تجدد النقاش حول رفع الدعم على المحروقات وخاصة البنزين

تجدد النقاش حول رفع الدعم على المحروقات وخاصة البنزين

ا.د. عمر زرموح

أستاذ الاقتصاد بالأكاديمية الليبية

[1] مقدمة

منذ سنوات قد لا تقل عن 15 سنة، كان النقاش ولا يزال يثار بين الحين والآخر حول رفع الدعم السلعي بوجه عام ودعم المحروقات بوجه خاص. وبالتركيز على سعر البنزين يلاحظ أنه في معظم الحالات إن لم يكن كلها تكون النتيجة التي تعقب النقاش فيما هي الإبقاء على السعر الحالي للتر البنزين وهو (0.15 د.ل.) وحتى عندما تقرر، يوماً ما، زيادة هذا السعر إلى (0.20 د.ل) فإن هذه الزيادة قد ألغيت وأعيد السعر إلى مستواه (0.15 د.ل) وكأن هذا السعر وارد في التنزيل لا يجوز المساس به.

وفي هذه المقالة سنلقي بعض الضوء على هذا السعر الجامد من خلال تقييمه بالدولار كما سنلقي نظرة على أسعار البنزين في الدول الأخرى وفي دول الجوار لغرض المقارنة وإبراز ظاهرة التهريب المرتبطة به ثم نقدم مقترحاً للمرحلة الأولى للحل الذي أزعم أنه أفضل الحلول حالياً وأختم هذه المقالة ببعض الانتقادات المحتملة والردود عليها.

[2] ماذا يعني سعر البنزين 0.15 د.ل؟

هذا السعر يعادل 11.4 سنت عندما كانت قيمة الدينار (0.5175 وحدة حقوق سحب خاصة) ويناظر ذلك أن سعر صرف الدولار حوالي 1.32 د.ل. كما في عام 2013 ومطلع عام 2014 ثم انخفض سعر البنزين قليلاً ليعادل 10.7 سنت عندما وصل الدولار تقريباً إلى 1.40 د.ل. رغم ثبات قيمة الدينار بوحدة حقوق السحب الخاصة وثبات سعر البنزين حلياً.

إذا استمر هذا الوضع بهذا الشكل إلى الآن لكنا ربما نناقش اليوم كيف ومدى إمكانية زيادة سعر البنزين ليصبح أكثر من 11 سنت وليكن مثلاً 16 أو حتى 20 سنت ولن يكلف ذلك كثيراً من العناء فالسعر 20 سنت يعادل 0.28 د.ل. إذا كان سعر الدولار 1.40 د.ل. ويعادل 0.26 د.ل. إذا كان سعر الدولار 1.30 د.ل. ففي كل الحالات نظل قريبين من الهدف وهو الوصول إلى سعر توازني للبنزين يستجيب لحاجات الأفراد والمؤسسات دون أن يثقل عليهم ولا يستجيب لرغبات المهربين والطامعين. لكن هذا الكلام أضحى حلماً ولم يعد قابلاً للتطبيق وهناك سببان أو عاملان رئيسان في ذلك هما:

(أ) إغلاقات النفط التي بدأت منذ أواخر عام 2013 وتكررت مراراً ولازال هذا العبث مستمراً.

(ب) الحروب التي بدأت نحو منتصف سنة 2014 واستمرت وانتشرت رقعتها، ورغم أنها توقفت في سنة 2020 إلا أنه لا يوجد أي ضامن لعدم تكررها.

لقد نجم عن هذين العاملين ارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم وصلت إلى 26% في عامي 2016، 2017 وتدهور القدرة الإنتاجية للقطاعات الاقتصادية وتدهور احتياطيات النقد الأجنبي التي كانت تسند القيمة التعادلية للدينار الليبي فانتشرت منذ عام 2014 السوق السوداء للنقد الأجنبي وضعفت قيمة الدينار إلى أن جاء يوم 16/12/2020 ليشهد تخفيضاً رسمياً مأساوياً في قيمة الدينار بنسبة 70% لتصبح قيمته (0.1555 وحدة حقوق سحب خاصة) ويصبح سعر صرف الدولار يساوي 4.48 د.ل. تقريباً وأما الآن (13/01/2024) فسعر صرف الدولار لدى المصرف المركزي (4.81 د.ل.) وبذلك انخفض سعر البنزين ليعادل 3.31 سنت (0.15÷4.81=3.1).

إن الدرس المستفاد من العاملين (أ)، (ب) المذكورين هو أنهما كانا، بالإضافة إلى ما ذكر آنفاً، مشجعين للمهربين ليتزايد نشاطهم لتهريب المحروقات (وأيضاً غير المحروقات) فبدلاً من السعر السابق للبنزين وهو 10.7 سنت أصبح 3.1 سنت فقط. وهذا يضع عبئاً كبيراً على كاهل الدولة في مواجهة هذه المشكلة فهي الآن غير قادرة على الوصول حتى إلى سعر 10.7 سنت الذي كان متاحاً لها فكيف يمكن التفكير في سعر أعلى من ذلك؟ إن متخذي القرارات عندما اتخذوا قراراً يتخفيض قيمة الدينار ربما لم يفكروا في أن هذا يتعارض مع مبدأ مكافحة التهريب!!!.

والخلاصة من هذا البند هي أنه يمكن القول أن البنزين في ليبيا أصبح الآن يوزع مجاناً وأن السعر الذي يدفع ما هو إلا سعر رمزي لا يمكن التعويل عليه في تغطية نسبة تستحق الذكر من التكلفة.

[3] هل ليبيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي سعر البنزين فيها 3.1 سنت؟

ليبيا ليست هي الدولة الوحيدة في العالم التي يتمتع شعبها بمثل هذا السعر الرخيص للمحروقات عموماً والبنزين خصوصاً بل هي ثاني أرخص دولة في سعر البنزين حيث تشير البيانات المنشورة عالمياً عن أسعار البنزين في مطلع هذا العام 2024 إن ليبيا في هذه المرتبة الثانية بعد إيران وقبل فنزويلا وذلك كالآتي (السعر بالسنت):

(1) إيران 2.9                (2)  ليبيا  3.1               (3) فنزويلا  3.5

وفي المقابل نجد أن معظم الدول تتجاوز هذه الأسعار الرمزية بأضعاف مضاعفة، وعلى سبيل المثال نجد أن سعر لتر البنزين بالسنت في ثلاث من دول الجوار كالآتي:

(1) الجزائر 34.2          (2) مصر  40.3            (3) تونس  82.4

أي أن سعر البنزين في الجزائر، مصر، تونس يعادل، بالترتيب، نحو 11، 13، 27 ضعف سعره في ليبيا. وأما أغلى سعر للبنزين في العالم فهو في هونج كونج حيث وصل إلى 3.1 دولار أي ما يعادل 100 ضعف سعره في ليبيا.

والخلاصة هي أن سعر البنزين في معظم دول العالم بما فيها دول الجوار يعادل أضعافاً مضاعفة سعره في ليبيا، ورغم تفهمنا لوضع الاقتصاد الليبي وافتقاره لبدائل وسائل النقل إلا أن إبقاء الوضع على ما هو عليه لا يمكن تبريره بمصلحة الاقتصاد الليبي، ومن وجهة نظري يجب تحريك المياه الراكدة ولو شيئاً قليلاً كما سيأتي في هذه المقالة.

[4] مشكلة التهريب

إن المشكلة التي تهم ليبيا هي تلك الفروقات الكبيرة في أسعار البنزين بينها وبين دول الجوار بالذات حيث تؤدي هذه الفروقات الكبيرة إلى تزايد نشاط المهربين للبنزين مستفيدين من الفرق الكبير في السعر.

ورغم أن ظاهرة التهريب هذه ليست جديدة بل كانت معروفة منذ أكثر من 30 سنة إلا أنها بالتأكيد قد تفاقمت في السنوات الأخيرة بعد تخفيض قيمة الدينار الليبي. لذلك فإنه من غير المقبول اقتصادياً الإبقاء على الوضع الحالي كما هو ولابد من اتخاذ إجراءات صارمة لأجل حماية ثروات وأموال الشعب الليبي. وقد نحتاج إلى تنفيذ برنامج بهذا الخصوص على مراحل.

[5] مقترح تنفيذ المرحلة الأولى لبرنامج رفع الدعم

إن عملية رفع الدعم لا يمكن أن تنفذ بجرة قلم لما لذلك من النتائج والتبعات الخطيرة ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بل يجب أن يتحقق رفع الدعم وفق إرادة صادقة قوية ووفق برنامج زمني ينفذ على مراحل. وفيما يلي أقترح أن يكون تنفيذ المرحلة الأولى لهذا البرنامج كالآتي:

أولاً: التصدي بحزم لجريمة تهريب البنزين، بل وكل السلع، باستخدام حرس الحدود والطيران المسير وكل وسائل المراقبة والحماية مع جلب المهربين للعدالة. هذه النقطة حاسمة جداً والفشل فيها فشل في البرنامج برمته.

ثانياً: رفع سعر البنزين من 150 درهماً إلى 250 درهماً وهي تعادل زيادته (حسب سعر الصرف الحالي) من 3.1 سنت إلى 5.2 سنت. وهذه الزيادة وإن كانت تمثل نسبة 67% التي تبدو عالية بالمعايير الاقتصادية إلا أني أتبناها بالنظر إلى الارتفاع المشار إليه أعلاه في معدلات التضخم وفي أسعار صرف النقد الأجنبي، وبالنظر إلى ما صاحب ذلك من زيادات في المرتبات (وإن كانت لم تشمل كل شرائح العاملين في الدولة). وذلك لتحريك سعر البنزين تدريجياً نحو نقطة التوازن. ورغم أن التحرك الجزئي هذا نحو نقطة التوازن لا يمنع التهريب لأن الفارق السعري لايزال كبيراً، إلا أنه من الضروري أن نبدأ به مع وجوب الاستمرار بحزم في النقطة (أولاً) وهي مراقبة وحماية الحدود والقبض على العابثين وإحضارهم للعدالة.

ثالثاً: إعطاء مهلة ملائمة لتقييم أثر الزيادة المقترحة في (ثانياً) على المتغيرات الاقتصادية المختلفة وخاصة على التكلفة والأسعار ومدى قدرة السياسات الاقتصادية على امتصاص الآثار السيئة لهذه الزيادة، وهي آثار ستكون في تقديري تحت السيطرة في إطار من خلال السياسات الاقتصادية الرشيدة. وبالتوازي يتعين استهداف السياسات الاقتصادية لتشجيع الاستثمار في وسائل النقل وبناء الطرق والجسور والسكك الحديدية في كل أنحاء ليبيا لخلق بدائل مواصلات وفي هذا السياق أنصح بالاستثمار عن طريق ما يعرف بنظام B.O.T وهو نظام أثبت نجاحه في العديد من الدول النامية. والخلاصة إن النجاح في زيادة الناتج المحلي الإجمالي بشقيه النفطي وغير النفطي والنجاح في ترشيد الإنفاق العام وقدرة المصرف المركزي على إدارة السياسة النقدية إدارة جيدة من خلال السيطرة على عرض النقود  وقدرته على خلق درجة عالية من الاستقرار في سعر الصرف بعيداً عن سياسات ردود الأفعال كلها عوامل تؤدي إلى كبح التضخم وتعزيز قيمة الدينار الليبي ومن ثم كبح تهريب البنزين دون حاجة لزيادة سعره بالدينار الليبي زيادة كبيرة كما قد يتصور بعض المتحدثين في وسائل التواصل الاجتماعي.

رابعاً: أتبنى موقف أن ((الدعم للفقراء ولا دعم للأغنياء)) لذلك أقترح أن تعتمد الدولة لعام 2024 مبلغ 1000 د.ل. (ألف دينار) كنقطة على خط الفقر للعائلة المكونة من شخصين، 1500 د.ل. (ألف وخمسمائة دينار) للعائلة المكونة من ثلاثة أشخاص، 2000 د.ل. للعائلة المكونة من أربعة أشخاص فأكثر بحيث تضمن الدولة تكملة هذه المبالغ لمن كانت دخولهم أقل منها حسب إقرار يوقع عليه المستفيدون ويسألون عن أي تغير فيه يحصل مستقبلاً. إن هذا المبدأ لا يتعارض، كما يظن البعض، مع حقوق المواطنة لأن على المواطن واجب تمويل الموازنة العامة للدولة من خلال التزامه بدفع أقساط الضرائب وفق الشريحة التي يصل إليها دخله وبالنسبة للشريحة الأولى فوق خط الفقر يجب أن تكون معفاة من الضريبة وأما الشريحة التي تقع تحت خط الفقر فالدولة تدفع لها إعانة subsidy أي ضريبة سالبة. إن هذا هو الأسلوب المتعارف عليه في معظم الدول وليبيا ليست استثناء وهو نظام ثابت ومتماسك ودائم وليس مرتبطاً بفترة زمنية معينة وينقضي كما يتصور من يقولون بأسلوب ((استبدال الدعم)) وهو الأسلوب الذي لا يستند إلى أي أساس علمي.

[6] انتقادات محتملة والردود عليها

قد توجه لهذا البرنامج المقترح جملة من الانتقادات رددت على بعضها ضمنياً في المتن وسأذكر ثلاثة انتقادات أخرى كالآتي:

1- قد يتساءل البعض لماذا لم يقترح زيادة سعر البنزين إلى 4.00 د.ل. أو 3.50 د.ل. لإنهاء ظاهرة التهريب دفعة واحدة والرد على ذلك أن هذا عمل لا يمكن أن تتبناه أي سياسة اقتصادية رشيدة للأسباب الآتية:

  • إن مثل هذه الزيادة الكبيرة لا نحتاجها لمنع التهريب ذلك أن أقل من سعر 3.00 د.ل, سوف يمنع التهريب إلى كل من تونس وتشاد لأنه سعر يجعل التهريب غير ذي جدوى من وجهة نظر المهربين، وأن أقل من سعر 60 د.ل. سوف يمنع التهريب إلى كل من مصر والجزائر لنفس السبب. إن وضع سعر 4.00 د.ل أو 3.50 د.ل هو تزيد لا مبرر له من الناحية الاقتصادية لأنه يغفل التكلفة التي يتحملها المهرب وهي ليست تكلفة نقل فقط بل تكلفة تهريب أيضاً بما فيها المخاطر التي يحتمل أن يتعرض لها في مواجهة حرس الحدود.
  • إن مثل هذه الزيادة الكبيرة قد تولد آثاراً اقتصادية سيئة تخرج عن السيطرة مصدرها أولئك المتضررون من مثل تلك الزيادة الكبيرة وربما يصعب إيجاد السياسات الاقتصادية الناجعة لامتصاص تلك الآثار، كما يصبح، من جهة أخرى، التراجع عن تلك الأسعار الكبيرة هو الفشل بعينه.
  • وبوجه عام فإن المبدأ الاقتصادي في التدرج في إحداث التغييرات الاقتصادية هو المبدأ الصحيح وهو المبدأ العقلاني الذي يجب أن تتبناه السياسة الاقتصادية الرشيدة في كل المجالات.

2- قد يتساءل البعض عن المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة ومتى نتوقف؟ والإجابة عن ذلك هي أن المرحلة الثانية تأتي بعد تنفيذ وتقييم المرحلة الأولى والعبرة بالنتائج في الواقع وليس بالكلام النظري. أما متى نتوقف فالإجابة مرتبطة بالإنجاز أي بالنجاحات في تنفيذ كل مرحلة وبذلك نتوقف عندما يصل سعر البنزين إلى مستواه التوازني المشار إليه في المتن وليس بالضرورة أن يكون السعر التوازني ذلك السعر المرتفع الذي يهوله البعض مثل 4.00 د.ل. أو حتى 3.00 د.ل. بل قد يكون أقل من ذلك بكثير إذا تحققت نجاحات في السيطرة على التضخم وتعزيز قيمة الدينار أي إذا أمكن تنفيذ عكس ما حصل خلال السنوات 2014-2020 ورغم قناعتي بصعوبة ذلك إلا أن موارد ليبيا إذا أحسن استخدامها قادرة على تحقيق ما لا نتوقع.

3- قد يرى البعض أن هذا البرنامج غير ملائم للوضع السياسي الهش في ليبيا حالياً، فمن الناحية السياسية يصعب التوافق على اتخاذ مثل هذه القرارات. ورغم وجاهة هذا الانتقاد وخاصة بالنظر إلى ما نراه من مماحكات سياسية وردود أفعال لا تقوم على أساس مصلحة الوطن الأمر الذي قد تظهر معه بعض المواقف التي تقوض أي برنامج للإصلاح الاقتصادي، إلا أني أتعشم في المخلصين من أبناء الوطن ألا يقفوا متفرجين على سرقة ونهب ثروات وأموال بلادهم، وأتعشم أن يبذل كل مسئول جهده في نطاق سلطاته الإدارية من أجل تحريك الماء الراكد بقول كلمة (لا) لسرقة البنزين، (لا) لسرقة ثروات النفط، (لا) لنهب أموال الدولة، لتسجل لهم في التاريخ بمداد من ذهب.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. عمر زرموح

أستاذ الاقتصاد بالأكاديمية الليبية

اترك تعليقاً