الشيخ راشد الغنوسي.. جسد في السجون وفكر عابر للحدود

الشيخ راشد الغنوسي.. جسد في السجون وفكر عابر للحدود

د. علي الصلابي

مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي ليبي

في ذكرى مولده الثاني والثمانين، يقضي الشيخ الكبير والمفكّر البارز، والمناضل الجسور، الأستاذ راشد الغنوشي هذه الأيام خلف قضبان الظلم والجور، ومصادرة الأفكار والآراء في تصفيات سياسيّة، عديمة الجدوى والنفع، وذلك في سجون الطغاة والظالمين، فهو جسد في السجون، ولكنه بصبره وبتأثيره ومكانته فكر عابر للحدود.

ويعتبر الأستاذ راشد الغنوشي من أكابر المفكرين والمثقفين الذين ينتمون للأسرة العربيّة والإسلاميّة والإنسانيّة، الذين دافعوا عن القيم الإنسانية، كالحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والتعاقد بين الحاكم والمحكوم، وحقوق الإنسان بنوعيه الذكر والأنثى، وقدم هو وإخوانه تضحيات كبيرة في هذا الطريق الشاق والطويل؛ بين سجون ومنافي ومطاردات واتهامات، ومحاولات لا تكل ولا تمل لاغتياله معنوياً، وإزالته من الخارطة السياسية التونسية والعربية والإسلامية. ونسي خصومه أنّ الأفكار لا تموت، والكفاح الصادق محفوظ بحفظ الله له، والقدوات الكبيرة جعلها الخلّاق العليم معالم يهتدي بها أجيال وأجيال، ودول وشعوب وأمم ومجتمعات.

عرفت أستاذي وشيخي راشد الغنوشي منذ انفتاحي على الحياة ومتابعتي للحركة الإسلامية العامة في العالم العربي والإسلامي، وسمعت عنه، وأنا في السجن في عهد الراحل العقيد معمّر القذافي، وعن نشاطه ودعوته، واعتقاله، وما تعرض له من الابتلاء مع إخوته من نظام بورقيبة.

وعندما خرجت من السجن، وخرجت من ليبيا مهاجراً، وكنت شاباً في مقتبل العمر، فقد التقيت به في جدّة في ضيافة الأستاذ فتحي الخولي (رحمه الله) وسلّمت عليه، وسمعت حديثه الجذاب وأفكاره النيّرة. ولا زالت ابتسامته في مقابلته لي أتذكرها حتّى يومي هذا، ورأيته بشنّتة (شاشيّته) الحمراء، وملابسه التونسية التقليديّة مرات ومرات، إذ كان يطوف في العشر الأواخر من رمضان بالكعبة المشرفة، وتابعت كتابته ومقالاته، ومواقفه، والتقيت به في مؤتمرات عديدة، وتجمعات دعوية فريدة، ولازمته في لقاءات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وكنت كثير السؤال له، وكانت علاقتي به كعلاقة التلميذ المجتهد لأستاذه القدوة في خلقه وعلمه، وتجاربه.

وعندما كانت فرصة الحوارات مع السجناء السياسيّين في سجون ليبيا في فترة ما يعرف بليبيا الغد – والتي أشرف عليها الدكتور سيف الإسلام – كان مشجعاً للطرفين ونعْم الناصح والصادق في نصحه، وما التقيت بشيخي في المؤتمر ولا في بيته العامر أو مقر حزب النهضة إلا استفدت من فكره وعلمه.

فهل هذا الرجل الكبير في عِلمه وتجربته الغنية، وكفاحه يكون مقرّه السجن، أم يكون بين أبناء شعبه كباراً وصغاراً، حتى يستفيدوا من تجاربه وأفكاره التي نضجت مع مرّ السنين، وصقلتها التجارب أم أنّ الأمر دبّر بليل لطمس أي نور وسط الظلام، أو شمعة تنير دجى الليل البهيمّ!؟.

إنّ القائد السياسي والمفكر الإسلامي الشيخ راشد الغنوشي أثرى الفكر السياسي الإسلامي والإنساني بكتبه النافعة ومواقفه المتّزنة وتقديمه الصالح العام على الخاص، وإخلاصه للإسلام العظيم وحضارته وثقافته وهويته ومنافحته عنه في المحافل الدولية.

وقد كان حريصاً على أن تبقى تونس (العزيزة) شمعة مضيئة في قلب الربيع العربي، وأن تكون نموذجاً في الديمقراطية والتعددية والعدالة، وكان يرى أن الخطر الأعظم على الإسلام يتمثل في غياب الحريات، وعدم توفر ضمانات كافية لحرية الرأي والضمير، وحرية الاعتقاد، وحرية التنقل، وسائر الحريات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة والعامة.

لقد رفض الأستاذ الغنوشي العنف بكل أصنافه، واتخذ الحوار سبيلاً وحيداً لحل الخلافات، ومن أقواله في ذلك: نحن نتحاور حوارات جادة، وسلاحنا في ذلك الكلمات، وليس الرصاص. لقد أجهد نفسه ومن معه من تلاميذه وأنصار حركته وحلفاؤه المدنيون من أبناء الشعب التونسي على تقديم نموذج سلمي للأمة والإنسانية في التغيير والتأسيس الديمقراطي المتميز، وعندما تطالع كتابه (الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام)، حيث تجد الشيخ راشد متمكناً من المادة التي طرحها، وأجاب على الكثير من الأسئلة التي تشغل المثقفين على المستوى الإنساني والإسلامي والعربي فبين في كتابه:

مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام، وضرورة السلطة ومدنيتها، ومصدر الشرعية في الدولة الإسلامية وضمانات عدم الجور وكيفية مقاومته عند حصوله في نظام حكم إسلامي.

وتحدث عن الوسطية في علاقة الدين بالسياسة، وعن طبيعة العلاقة بين الإسلام والسياسة، وعن جدلية الوحدة والاختلاف والتعددية في الإسلام والسياسة، وعن الشورى والتعددية في تجربة المسلمين؛ تحدث بشفافية، وبعلم وإنصاف، وشجاعة أديبة رفيعة، ملتزماً بالأخلاق الكريمة في نقاشاته وحواراه مع مخالفيه، وطرق الأبواب المغلفة ووازن بين الأفكار والمذاهب، واستدل بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، ونماذج من التاريخ.

وأبدع في حديثه عن الحريات وحقوق الإنسان في الإسلام، وبين بأن الحرية مقصد من مقاصد الشريعة، وناقش حرية العقيدة ومسألة الرد، والمرأة والحرية، والحرية والاقتصاد والحرية من خلال المجتمع المدني، وبين مفهوم الحرية وحقوق الإنسان في الغرب والتصور الإسلامي للحرية وحقوق الإنسان، وأوضح بأن العقيدة أساس حقوق الإنسان في الإسلام، وتكلم عن الفكر الإسلامي الحديث، ومسألة حقوق الإنسان والإطار العام لحقوق الإنسان في الإسلام، وحرية المعتقد ودستور دولة النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة.

ولقد قدم رؤية فكرية جمعت بين الأصالة والمعاصرَة، وبين المثال والواقع، وبين المادة والروح وبين الدنيا والآخرة، ممزوجة بالحضارة الإسلامية والثقافة الإنسانية والعقل النير والمنطق السليم والوجدان الحي المليء بالأشواق والارتباط الروحي بالإسلام العظيم، وتصدى بكل شجاعة للعنف وقدم دراسة في الأسباب والعلاج.

وأما في كتابه (المرأة بين القرآن وواقع المسلمين)، فقد أفاد وأجاد، وقدم للمرأة على المستوى الإنساني رؤية الإسلام للمرأة، وقد ختم كتابه بقوله: “إنه ليس في الإسلام ما يبرر إقصاء نصف المجتمع الإسلامي عن دائرة المشاركة والفعل في الشؤون العامة، بل إنّ ذلك من الظلم للإسلام ولأمته قبل أن يكون ظلماً للمرأة ذاتها، ولأنه على قدر ما تنمو مشاركة المرأة في الحياة العامة على قدر ما يزداد وعيها بالعالم وقدرتها على السيطرة عليه، وأنه لا سبيل إلى ذلك من غير إزالة العوائق الفكرية والعلمية من طريق مشاركتها في الشؤون العامة والارتقاء بوعيها بالإسلام والعالم، والثقة في قدراتها حتى تكون مساهمتها في صناعة جيل يخرج عن خويّصة نفسه لينخرط في الهموم العامة للأمة والإنسانية”.

ويضيف: “… نحن إذن مع حق المرأة الذي يرتفع أحياناً إلى مستوى الواجب في مشاركتها في الحياة السياسية على اساس المساواة الكاملة غير المنقوصة في إطار احترام أخلاقيات الإسلام، فإنما التفاضل بالكفاءة والخلق والجسد لا بالجنس أو اللون وتأمل في هذه الآية العظيمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]؛ فما أحوج صحوتنا ونهضتنا إلى زعامات نسائية على كل صعيد من نوع عائشة وخديجة وأم سلمة وفاطمة وأسماء وأم عمار وزينب الغزالي والدكتورة سعاد الفاتح…. فأين بناتنا؟”.

إنّ شيخنا وأستاذنا المفكر الإسلامي الألمعي والفيلسوف الواقعي راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في تونس، عندما تقرأ كتبه ومقالاته تجد نفسك أمام كاتب إسلامي متميز في هذا العصر، يتمتع بقدر كبير من العمق الثقافي الإنساني والمعرفة المتبحرة على الفلسفات القديمة والحديثة والمعاصرة، فقد استوعب أفكار عصره ومجرياته السياسية والحضارية ومدارسه الاقتصادية، والعقدية، والفكرية دون أن تؤثر على ثوابته الإسلامية الراسخة، فكتاباته فيها جدة وابتكار وتجديد، وإجابات للتساؤلات شغلت أجيالنا المعاصرة، وفي جميعها كان مسترشداً بالمرجعية الإسلامية العليا.

