الفيدرالية واللامركزية وثقافة عنز ولو طارت

الفيدرالية واللامركزية وثقافة عنز ولو طارت

يقال ان مجموعة من الاصدقاء جالسين في الخلاء يحتسون الشاى (الشاهي بالليبي), وكان قريب عليهم بير, المهم وهم جالسين ويشربون الشاهي, انزلت بومة بالقرب منهم, واحد منهم قال شوفوا البومة … واتفقوا كلهم علي انها بومة الا واحد منهم ناض وقال لا والله هذه عنز مش بومة. قعدوا يقولوله يا راجل هدي اللعب هذه بومة وليست عنز, المهم صاحبهم هضا سكر راسه. قالوله خلاااص توا يمشي صاحبنا ويطيرها بيش تقتنع, وذهب احد الاصحاب وطارت البومة, قالوا له ايش رايك توا؟ فنظر اليهم وقال .. والله عنز ولو طارت!

كنت اتحدث مع اثنين من الاصدقاء علي موضوع الفيدرالية واللامركزية, وكان احدهم ضد الفيدرالية والاخر مع الفيدرالية. ويطول الحديث في هذا الموضوع, واخذ كل واحد منهم يبرر وجهة نظره ويقدم الحجج, ولم تكن هناك اي بوادر اتفاق بينهم علي الموضوع. وكنت مشترك في الحديث والي حد كبير محايد بين الطرفين, فسئلت سؤال للاثنين … هل انت مع اللامركزية الدستورية ام لا؟ رفض الفيدرالي اللامركزية الدستورية, وقبل معارض الفيدرالية باللامركزية الدستورية. وقبل ان تستمروا في قراءة المقال ياريت تسئلوا انفسكم نفس السؤال وتجابوا عليه وبعدها تستمروا في قراءة المقال.

وهنا تلاحظ ان الكثير من الجدال القائم عن الفيدرالية واللامركزية مغلوط وغير ناضج وتم تفريغه من محتواه, من قبل الطرفين الداعم للفيدرالية والمناهض للفيدرالية. واللؤم هنا يقع علي المثقفين واصحاب الطموحات السياسية الذين يخرجون علي الشاشات لتعبئية الشارع الليبي بمعلومات مغلوطة وغير مسؤولة تؤدي الي المزيد من الارتباك في المشهد السياسي الليبي. وهذا ينطبق علي الطرفين.

اللامركزية الدستورية في نظريات العلوم السياسية وانظمة الحكم هي نظام حكم فيدرالي. حيث تملك الحكومة المحلية سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية. وخصائص اللامركزية الدستورية تعني توزيع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية دستوريا بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية، وذلك بإتباع إحدى الطرق الثلاثة الآتية، أولا / ينص في الدستور على مهام الحكومة المركزية، وما تبقى دون تنصيص يكون من مهام الحكومات المحلية، ثانيا / ينص في الدستور علي مهام الحكومات المحلية، وما لم ينص عليه يكون من اختصاصات الحكومة المركزية، ثالثا / ينص في الدستور على اختصاصات كل من الحكومة المركزية والحكومات المحلية .

اعلنت الحكومة والمجلس مؤخرا عن خطة متكاملة لنظام لا مركزي ليكون اساس للحكم في ليبيا. لكن يجب ان يكون هذا الهيكل اللامركزي مكفول بالدستور وليس فقط قرار صادر عن حكومة او اي هيئة تنفيذية او تشريعية. علي سبيل المثال قامت الدكتورة فاطمة الحمروش وزيرة الصحة (ابنة بنغازي) باغلاق المكتب الصحي التابع للوزارة في بنغازي علي الرغم من معارضة اغلب القطاع الصحي في المدينة. لكن الوزيرة لم تكترث للمعارضة وانما اتخذت القرار بذلك لان هذا التصرف يدخل تحت صلاحياتها كوزيرة للصحة. لذلك اي قرار باللامركزية صادر عن اي حكومة قد يتم التراجع عنه من اي حكومة جديدة, لان هذه الحكومة قد ترى ان هذا هو القرار الصائب علي الرغم من المعارضة المحلية لمثل هذه القرارات. لذلك يجب ان يتم حماية حقوق وسلطات الحكومة المحلية والمركزية في الدستور, وفي حالة تعدي واحدة علي الاخرى يكون الفاصل في ذلك المحكمة الدستورية.

الاهمية الاخرى في اللامركزية الدستورية وتوزيع السلطات والصلاحيات في الدستور هي التشجيع علي الملكية المحلية, وتشجيع المشاركة السياسية من المواطن علي المستوى المحلي. لانه في حالة تمركز النشاط السياسي في العاصمة فقط, تصبح احد متطلبات المشاركة في العمل السياسي والنشاط السياسي ان تنتقل الي مركز النشاط السياسي في هذه العاصمة. لذلك يجب ان يتم توزيع السلطة والصلاحيات بحيث يصبح العمل في الحكومة المحلية اكثر جاذبية للمواطن العادي علي المستوى المحلي. وبذلك يدرك الناشط السياسي انه لا يحتاج للسفر او الانتقال للعاصمة من اجل ممارسة العمل السياسي الذي يخدم به ابناء مدينته ووطنه.

يجب ان تكون لدى الحكومة المحلية والمسؤل السياسي في الحكومة المحلية القدرة علي تحقيق متطلبات ابناء مدينته او منطقته الادارية. علي سبيل المثال اكتشف احد ابناء مدينة طبرق جهاز لتحليل فصيلة الدم بطريقة اسرع مما هو متعارف عليه في العالم, وتم تسجيل الاختراع باسمه في اوروبا وبريطانيا, وللاسف ان هذا حدث تحت النظام السابق وكان الرد بالطبع هو الاعتقال والتحقيق معه. لكن في المستقبل تحتاج الحكومة المحلية في طبرق او اي مدينة اخرى في ليبيا للسلطات والموارد بحيث تكون قادرة علي الاهتمام بمثل هذه الاختراعات وتشجيعها وتحويلها الي مشاريع تجارية, ويكون للحكومة المحلية في ذلك استقلالية كاملة للرقى بالنشاط العلمي والاقتصادي لابناء المدينة. وبذلك لا يحتاج اي مواطن في اي مدينة من المدن الليبية الي السفر للعاصمة للحصول علي الدعم المطلوب وانما يقوم بذلك بالنيابة عنه وفي مدينته الحكومة المحلية التي تمثله والتي انتخبها من اجل ان تمثله.

صرح مصطفي عبدالجليل في احدى المقابلات التلفزيونية بان المنطقة الشرقية تنقصها الكفاءات مقارنة بالمنقطة الغربية. وقد تكون هناك الكثير من المصداقية في هذا التصريح, ولكن الافضل لنا ان ندرس مثل هذه الاشكاليات ونعالجها بشكل مباشر وجذري. لقد تم تهميش كل ليبيا تحت النظام السابق, ولكن التهميش كان بمستويات مختلفة. فعلي سبيل المثال علي مستوى البعثات الدراسية للخارج كان حق المنطقة الشرقية مهضوم الي ابعد الحدود مقارنة بباقي المناطق في ليبيا, والفاصل هنا لاظهار الحقيقة هو ان تقوم لجنة مختصة بدراسة سياسة البعثات والقرارات الصادرة تحت النظام السابق. وهنا يجب ان تكون لكل المناطق في ليبيا القدرة علي التخطيط والتطوير من قدرات ابناءها بما يتناسب مع احتياجتها وبالتنسيق مع الحكومة المركزية. ولكي تكون هناك كفاءات علي المستوى المحلي يجب ان يتم تشجيع ابناء كل المناطق علي العمل في المجال السياسي وادارات الدولة وتوفير فرص التطوير للموارد البشرية علي المستوى المحلي وبما يتماشى مع متطلبات كل منطقة. لانه في حالة تمركز النشاط السياسي واغلب الانشطة الاخرى في مكان واحد فستكون هناك هجرة وتمركز لكل الكفاءات والعقول من كافة المناطق الليبية الي العاصمة طرابلس, وبذلك تصبح هذه المناطق بدون كفاءات وبدون خبرات لادارة شؤونها. وهنا يجب ان يتم تفعيل توزيع السلطة بشكل واضح وشفاف وبما يكفله الدستور الليبي, حتي يشعر المواطن الليبي باهمية مشاركته السياسية والاجتماعية والاقتصادية علي المستوى المحلي.

يجب ان تكون هناك صلاحيات للحكومة المحلية بحيث تتصدى لظاهرة البطالة وذلك بخلق فرص عمل تتمثل في القدرة علي جذب الاستثمارات واقامة المشاريع المختلفة علي المستوى المحلي, وتشجيع رجال الاعمال واصحاب المشاريع علي التوسع في استثمارتهم واقامة مشاريع اخرى. كذلك تشجيع طلاب وخريجي الجامعات علي اقامة المشاريع الصغيرة في مجال تخصصاتهم من اجل الرقى بالمجتمع ككل والارتقاء بالمستوى المعيشي لكافة المدن الليبية. ما لم تكن هناك سلطات محلية مكفولة لتحقيق هذه التطلعات بالتنسيق والتعاون مع الحكومة المركزية فان النتيجة ستكون هجرة لمركز السلطة ومركز النشاط الصناعي والاداري والاقتصادي, وهذا لن يخدم مصلحة الشعب الليبي كما هو مطلوب.

الفصل في السلطات وتوزيع السلطة يجب ان يحدد بشكل واضح في كل مجالات وقطاعات الدولة بحيث تشمل التعليم, والصحة, والامن, والصناعة والبحث العلمي, الفنون والعلوم الانسانية …. الخ. حتي تكون هناك ملكية محلية للقرارات التي تهم المواطن علي المستوى المحلي, ويشعر المواطن باهمية مشاركته في الانشطة المختلفة علي المستوى المحلي, وبذلك ينتهي التهميش وتكون فرص المواطنيين الليبين في كل المدن متكافئة.

يجب علي المثقفين عدم التهجم علي بعض, او محاولة تظليل المواطن الليبي البسيط بشكل مقصود لاسباب شخصية او سياسية .. الخ او بشكل غير مقصود احيانا اخرى. يجب ان ينضج النقاش في هذا الموضوع لمعالجة كافة القضايا المتعلقة بنظام الحكم في ليبيا الجديدة بما يخدم مصلحة المواطن الليبي. وهذا لن يحدث في ظل الهجمة والهجمة المضادة والاتهامات والتخوين والانجرار وراء صدامات لا تخدم مصلحة احد, بل تزيد من تفتيت الشارع الليبي وتأجيج الفرقة بما يخدم اجندات التقسيم والاستهداف الخفى لوحدة ليبيا. اتمنى من الجميع في ليبيا الابتعاد عن سياسة (عنز ولو طارت) والاتجاه نحو حوار ونقاش سياسي ناضج لمعالجة كافة المشاكل والعراقيل التي تواجه كل ابناء ليبيا في جميع انحاء البلاد.

————————————————–

للتواصل مع الكاتب:

البريد الإلكتروني: M.Eljarh@yahoo.co.uk

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً