منذ قرون طويلة تشكلت البنية الاجتماعية في ليبيا على أساس القبيلة والعشيرة. لم يكن ذلك خياراً واعياً بقدر ما كان استجابة طبيعية لحالة غياب الدولة وضعف مؤسسات الحماية والعدالة. فالفرد لم يجد أمامه سوى جماعته يحتمي بها من القتل أو السرقة أو الثأر، فأصبحت القبيلة بمثابة “دولة مصغّرة” لها أعرافها وقوانينها وسلطتها التنفيذية.
لكن هذه البنية – رغم ما وفرته من حماية – حملت معها إرثاً ثقيلاً:
- غياب المساواة بين أبناء الوطن الواحد، حيث يُقدَّم الانتماء القبلي على الانتماء الوطني.
- شيوع العدالة الخاصة القائمة على العرف والثأر بدلاً من عدالة الدولة والقانون.
- إضعاف الهوية الوطنية لصالح هويات جهوية وعشائرية.
وبمرور الزمن أصبح المجتمع الليبي يعيش في إطار ” نسق أهلي ” معقد، فيه جوانب إيجابية من تضامن وتكافل، ولكن أيضاً فيه سلبيات كثيرة من انقسام وتناحر وتعطيل لبناء الدولة.
الفارق بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني
- المجتمع الأهلي : يقوم على القرابة والدم والانتماءات الضيقة، حيث تسود الأعراف والوساطات.
- المجتمع المدني : يقوم على المؤسسات الحديثة، حيث يحتكم الجميع إلى القانون وتُدار الشؤون عبر منظمات المجتمع المدني والنقابات والأحزاب.
الأمم التي سبقتنا في مسار الحضارة لم تُلغِ انتماءاتها التقليدية بالقوة، لكنها أنشأت مؤسسات أقوى جذبت الناس إليها وجعلتهم يستغنون تدريجياً عن الولاء للقبيلة.
المعضلة الليبية
المعضلة الكبرى تكمن في كيفية إخراج الليبيين من أسر المجتمع الأهلي إلى رحابة المجتمع المدني.
فالقبيلة اليوم ما زالت فاعلاً سياسياً وأمنياً، تفرض شروطها في الانتخابات، وتحتكم للسلاح في النزاعات، وتدخل كوسيط في القضاء، وهو ما يعطّل نشوء دولة حديثة قائمة على المواطنة.
الطريق إلى الحل
1- الاعتراف بالواقع لا إنكاره
القبيلة لن تزول بقرار سياسي أو خطاب إعلامي. إنها متجذرة في الثقافة والنسيج الاجتماعي. الحل هو تحويل دورها: من سلطة سياسية إلى مكوّن اجتماعي ـ ثقافي محدود الوظيفة.
2- بناء بدائل مؤسساتية
- قضاء مستقل يعالج النزاعات بديلاً عن أعراف الثأر.
- جيش وشرطة موحدة تحتكر القوة.
- مجالس بلدية منتخبة تحل محل مجالس الأعيان وشيوخ القبائل في إدارة شؤون الناس.
3- مرحلة وسيطة: “مجالس الحوكمة والتحكيم”
هذه الصيغة يمكن أن تكون جسر العبور من المجتمع الأهلي إلى المدني. فهي مجالس ذات طابع حديث، تنظمها قوانين الدولة، وتختص بالمصالحة والوساطة والحوكمة المحلية. وهكذا نعيد تأطير القبائل ضمن هياكل قانونية، تمهيداً لاندماجها النهائي في الدولة.
4- إصلاح التعليم والإعلام
- المدرسة يجب أن تغرس قيم المواطنة، المساواة، والعدالة.
- الإعلام الوطني يجب أن يحل محل “الميليشيات الإعلامية”، وينشر ثقافة الانتماء إلى ليبيا أولاً.
5- التنمية العادلة
الفقر والتهميش يعيدان إنتاج العصبيات. لذلك لا معنى لأي إصلاح اجتماعي من دون توزيع عادل للثروة وتنمية متوازنة بين المدن لنخرج الليبيين من تصنيفاتهم السابقة لبعضهم “بادية وحضر”.
6- خطاب وطني جامع
لا بد من إنتاج خطاب سياسي وثقافي يوازن بين احترام التراث الأهلي وعدم تأليهه. خطاب يقول: القبيلة تاريخ، والوطن مستقبل.
خلاصة القول:
الانتقال من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني ليس قراراً سياسياً آنياً، بل هو مسار طويل يحتاج إلى بدائل قوية تجذب الناس، لا إلى شعارات تدعوهم لترك قبائلهم.
بكلمة أخرى: حين يجد المواطن العدالة في القضاء، والحماية في الدولة، والكرامة في المواطنة، فلن يعود بحاجة إلى حماية القبيلة.
ليبيا قادرة على خوض هذا التحول إذا ما توافرت رؤية وطنية صادقة، وإرادة سياسية جادة، ودعم شعبي يؤمن بأن الدولة الحديثة هي وحدها القادرة على أن تحفظ دماء الليبيين وتضمن مستقبل أبنائهم.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.






اترك تعليقاً