الليبية بغية الحصول على مقابل مالي نظير اي مهاجر محتجز لديهم، وفي سبيل ذلك يقومون بالبحث عن الراغبين في الهجرة ويجلبونهم عنوة او برضاهم! و يحتجزونهم في تلك المواقع لتسهيل تهجيرهم خارج ليبيا لاوروبا، ثم يتواصلون فيما بعد بالمهربين ، ويعرضون عليهم توفر اعداد من الراغبين في الهجرة، ويشترطون قبض مبلغ مالي مناسب عن كل فرد يسلمونه للمهربين، هذا الوضع انشأ ما يشبه “سوق نخاسة ومزايدة” لتسليم المهاجرين للمهربين، الذين كانوا يتنافسون في الحصول على اعداد منهم، وفعلا كانت تحدث مزايدات مالية تنافسية للاستحواذ على مجموعة من البشر بقصد تهريبهم خارج ليبيا وهذا بالفعل ما قامت بتوثيقه قناة “سي إن إن” الامريكية.

ان حقيقة ما ورد في تقرير (سي إن إن) هو في الواقع حالة من حالات تسليم بعض المهاجرين، بمقابل مالي لمهربي البشر من قبل مجموعات اجرامية هدفها الكسب المادي، فهي التي انشأت هذه المقرات اصلا لهذا الغرض، وشاهد القول ان ما يجري في داخل هذه المواقع ليست تجارة رقيق في سوق نخاسة بالمفهوم المتعارف عليه، كما تسوّق له بعض قنوات الاعلام مثل “سي ان ان”، ولكنها محاولة ابتزاز وصفقات للكسب الحرام، واستغلال لا انساني لوضع المهاجرين، ونحن الليبيين لا يمكن بأي حال قبول ذلك بالطبع، لأن فيه امتهان لكرامة البشر وتعديّا صارخا على حقوق الانسان، ولكن في نفس الوقت لابد لنا من توضيح حقيقة ان تلك العمليات الغير انسانية، يقوم بها سماسرة التهريب بقصد الحصول على الاموال مقابل تهريب المهاجرين، لا لأجل تملكهم واستعبادهم وفق ما تدّعيه بعض وسائل الاعلام، ولا يفوتنا كليبيين ان نشير الى أن الانفلات الأمني الذي تعانيه ليبيا اليوم ساهمت فيه بعض الدول الاوروبية التي تتباكى الآن على وضع المهاجرين!.

ومهما كان الغرض من نشر ذلك التقرير وما تبعه من تضخيم اعلامي، فهو لا يخلوا من توجيه رسائل للدول التي يأتي منها هؤلاء المهاجرين لكفهم عن التدافع نحو ليبيا، وبالتالي المساهمة في ايقاف او حتى التقليل من حجم وكتلة المهاجرين نحو اوروبا عبر الاراضي الليبية مستقبلا، وهوما يكون مفيدا، وهنا ينبغي فعلا على المسئولين في ليبيا عبر وزارة الخارجية التواصل مع الدول الافريقية لاعلامهم بأن ظروف الوضع الأمني في ليبيا الآن، لا تمكّن من ضبط مهربي البشر بصورة فعالة، وأن مصير رعاياهم الذين يقدمون الى ليبيا بغرض الهجرة عبرها الى اوروبا جد صعبة ومحفوفة دائما بالمخاطر، وأنه على الدول التي ساهمت في زعزعة الآمن في ليبيا ان تتحمل مسئوليتها الإنسانية والتاريخية وتقديم الدعم المناسب لليبيا لأجل اعادة الأمن والاستقرار لليبيا حتى تتمكن السلطات الليبية من ضبط حدودها وبالتالي كبح  جماح الهجرة الغير قانونية عبر اراضيها.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

التعليقات: 1

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً