حول فرض الرسوم على تحويلات النقد الأجنبي - عين ليبيا

من إعداد: د. نوري عبد السلام بريون

في تحليلنا السابق (هل فرض رسوم ….؟) تمت البرهنة على اعتبار فرض رسوم على تحويلات النقد ألأجنبي، تخفيضا لقيمة الدينار الليبي، لأن آلية التنفيذ تتم داخل الاعتماد المستندي، ولصيقة بسعر الصرف والنقد الأجنبي، وتحت إشراف وزارة المالية، فتكون كأنها سياسة مالية، وهي سياسة نقدية 100% بجميع أدواتها (الاعتماد المستندي، والإجراءات المكملة له)، وإن تم تنفيذها من قبل وزارة المالية نفسها. ومع هذا لا يمكن إلغاء الاستثناء، إذا كان في صالح الطرفين (المالية والاقتصاد الوطني، والأخير يكون بزيادة الإنتاج وانخفاض البطالة وتخفيض العجز في الميزان التجاري)، وذلك إذا لم يتعارض مع آلية التنظيم الاقتصادي (مبادئ الاقتصاد).

والاستثناء هو قبول الأفضلية الثانية في الاقتصاد، لأن بعض المبادئ يمكن تحملها وتجاهلها في المدة القصيرة أو المتوسطة، مع عدم التضحية بالزيادة في المصلحة الاقتصادية. والمثال على الاستثناء هو اختيار بعض السلع الكمالية، مثل السيارات الفارهة والسلع الغالية التي يشتريها الأغنياء وذوو الدخول العالية، على أن تكون نسبة الرسوم في الغالب لا تتجاوز 20%، خلال مدة متوسطة لا تتجاوز خمس سنوات.

وبالتالي يبقى تنفيذ السعر الرسمي لسعر الصرف على الواردات من السلع الضرورية جدا مثل المواد الأساسية للغذاء، والمواد الأساسية للصحة والتعليم، والمواد الأساسية (وفق الوسط الشعبي) لمجالي الملبس والمسكن. مع الأخذ في الحسبان إشباع رغبات الشعب في حاجاته الأساسية، وهي الغذاء والملبس، والماء والمسكن (لا كما جاء بها علماء الاقتصاد في القرن الثامن عشر للميلاد، ولكن كما جاء بها الإسلام مستنبطة من قوله سبحانه وتعالى (فقلنا يا آدم ليخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى،) سورة طه-(117،118،119)، بالإضافة إلى أخذنا في الحسبان قول رسولنا صلى الله عليه وسلم (لا ضرر، ولا ضرار). عندئذ نكون قد وصلنا إلى بر الأمان.

أرجو أن يقبل عذري القارئ، بسبب عدم توضيح مقصدي من النظر بعينين، أو بعين واحدة في المقال السابق، ومقاصدي أكثر من واحد، أولها ألأهم هو أن الرؤية السديدة النافعة يراها العلماء بالقلوب وليس بالأبصار والعيون وحدها التي تميز الأشياء شكلا ومظهرا، وليس معدنا وتركيبا. نحن كشعب مسلم نعلم أن الله أنزل المودة والرحمة في القلوب وليس في العقول. لذلك لكي نميز بين الطيب والخبيث، وجب استخدام العقل من خلال القلب للشعور بالتفكير والتدبر والتفقه، للوصول إلى الحل الصحيح النافع للإنسان، وطاعة لله، إذ قال سبحانه وتعالى (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمي الأبصار، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.) سورة الحج 46. والمقصد الثاني هو الإلمام بالعلم والتفقه فيه مع التخصص، لكي يكون المجتهد متمكنا، فيكون قادرا أيضا على التفكر والتدبر للصالح العام وليس لصالحه وحده.

للأسف لا زال بيننا من يرى بعين واحدة، ويصر (نعم هو أحد الحلول الهامة لتقليل الفجوة السعرية بين السوق السوداء والسوق الرسمية). وليبيا لا تستفيد من قريب أو بعيد، حتى لو انخفضت أسعار صرف الدينار، بسبب أن ليبيا ليس لديها سلع تصديرية إلا النفط، ويحدد سعره بالدولار في الخارج، وليس بالدينار الليبي.

لا شك أن هذا التدخل لا يكون مبررا إلا لبلد ينتج سلعا تصديرية تواجه كسادا، فيكون العلاج هو رفع قيمة العملة الأجنبية، (دولار أمريكي) لتنخفض قيمة العملة الوطنية (جنيه مصري). فتنخفض الأسعار الوطنية فيزداد الطلب على الصادرات. لكن في الغالب لا تكون هذه السياسة فعالة في البلاد النامية، لأن الطلب على وارداتها من قبل سكانها أكبر مرونة، من مرونة طلب الأجانب على صادرات البلاد النامية، مما يمكن أن يؤدي إلى زيادة في الواردات تفوق الزيادة في الصادرات، الأمر الذي يزيد من عجز الميزان التجاري، إذا كان البلد ذا عجز، ويخفض من فائضه، إذا كان البلد ذا فائض.

لكن في البلاد المتقدمة حيث المنافسة نشطة، وقائمة السلع متنوعة في الإنتاج أولا، ثم متنوعة في الصادرات، ومتنوعة في الواردات، الأمر الذي يسهل نجاح ترويج الصادرات من خلال التأثير على سعر الصرف بالانخفاض. والدول الكبرى كلها تمارس سياسة التدخل في السوق المالية للتأثير على مستوى أسعار الصرف، لتكون في صالحها. أما بالنسبة للبلدان النامية، فإن حظها غير مضمون في هذا الشأن، إذ واجهت الشقيقة مصر ارتفاع سعر صرف الدولار لأول مرة في تاريخه بالسوق السوداء، في أواخر الأسبوع الثاني من مارس 2016، ليتجاوز الدولار 10.5 جنيه مصري، مما اضطر المصرف المركزي أن يدخل السوق الموازية، برفع قيمة الدولار من 7.73ج م ( 0.129366 دو)، إلى 8.85ج م (0.112994 دو)، أي بزيادة بلغت نحو 12.66% (على أساس الدولار)، (0.129366 -0.112994)\0.129366 =12.66% وهي تساوي نفس مقدار النسبة كانخفاض على أساس الجنيه المصري (7.73 -8.85 )\ 8.85 =(-12.656%).

وإن تراجعت الأسعار قليلا إلى 9.4ج م للدولار، إلا أنها واصلت ارتفاعها (رغم تدخلات المصرف المركزي) إلى نحو 9.55 ج م فيما بعد. لكن بعد تطبيق سياسة التعويم انطلق السعر التوازني إلى الضعف، وبقي هناك. لا زال متوسطة بين 17.5 و18.0 ج م، وأعلى من ذلك بقليل جدا في السوق الموازية. وليس لدي رأي أو نصيحة للبلدان النامية والضعيفة سوى ربط عملتها بوحدة حقوق السحب الخاصة، وقبول قيمتها بالعملات ألأجنبية المختلفة، التي يتم تحديدها من قبل عملات سلة صندوق النقد الدولي، أو ريطها بأية عملة يتداولها شعبها بنسبة أكبر من غبرها. والسلوك المستدام هو الذي يؤدي إلى الاستقرار.

ومن يدري!! ربما حكومة الوفاق عجزت عن محاربة الفساد (التهريب والسطو على الدولار بسبب ندرته، وبسبب غياب العدالة في توزيعه، وكيف لا يهرب البنزين وتسمح الدولة ببيع لتر منه، بأقل من 0.14286 لتر ماء حلو، أي لتر ماء =7 لترات بنزين) بالوسائل الفعالة، وهي القانون وآلية التنفيذ، ربما هذه لم تنجح سابقا بسبب عدم توفرها والدليل (سمعنا بالسطو على 63 مليون دولار في سرت، والسطو على بضعة مصارف، واختطاف عشرات الأفراد وقتل بعضهم و.. و.. ولا حياة لمن تنادي!! إذن وجبت الاستقالة على المسئول إذا كان وطنيا، لأن الاستمرار بالعجز يضر الاقتصاد والحياة الاجتماعية وينهار الوطن كله.

إذن ليست معالجة الفساد المذكور في ميدان الاقتصاد بتخفيض أسعار الصرف التي تطول آثارها بالانخفاض في مستوى الدخل حتى الحد ألأدنى للأجور، وحتى مرتب عضو البرلمان الذي وحده ينطح السماء. لكن إحساس الجانبين من المواطنين ليس متعادلا، فمن كان قرب سطح الأرض، يسقط مغشيا عليه، ومن كان يلاحق السماء، تهبط أرجوحته، ولكنه لا زال يتمتع بالتميز.

ومن جهة أخرى، بسبب معالجة الفساد من خلال اسعار الصرف قد ظلمت الحكومة أصحاب الدخول الضعيفة والمتوسطة، والمفسدين أنفسهم،

وذلك بانخفاض دخول المجموعة الأولى، حتى أصبحوا مظلومين بدون ذنب، أما بالنسبة لمجموعة الفاسدين فقد ظلمتهم الحكومة أيضا، لأنها أهملت دواوين المراقبة والمتابعة، وأهملت تنفيذ القانون، فسمحت لهم بالمخالفة، فأصبحوا منحرفين، ليكونوا مجرمين في حق الشعب، ومظلومين بسبب الإهمال الحكومي. أليس من واجب الدولة التربية أيضا! إذ من نصائح العلماء الولد يربيه أبوه، وإن تعذر عمه وأقاربه، وإن تعذر فجيرانه، وإن تعذر فالدولة أولى به.

واللافت للمشكل كله هو أن المقصد الرئيسي للحكومة هو تمويل العجز في الميزانية لإثبات وجودها، وإخراجها من مأزق الإفلاس، ولأنها فقدت القدرة التنفيذية على استتباب الأمن من جهة، وفقدت المستشار الاقتصادي الماهر، جعلها تلجأ إلى سياسة أكثر صعوبة، والأكثر ضررا في معيشة الشعب، بينما الأكثر سهولة، والمؤجل آثارها، هي سياسة الاقتراض من المصرف المركزي أو المواطنين أو الإثنين معا. وإذا استحالت هذه السياسة، فإن مجال السياسة المالية واسع يمكننا من إجراء سياسة مالية أكثر سهولة وأقل ضررا.  مثل زيادة الإيرادات المحلية بزيادة كفاءة التحصيل، وزيادتها أيضا من مجالات أخرى لم تتم دراستها من قبل 3\10\2018.

يتبع إن شاء الله.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا