ظرفاء ودراويش بنغازي

ظرفاء ودراويش بنغازي

وجوه من بنغازي  شركةالضحك سلاح الإنسان الأول للتغلب على الوجه العابس للحياة. إنه يستغل كل فرصة مناسبة ليضحك فيها. فالضحك سعادة بالنسبة له، في وجه الشقاء، وعلاج له في وجه المرض. ووسيلة في التواصل مع الآخرين، والضحك نافذة واسعة يطل منها على الحياة ببهجتها وزينتها وجمالها. بل ويذهب بعضهم في تعريف الإنسان بأنه حيوان ضاحك… ولكي يضحك الإنسان ويطرد عنه العبوس والكآبة، فإنه يلجأ إلى اختراع النكتة، وإلى ابتكار الحركة الضاحكة، والى المضكحين من اصحاب النوادر، والقفشات والظرافة، الذين يخففوا عليه كدر الايام.

وأنا جالس أرتشف فنجان القهوة امام جهاز الكمبيوتر استذكر شريط الذكريات والذي مازال رافدي في استرجاع صور تلك الحلقات المتسلسلة من الحنين المتنامي لما حفظته شرائط ذكرياتنا عنها، كان ان استرجعت القليل من ذكرياتي وما كتبه السابقون عن ظرفاء مدينة بنغازي، وما أكثرهم، اشتهروا عبر الأيام والسنين بطرائفهم الجميلة، وشاع صيت العديد من الشخصيات الظريفة وخاصة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، حكايات أخبارهم ونوادرهم وظرفهم، وكان الجميع يشتهي أن يرى ويجالس هؤلاء الظرفاء الذين كانوا يمثلون  فاكهة المجتمع وزينتها وجمال تنويعها، ولهم دائماً من حب الناس نصيب عظيم، بوجودهم تتلطف الأجواء وبقصصهم ونوادرهم تحلو المجالس وتتجمل، وعنهم يتناقل الناس السير والأخبار ويقصون القصص والطرائف عنهم وهم مروا بالمدينة وتركوا بصماتهم على حكاياها ونوادرها ولياليها، لأن أهل بنغازي في السنوات الخوالي  كانوا بطبعهم يعشقون النكتة والمحاورة الجميلة والمقالب.

هذه الشخصيات تحتاج من يؤرخ لها ويكتب عنها ويوثقها، لتكون مقالة مفتوحة لمن يريد أن يتطرق ويزيد من أهميتها… شخصيات بنغازية اصيلة كانت تجوب شوارع المدينة بعضها اشتهر بالمقالب والنوادر (اطروح ومقالب…)… من هذه الشخصيات شخصيات، مثل الحاج الزياني، وشركة، وبوسعدية وخالد الغناي، الزهواقي، أحريك، الحاج بريك… كانوا من الظرفاء وخفيفي الظل، ومنهم الاقرب للدراويش.

يقول الاستاذ عطية الاوجلي في مقالته التي حملت عنوان (مجانين… وعقلاء..!!): “تذكرت أن مدينتي بنغازي مثل غيرها من المدن كان لها نصيب من أصحاب العقول الذين أثقلت عليهم الحياة وطاءها فهربوا بعقولهم إلى عالم أخر… عالم طفولي الأبعاد والملامح. لعل أشهرهم هو (معابيص) الذي كان يجوب بنغازي على قدميه موزعا البسمات والنكات والمقالب… حتى تحتار في بعض الأحيان… من العاقل حقا… أهو أم مستمعيه”.

نبدأ سردنا لشخصيات ظرفاء ودراويش مدينة بنغازي بشخصية  سي محمد  البكاي والشهير بلقب( شركة)، والذي قدم من مدينة الخمس، طفلا صغيرا، واستوطن بنغازي… يتخذ من دراجته الهوائية (همبر) رفيق عمر لاتفارقه ولا يفارقها، وفي ايامه الاخيرة، يجر البشكليطة ولا يركبها، ويتخذ من المنطقة القريبة من كوبري الجامعة وطريق طرابلس.. ملجأ له.

وحسب أعتقادي أن لقب “شركة” اطلق عليه اثناء اقامته اول مرة في دار صغيرة كانت ملحقة بمحطة بنزين ماكان يعرف في بنغازي بـ (شيل كانون) وكيل شركة شل في الستينيات، في شارع جمال عبد الناصر في المكان الموجود به سينما (الحرية)، وحسب معلوماتي  فان العمال هناك كانوا يتركونه يقضي الليل في تلك الحجرة، وفي الصباح يذهب لحال سبيله، يتجول في شوارع بنغازي، رباية كل ذائح، وأتذكر عندما كنت صغيرا،أحمل جالون الصفيح واذهب لشراء حاجة البيت من الجاز اللازم لتشغيل (بابور الجاز) في ذلك الوقت، وقد صادفته اكثر من مرة خارجا من تلك الغرفة، غريبا صامتا لا يتبادل الحديث مع احد، حتى اعتبره البعض معتوها، لكنه ليس كذلك، انه مجرد انسان طيب بسيط رمته المقادير ليعيش في مدينة بنغازي بين اهلها الطيبين، وبقى احد معالم وملامح المدينة.

ويروي الكاتب الاديب محمد عقيلة العمامي بعضا من ذكرياته مع (شركة) فيقول: “الرجل الطيب الممسوس (شركه) رحمه الله، وقد كان سي عقيلة يتركه يبيت في المقهى عندما يرغب في ذلك.. وكان والدي ينتبه لنيته في المبيت عندما يدخل بدراجته التي لا تفارقه ويركنها بالداخل اسفل المذياع، باعتبار أنه أثمن ما في المقهى، فهو راديو إيطالي ماركة (ماركوني) أهداه الإيطالي (الكوليري) لسى عقيلة ، فثبته في زاوية المقهى فوق رف صنعه (موسى) لهذا الغرض!  كان الزعيم يحدثهم عن معركة الثوار التوانسه مع الفرنسيين في المنستير – وكان شركة ينصت كتلميذ مجتهد ، وهو يمتص سيجارته بشراهة”.

ويحكي  الشاعر عبد الله نجم عن ذكرياته مع (سي محمد) فيقول: “محمد وهذا أسمه عرفته في بداية الستينات من القرن الماضى، حيث كان دائما يتجول فى المنطقة ما بين سينما النهضة ومحل ارجوبه الحلاق، وكنا مجموعة منهم المرحوم مفتاح بوعود، وحميده دومه، ومحمد الشريف وعبد الوهاب بوقرين وبعض الشباب الآخرين نجتمع أمام دكان رمضان حميد فى ناصية شارع مصراته، وكان شركة يأتى دائما يعزف على آلة المزمار الشعبى، ومن المعروف أنه شخص درويش، فنشترى له القهوة من مقهى بورقيبه في أول شارع مصراته، وكان يحب التدخين كثيرا، فيحصل أيضا على بعض السجائر”.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً