تونس تعلن حرب وجود ضد تنظيم “الدولة”

_203052_11gg

قاد هجوم سوسة الدموي الذي تبناه تنظيم “الدولة” باتجاهات الرأي العام في تونس إلى نوع من الإجماع الوطني بأن الدولة المدنية التي تعود جذورها إلى العام 1705 تخطو نحو “حرب وجود” ضد دولة الخلافة التي تسعى الجماعات الجهادية إلى بناء “نواة” لها في البلاد، مستفيدة من هشاشة عامة نخرت مؤسسات الدولة وأجهزتها ومزقت نسيجا اجتماعيا كثيرا ما حافظ على تماسكه، وبثت ثقافة الكراهية والتحريض على العنف السياسي في غياب إرادة سياسية قوية كفيلة بوضع خطة إستراتيجية أمنيا وعسكريا ودينيا وثقافيا من شأنها أن تجفف المنابع التي تغذي ثقافة صناعة الموت.

أيقظ هجوم سوسة الذي نفذه أحد “جند الخلافة” وعيا لدى الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمدنيين وغالبية التونسيين بأن البلاد التي توصف بـ”مهد الربيع العربي” باتت “تحظى” باهتمام خاص في إستراتيجية تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي اخترق المنظومة الأمنية ليوجه ضربتين موجعتين للدولة المدنية، أولها الهجوم على متحف باردو بالعاصمة في مارس/اذار وثانيهما الهجوم على فندق بمدينة سوسة السياحية الجمعة.

ولأول مرة تقر السلطات التي تعاملت منذ انتفاضة يناير 2010 بشيء من المرونة مع الجهاديين بأن تونس “تلقت ضربة في الصميم” على حد تعبير الرئيس الباجي قائد السبسي الذي شدد على أن هجوم سوسة لم يستهدف السياح فقط، وإنما استهدف تونس دولة وشعبا، ولأول مرة يعلن “ضمنيا” الحرب ضد أي حزب يرفع الرايات السوداء “رمز دولة الخلافة”، ولأول مرة يستنفر مراكز القرار السياسي والأمني والعسكري لـ”الضرب من حديد” ضد الجهاديين الذين يهددون كيان الدولة المدنية ونمط المجتمع التونسي.

وخلال الأيام التي أعقبت الهجوم على سوسة بدت السلطات وكأنها استفاقت من “غفوة” لتحشد الجهود السياسية والأمنية والعسكرية ضد حرب فرضت عليها فرضا لا من قبل دولة مماثلة، وإنما من قبل جهاديين تونسيين تخرجوا من جامعاتها حاملين لشهائد علمية عليا تم تجنيدهم من قبل تنظيم يسعى إلى استنساخ دولة الخلافة التي تعود نشأتها إلى القرن السابع ميلادي.

وأعلنت حكومة الحبيب الصيد الائتلافية بين علمانيين وإسلاميين لأول مرة عن إجراءات وصفها السياسيون والخبراء بالهامة لا تهدف فقط لمكافحة الجماعات الجهادية التي تناسلت خلال السنوات الأربع الماضية، وإنما تسعى إلى اجتثاث الظاهرة الجهادية من جذورها الاجتماعية والدينية، فإضافة إلى استنفار وحدات الجيش وقوات الأمن المستنفرة بطبعها، أعلن الصيد عن غلق 80 مسجدا استولت على منابرها الجماعات الجهادية وجعلت منها “فضاءات آمنة” لتجنيد الآلاف من الشباب الذي تعصف به البطالة والتهميش الاجتماعي والسياسي وحالة حادة من الإحباط نتيجة انسداد الآفاق أمامه ما جعله خزانا بشريا هاما لتلك الجماعات.

كما أعلن الصيد بـأمر في شكل توصية من قائد السبسي أن “كل حزب أو جمعية تكون غير محترمة للمبادئ الأساسية للدستور الجديد سيقع التنبيه عليها وإذا لزم الأمر حلها” وهو إجراء رأى فيه السياسيون والخبراء من أهم الإجراءات التي أعلنتها الحكومة باعتباره مؤشرا قويا على أن الدولة المدنية لن تتسامح مستقبلا مع أي حزب أو جمعية أو جماعة تسعى بأي شكل من الأشكال إلى بناء دولة الخلافة وفي مقدمة تلك الأحزاب حزب التحرير الإسلامي الذي ما انفك ناطقه الرسمي رضا بالحاج يؤكد أن “دولة الخلافة الإسلامية هي الدولة الوحيدة المناسبة للحكم في تونس”.

وبدت تلك الإجراءات والجهود التي يقودها كل من قائد السبسي والحبيب الصيد بالنسبة للسياسيين والخبراء بمثابة “إعلان حرب” على الظاهرة الجهادية مهما كانت مسمياتها، لا أمنيا وعسكريا فقط بل وأيضا اجتماعيا ودينيا بعد أن استفحلت في البلاد وأصبحت تهدد كيان الدولة وتركيبة المجتمع وتدينه السني المالكي المعتدل.

غياب الاستراتيجية

خلال السنوات الأربع الماضية كافحت قوات الأمن ووحدات الجيش الخلايا الجهادية في سلسلة جبال الشعانبي على الحدود الغربية مع الجارة الجزائر وفي الجهات المحرومة وفي الأحياء الشعبية دون إسناد سياسي واضح وحازم وبدا الجيش والأمن وكأنهما يخوضان معارك مع جهازين مماثلين والحال أن الجماعات الجهادية تسعى إلى تفكيك الدولة حتى أن عددا من الخبراء طالبوا السلطات بـ”إرادة سياسية قوية” تسند جهود وحدات الجيش وقوات الأمن.

واكتفت سياسة مكافحة الإرهاب بتفكيك العشرات من الخلايا النائمة للجماعات الجهادية ومحاكمة عناصرها وعمليات تمشيط لعدد من المناطق خاصة في الجنوب المحاذي للجارة ليبيا قادت إلى العثور على مخازن خطيرة من السلاح، في ظل غياب “إستراتيجية شاملة ومتكاملة” لاجتثاث ظاهرة الإرهاب وتجفيف منابعها.

واستغلت الجماعات الجهادية هشاشة الوضع العام في البلاد وفي مقدمته الوضع الأمني ولكنها استغلت أيضا ضعف الإرادة السياسية لتوجه في مرحلة أولى ضربات موجعة للجيش في الجبال وذبحت عشرات الجنود، وللقيام بهجمات في عدد من القرى والأحياء الشعبية المتاخمة للعاصمة في مرحلة ثانية.

وتبنت تلك الهجمات “كتيبة عقبة بن نافع” أخطر الجماعات الجهادية التي كانت تتبنى فكر تنظيم القاعدة قبل أن تبايع تنظيم الدولة الإسلامية.

ومثلت تلك الهجمات خلال 2012 و2013 و2014 على دمويتها ورمزيتها باستهداف الجيش والأمن “نوعا من البروفات” وجس نبض مدى جاهزية المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية في التصدي لمقاتلين خبروا جيدا ثقافة صناعة الموت في مجتمع كثيرا ما راهن على ثقافة صناعة الحياة.

ومع نهاية 2014 كان جهاديو تونس قد بايعوا تنظيم الدولة ودعوه إلى توسيع نشاطه إلى خارج سوريا والعراق ليشمل تونس في تحول نوعي خطير أشر على أن الدولة المدنية باتت مهددة في كيانها من جماعات لا تؤمن إلا بما تقول دولة الخلافة.

ونجح التنظيم الذي يقوده أبوبكر البغدادي في اختراق النسيج الاجتماعي ومنضومة القيم الدينية السنية المالكية ليستقطب أكثر من 3 آلاف مقاتل تونسي يتبوأ العشرات منهم مراكز قيادية هامة بعد أن تم تجنيدهم إما مباشرة من قبل خلايا نائمة في المساجد أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي أمنت التواصل المباشر بين تلك الخلايا داخل البلاد والقيادات في الخارج.

وكشف تفكيك الذراع الإعلامي لتنظيم أنصار الشريعة بداية عام 2015 والذي بايع تنظيم الدولة أن هناك تواصلا بين الخلايا النائمة والقيادات، كما كشف ان عمليات التجنيد تجاوزت الطرق التقليدية وباتت تراهن على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لتركز على استقطاب طلاب الجامعات خاصة منهم الذين يدرسون في اختصاصات علمية محددة مثل الطب والكيمياء والفيزياء.

ومع بداية العام 2015 كان الفكر الجهادي الذي يتبناه تنظيم الدولة قد اخترق اختراقا قويا نسيجا اجتماعيا متماسكا حاكت خيوطه دولة الاستقلال منذ العام 1956 حيث أعلنت السلطات الأمنية أنها منعت أكثر من 1200 شاب وفتاة من السفر إلى سوريا والعراق للالتحاق بمقاتلي تنظيم الدولة.

كما أعلنت السلطات الأمنية أن أكثر من 500 مقاتل تونسي قد عاد قادما من معسكرات التدريب في سوريا والعراق ونظموا صفوفهم في إطار خلايا نائمة مستفيدين من حالة الانفلات الأمني على الحدود الجنوبية الشرقية مع الجارة ليبيا، وعلى الرغم من أن عودة الجهاديين كانت مؤشرا قويا على أن تنظيم الدولة يخطط لعمليات نوعية تستهدف الدولة المدنية وتنشر الفكر الجهادي لم تتخذ السلطات إجراءات صارمة بشأنهم.

خطر داهم

وحذر سياسيون وخبراء آنذاك من أن الجهاديين لم يعودوا إلا لتنفيذ مخطط يهدف إلى إرباك مؤسسات الدولة وإجهاض التجربة الديمقراطية الناشئة خاصة وأنهم تلقوا تدريبات إضافية في معسكرات توجد بالصحراء الليبية يشرف عليها أبوعياض الذي غادر البلاد عام 2012 في ظروف أثارت الكثير من الجدل لم تخل من الحديث عن “هروب منظم مسبقا”.

وفيما كانت حكومة الحبيب الصيد تركز جهودها على تفكيك الخلايا النائمة التي تناسل عددها في مختلف أنحاء البلاد، كان الجهاديون القادمون من سوريا والعراق ينشطون بطرق موغلة في السرية التامة، ويخططون لتوجيه ضربة موجعة لا لقوات الأمن ووحدات الجيش فقط وإنما للدولة وكيانها السياسي، ونجحوا بالفعل في ذلك من خلال الهجوم على متحف باردو وسط العاصمة تونس في 18 مارس/اذار وأعلن تنظيم الدولة لأول مرة تبنيه للهجوم الذي خلف 70 ضحية بين قتيل وجريح من السياح الأجانب.

ورأى الخبراء الأمنيون والعسكريون أن هجوم باردو أكد أن تنظيم “الدولة الإسلامية” ضرب وبعمق الدولة المدنية ومؤسساتها السيادية باعتباره تم في العاصمة رمز السلطة المركزية، وأشر على أن تونس باتت تخطو نحو مرحلة جديدة في مكافحتها للجهاديين الذي نقلوا هجماتهم من الجبال إلى المدن.

كان هجوم باردو رسالة قوية مفادها أن “جند الخلافة” قادرين على ضرب الدولة المدنية وفي مفصل هام من مفاصلها، كما كان نوعا من البيعة العملية لتنظيم الدولة والولاء لها، الأمر الذي أثار الكثير من الجدل السياسي والديني إذ لم تستوعب الطبقة السياسية وغالبية التونسيين انخراط شباب متعلم نشأ على قيم الاعتدال الديني ومدنية الثقافة السياسية والولاء إلى الدولة الحديثة في تنظيم يسعى إلى بناء ما يقول “دولة الخلافة”.

وعمّق هجوم سوسة الذي خلف 38 قتيلا و39 جريحا من السياح لدى الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وغالبية التونسيين الوعي بأن الظاهرة الجهادية نخرت الثقافة السياسية المدنية مستفيدة من حالة التسامح تجاه جماعات الإسلام السياسي التي تعد واجهة تلك الظاهرة، كما عمق الوعي بأن تونس الدولة المدنية باتت تخطو نحو حرب وجود ضد تنظيم الدولة الذي أعلن تبنيه للهجوم وبان الاستخفاف بخطر التنظيم الذي يقوده أبوبكر البغدادي لن يقود إلا إلى إستقواء بمقاتلين لا يؤمنون لا بالدولة ولا بنمط المجتمع ولا بالتدين السني المالكي المعتدل.

ولعل استفاقة الوعي بخطورة تنظيم الدولة خاصة والجماعات الجهادية عامة هي التي تفسر حالة الاستنفار التي تشهدها تونس مند هجوم سوسة سواء على المستوى الأمني أو العسكري أو السياسي، إذ لأول مرة تتحرك السلطة السياسية بقوة وبحزم وتعلن عن إجراءات رأى فيها السياسيون والخبراء مؤشرا على عزم الدولة المدنية على اجتثاث الظاهرة الجهادية فكرا وممارسة كما رأوا فيها مؤشرا على إمكانية إتخاد إجراءات أخرى ضد أي جماعة تتبنى مشروع الإسلام السياسي الذي لا يحظى بالتأييد الشعبي الواسع.

ويقول المراقبون أن مستقبل الدولة المدنية في تونس مرتبط شديد الارتباط بمدى نجاح البلاد في اجتثاث الجماعات الجهادية وفي مقدمتها خلايا تنظيم الدولة التي تسعى إلى تركيز نواة للتنظيم الأم في سوريا والعراق، ملاحظين أن أي نوع من أنواع الاستخفاف لن يقود إلا إلى تنامي مخاطر تلك الجماعات لا على أمن البلاد واستقرارها فقط، وإنما على طبيعة دولة المواطنة المدنية ونمط المجتمع التونسي المنفتح سياسيا وثقافيا والمعتل دينيا.

ويشدد المراقبون على أن هجوم سوسة قاد إلى استنهاض إرادة سياسية باتت أعمق وعيا بأن إنقاذ تونس من الأزمة التي تتخبط فيها منذ أكثر من أربع سنوات وتأمين نجاح تجربتها الديمقراطية الناشئة، لن يكون إلا عبر كسب حرب الوجود بين كيان الدولة المدنية وجند الخلافة، ملاحظين أن مخاطر تلك الجماعات تبقى قائمة في ظل تدهور الأوضاع الأمنية في ليبيا التي يقاتل فيها نحو 2500 تونسي موزعين على عدد من الجماعات المسلحة.

اقترح تصحيحاً

اترك تعليقاً