جمع الأستاذ الغنوشي (فرج الله عنه) بين الهم الإسلامي وتحديات العصر، وذلك بنظرةٍ تنويريةٍ وسطيةٍ حكيمةٍ، وراسخة معتمدة على الأصول الإسلامية القاطعة، ولديه قدرة نادرة في عرض الثوابت الفكرية والتشريعية الإسلامية بأسلوب العصر، بحيث تصل إلى القارئ من بني الإنسان بطريقة معقولة مقبولة، فتجد المثقف العصري يسلم بأسلوبه المنطقي العقلاني الشرعي، وقد ساعده بعد توفيق الله تعالى تجربته العلمية الغنية فهو ليس مجرد كاتب نظري، أو مفكر يسبح في عالم الأفكار ويخوض غمارها فقط، بل هو عامل مجاهد مكافح مناضل في مشروع نهضة الشعوب العربية والإسلامية، فقد ساهم في نهضتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والتربوية والعلمية، فقد استفادت الحركات الإسلامية والمنظمات الثقافية، والاجتماعية والفكرية في العالم العربي والإسلامي من كتابته الفكرية وتم ترجمتها للغات عديدة وتتلمذ عليها أعداد كبيرة من أبناء الأمة وأنا من بينهم.

إن الشيخ راشد الغنوشي – فك الله أسره – من أعمدة الفكر الإسلامي المستنير في هذا العصر وقضى حياته في خدمة الإسلام وشعبه والأمة الإسلامية وقدم منظومته، الفكرية عن الحريات وعن حقوق الإنسان في النظام الإسلامي وفي التاريخ الإسلامي نافح ودافع عنها، وأعلى من مكانتها واقتحم بها في عالم الفكر والثقافة والحضارة منابر عالمية ودخلها من أوسع أبوابها، وساهم مساهمة كبيرة وثرية في اعتزاز المسلمين بقيمهم، وحضارتهم وثقافتهم على المستوى الإنساني، وهو الآن يمر بسنة الله في الابتلاء. وبعد كل محنة منحة من الله تعالى، وكأنني به يقول: وما يفعل أعدائي بي وجنتي في قلبي، وسجني خلوة، وموتي شهادة.

وإن الشيخ راشد في شخصيته التي أعرفها بعض من التصوف السني، ففيه زهد وورع كبيرين، وهو مستوعب لفقه القدوم على الله، وله حال في قراءة القرآن بصوته الشجي، والتأمل في القراءة القرآنية، وتأنّيه في الركوع والسجود، وهذا يعرفه من لازمه أو سافر معه أو أتيحت له فرصة للاستماع له، عند السماع منه في هذه القضايا.

إن من أمثال الشيخ راشد ممن تعرضوا للسجون والابتلاء في سبيل الله يعرفون معرفة راسخة بأن الخير فينا اختاره الله، ويتدبرون ويتأملون قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(٢٢) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(٢٣)} [الحديد: 22-23].

كما أننا في تاريخنا الإسلام نجد الدروس والعبر والاتعاظ ممن سبقنا:

– فيوسف (عليه السلام) سُجن وخرج عزيزاً ممكناً له من الله عز وجل.

– وأبو حنيفة مات في سجن أبو جعفر المنصور، واليوم شعوباً أصبح فقهه مرجعية لها، كالشعب التركي والأفغاني والباكستاني وغيرهم.

– وابن تيمية – رحمهم الله جميعاً – مات في السجن وكانت كتبه بعد ذلك ممنوعة والآن أصبحت في كل مكان وإذا دخلت عالم المواقع الالكترونية تجده بأفكاره وآرائه، وفتاويه كأنه حي، وهو حقاً حيٌّ بعمله وتراثه النافع، وتأثيره في أبناء جيله والأجيال القادمة بإذن الله.

إن تجربة شيخنا الكبير الأستاذ راشد الغنوشي العلمية والعملية لا يمكن سجنها ولا القضاء عليها – بإذن الله تعالى – فقد أصبحت عابرة للقارات في جيلنا، ولا نشك في رحمة ربنا وفضله وعطائه بأن تكون له صدقة جارية بعد طول عمر وحسن عمل، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له”. وإن شاء الله الثلاثة متوفرة في شيخنا الغنوشي (فرج الله عنه).

وإننا نسأل الله في هذه الأيام المباركة من ذي الحجة، أن يفرج عن أستاذنا العزيز وجميع المسجونين المظلومين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يُطيل عمره في رضاه وعزته وتوفيقه وتأييده تبارك وتعالى.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. علي الصلابي

مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي ليبي

اترك تعليقاً