حديث في مدنية الدولة

حديث في مدنية الدولة

د. أشرف محمد بلها

رئيس تجمع تكنوقراط ليبيا

تتكون الدول في كل العصور من فصيلين رئيسيين حاكمين من المؤسسات، هما: المؤسسات السياسية، والمؤسسات العسكرية والأمنية، وتتكامل معهما المؤسسة الاقتصادية والمؤسسة الاجتماعية.

ومع تطور الأداء في كل المؤسسات المذكورة، وفي ضوء انتشار مفاهيم الديمقراطية والدسترة والتداول السلمي على السلطة، وانتشار ثقافة التعايش والسلم الأهلي، يتأرجح في العقل السياسي الحديث، مفهوم الدولة المدنية، الذي يعتبره كثير من المتابعين، السمة المطلوبة والحاكمة في للدولة الحديثة.

لكن هذا المفهوم السامي يحتاج إلى فهم عميق وثقافة ديمقراطية عامة، لنجاح تطبيقه، كما يحتاج تطبيقه الصحيح إلى تناغم مستمر ودائم بين كل المؤسسات، يُبنى على منظومة القيم الوطنية الثابتة.

وهذا التناغم يضبطه (مايسترو) الدستور والتشريعات والقوانين واللوائح الصادرة بمقتضاه.

إن مبدأ مدنية الدولة هو هدف يسعى لخلقه وحمايته كل فرد في المجتمع سواء أكان حاكما أو محكوما، وهذا يأتي ضمن المسئولية المجتمعية عموما، ويتحقق ذلك في مسارين؛ أولهما نشر الثقافة الديمقراطية بدءا من مناهج التعليم والتربية والإعلام وبرامج الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وخطب الوعظ والإرشاد، وصولا إلى البرامج الانتخابية للمترشحين في كل أنواع الانتخابات النقابية والبلدية والنيابية والرئاسية، وبرامج الحكومات المنتخبة التي يقرها البرلمان.

أما المسار الثاني فيتمثل في روح ونص الدستور التوافقي الذي يقره الشعب باختياره الحر الواضح، حيث ينبغي أن تكون الثقافة الديمقراطية المجتمعية دافعا لتمكين الشعب من حسن اختيار الدستور الذي يضمن مدنية الدولة، دون خلق صراع خفي أو مكشوف بين المؤسستين الرئيسيتين الحاكمتين وهما المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية والأمنية.

إن الأداء اليومي لنشاط الدولة بقطاعيها العام والخاص، يتقدم ويتطور في ظل التناغم المطلوب بين مؤسستي الحكم والأمن، لأن حاجة الدولة والمجتمع متساوية لكليهما، حيث تقاد الدولة بالمؤسسات السياسية، بينما تعطيها المؤسسات العسكرية والأمنية متطلبات الحماية والسيادة والأمن.

وتشهد الديمقراطيات العتيدة في العالم مثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، استمرارا وتطورا، لأنها انتهجت تعليم الثقافة الديمقراطية لأجيالها المتلاحقة منذ سنوات دراستهم المبكرة، وتعلمهم محاكاة وممارسة الديمقراطية، من خلال انتخابات الاتحادات الطلابية وبرلمانات الشباب، والجمعيات العمومية، وتحرص على منع الإضرار بهذه الثوابت، عندما لا تتردد في إقالة ومحاسبة كل المخالفين لقواعد الديمقراطية والقانون، مهما كانت صفاتهم ودون حصانة أو تمييز.

ولقد تابعنا محاكمة ريتشارد نيكسون وبيل كلينتون ووربما ترامب أيضا، ومحاسبة بوريس جونسون في مجلس العموم البريطاني، كما تابعنا سحب الثقة من حكومات أوربية ويابانية، وإقالة مسئولين على كل المستويات، بمجرد ثبوت عدم شعورهم بالمسئولية، وذلك على مبدأ حماية مدنية الدولة وديمقراطيتها.

ويتجلى تناغم المؤسسات السياسية والعسكرية والامنية في هذه الديمقراطيات العتيدة بكل وضوح وثبات، ما جعلها تنعم بالسيادة والأمن والعدالة، وتمكين المؤسسات السياسية من توظيف المفهوم السوقي* (بفتح السين) عند استعانتها بالمؤسسة العسكرية، لتحقيق سياسات ومصالح افضل لشعوبها. وفي الخلاصة نؤكد بأن قيام الدولة الديمقراطية المدنية، رهين بنشر الثقافة الديمقراطية المجتمعية، وتكامل المؤسسات الحاكمة، حيث تنشأ الدول الديمقراطية وتتطور وتزدهر.

=========================================

* السوق (بفتح السين) هو استخدام الوسائط العسكرية لتحقيق أغراض سياسية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. أشرف محمد بلها

رئيس تجمع تكنوقراط ليبيا

اترك تعليقاً