لقد أكثرنا تناولًا وبحثًا وتحليلًا في تفاصيل الأزمة الليبية، حتى تشابهت العناوين والأفكار، وبدا للبعض أن كل شيء قيل وانتهى.
لكن الحقيقة أن هذا الاستمرار في الكتابة ليس تكرارًا عبثيًا ولا ترفًا صحفيًا، بل هو واجب وطني يعبر عن اهتمام صادق وانشغال حقيقي بمصير وطننا.
فالحديث المتجدد والتساؤل الدائم هما شكل من أشكال الأمل، ومحاولة واعية للتذكير بأن الحل لن يولد إلا من الداخل، بإرادة جماعية تتجاوز المصالح الفردية والشعارات الجوفاء. وربما يبدو للبعض أن هذه الكلمات مكررة، لكنها تظل ضرورية كي يظل صوت ليبيا حاضرًا، وحلم الدولة القوية الموحدة حيًّا، في انتظار لحظة يقتنع فيها الليبيون جميعًا أن خلاصهم الحقيقي لا يأتي إلا من توافق ليبي–ليبي خالص.
من يملك الحل؟
رغم مرور أكثر من أربعة عشر عامًا على سقوط الدولة الليبية ودخولها في دوامة الفوضى، تتوالى المبادرات والاقتراحات دون جدوى، لتبقى الدولة رهينة الانقسام وانهيار الاقتصاد وانتشار السلاح.
نسأل هنا بكل صراحة: من يملك حقًا حل الأزمة الليبية؟ وكيف يمكن بناء دولة متكاملة الأركان سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، في ظل هذا الانهيار العميق؟ وهل يمكن أن نصل لقناعة جماعية تبدأ من الداخل، في ظل التعنت والعناد ورواسب الماضي؟
المفارقة أن المواطن البسيط بات يعرف مواضع الخلل أكثر من الطبقة المتعلمة والسياسية، التي كثيرًا ما تتحدث عن الديمقراطية وتداول السلطة بينما تنشغل بمصالحها الخاصة.
حقيقة التدخل الدولي وتجاهل الداخل
منذ 2011، فتحت حالة الانقسام والفراغ الأمني الباب لتدخل الأمم المتحدة والمبعوثين الدوليين في تفاصيل الشأن الليبي، بدلًا من الاكتفاء بالدعم والمشورة. ومع انقسام الدول المتدخلة حول مصالحها، بات واضحًا أن الليبيين أنفسهم لا يريدون حلًا جادًا طالما أن بعض الأطراف المستفيدة تحتفظ بمكاسبها.
رغم القرارات الدولية، لم تُفرض عقوبات حقيقية على من يعرقلون الحل أو يحملون السلاح في العاصمة. وفي المقابل، شهدت مناطق الجنوب والشرق استقرارًا نسبيًا تحت سلطة المؤسسة العسكرية الليبية، بانتظار توحيدها عبر اللجنة العسكرية المشتركة 5+5.
انتخابات في غياب الأمن؟
في ظل هذا الواقع، هل يمكن تنظيم انتخابات حقيقية؟
لقد جربت ليبيا الانتخابات أكثر من مرة، وفشلت بسبب غياب الأمن ووجود أطراف لا ترغب في التغيير، بالإضافة إلى انعدام التوافق على دستور يضمن قواعد اللعبة السياسية.
حتى المبادرات الأممية والإقليمية مثل اتفاق الصخيرات 2015 واتفاق جنيف 2021 لم تنجح في إنهاء الأزمة، وسط اعتراض شعبي صامت على آلية اختيار المشاركين ومخرجاتها.
الحلول الخارجية… وغياب إرادة الداخل
منذ تدخل الناتو بقيادة أمريكا في 2011، تتالت الوعود الغربية بحل الأزمة، لكن واقع الانقسام وانتشار السلاح بقي كما هو.
وبعد تعاقب أكثر من عشرة مبعوثين أمميين، بدا أن الحلول غالبًا تُصاغ لتخدم مصالح الدول المتدخلة أكثر مما تخدم مصلحة الليبيين.
إدارة ترامب… تصريحات أم سياسة
يتردد أن إدارة ترامب في حال عودتها ستسعى لحل الأزمة الليبية بعد لقاء مستشاره مسعد بولس بوزير الخارجية المصري، وتصريح ترامب خلال لقائه مع زعماء أفارقة.
لكن الحقيقة أن ترامب يهتم أولًا بأجندة «أمريكا أولًا»، ولديه ملفات ساخنة أهمها الصين وروسيا وإيران. سياسته قائمة على المكسب المباشر، وقد يفضل التعامل مع أطراف قوية بدلًا من الانخراط في نزاعات مع تشكيلات مسلحة في العاصمة.
لذلك، ربما يُسند الملف لدولة إقليمية مثل مصر، بحكم معرفتها بالملف الليبي وصلاتها بكل الأطراف.
في النهاية، قد نختلف في التفاصيل، لكننا نتفق جميعًا أن ليبيا تستحق أكثر من هذا الواقع الممزق.
لقد جربنا انتظار الحلول من الخارج وخذلتنا الوعود الدولية، فيما بقي السلاح والانقسام يحكمان المشهد.
ورغم كل ذلك، يظل الأمل قائمًا إذا أدركنا نحن الليبيين أن الحل الحقيقي يبدأ بخطوة وطنية جريئة: التنازل عن الأنانية وتجاوز رواسب الماضي والإيمان بأن الوطن أكبر من الجميع.
ونعتقد أن الأولوية يجب أن تكون لحل أمني يعيد هيبة الدولة بعد فشل المسارات المدنية وحدها، على أن يتلازم مع المسار السلمي الديمقراطي وصياغة دستور توافقي يوحد الليبيين تحت مظلة قانون واحد.
فلا خلاص إلا بتوافق ليبي – ليبي صادق يعيد بناء الدولة قبل أن تُغلق نافذة الفرص نهائيًا وتضيع ليبيا بين أجندات الآخرين.
فلنبدأ من أمن يجمعنا، ودستور يوحدنا… قبل أن تضيع ليبيا من بين أيدينا.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً