توضيح وبيان حول موقفي من الدعوة لاستئناف الشرعية الدستورية

توضيح وبيان حول موقفي من الدعوة لاستئناف الشرعية الدستورية

اطلعت على بعض الكتابات والتعليقات التي تناولت تعبيري عن موقفي المؤيد لفكرة ومبادرة استئناف الشرعية الدستورية. وقد انطلقت هذه التعليقات من فهم خاطئ للمبادرة التي ساهمت في صياغتها وإطلاقها والدعوة إليها، وهي التي سميناها (المبادرة الوطنية لعودة الشرعية الدستورية)، فقد ظن كاتبو هذه التعليقات أننا ندعو في هذه المبادرة إلى العودة لتبني دستور دولة الاستقلال في صيغته الأولى (أي سنة 1951)، وهو الدستور القائم على شكل الدولة الاتحادية (الفدرالية)، وفق تقسيم البلاد إلى ثلاث ولايات هي: طرابلس وبرقة وفزان، ثم بنوا على هذا الفهم هجمة عنيفة ضدي، تتهمني بأني متقلب في مواقفي، وأني عدت إلى تأييد النظام الفدرالي، بعد أن اشتهرت برفضه رفضاً قاطعاً حاسماً، وكتبت ما كتبت، وقلت ما قلت في التعبير عن ذلك الموقف.

وبسبب اشتداد الهجمة المبنية على هذا الفهم الخاطئ، وجدت أن من حقي وحق كل من يقرأ لي أو يتابع أحاديثي في وسائل الإعلام، أن أضع حداً لهذا الأمر، بتأكيد أني ما زلت عند رفضي أي تقسيم للبلاد إلى أقاليم، وخاصة تلك التقسيمة الثلاثية إلى ولايات برقة وطرابلس وفزان، وأني ما زلت أومن بليبيا الموحدة، دولة لكل أبنائها على كل شبر من ترابها، دون أي تفرقة بينهم على أساس انتمائهم الجهوي.

ومن هنا فإني حريص على إزالة سوء الفهم الذي حدث لدى البعض من قراءة موقفي المؤيد والداعم للمبادرة الوطنية لعودة الشرعية، فهذه المبادرة تتحدث بكل وضوح ودقة عن الشرعية الدستورية التي كان يقوم عليها الحكم حتى نهاية يوم 31 أغسطس عام 1969. ومن ثم هي دعوة لاستئناف العمل بالدستور الذي كان نافذا آنذاك، وهو دستور الاستقلال (51) المعدل في (63) في اتجاه تبني شكل الدولة الموحدة، وتحولت ليبيا بمقتضاه من (المملكة الليبية المتحدة) إلى (المملكة الليبية).

وقد أوضحت في أكثر من مناسبة أن دعوتنا هذه لا يصح اختزالها وتسطيحها في أنها دعوة للعودة إلى النظام الملكي، فالخيار في هذا الشأن من صلب حقوق الشعب الليبي، الذي يحق له وحده أن يختار نظام الحكم الذي يريده: ملكياً، جمهورياً/برلمانيا، رئاسياً…أو غير ذلك.

لقد تحدثت عن هذه المبادرة وأيدتها ودعوت لتأييدها منطلقاً من القناعة بأننا انتهينا إلى مأزق سياسي تاريخي، وأن المنظور أمامنا من مسار نحو انتخاب لجنة لصياغة الدستور، وفق قانون الانتخاب الذي تم إقراره، وفي ظل المعطيات الرديئة على الأرض، لا يوحي بأننا يمكن أن نصل إلى صيغة تخرجنا من حالة التأزم التي نعيشها. ومن هنا طرحت على النظر فكرة أن العودة لاستئناف الحياة الدستورية وفق الدستور الذي كان نافذاً في آخر العهد الملكي ربما تكون كفيلة بأن تتيح لنا رؤية جديدة لملامح خارطة طريق مختلفة، نتفق على تبنيها لنسير وفقها في مرحلة انتقالية أخرى، نعيد خلالها ترتيب أوضاعنا وتحديد أولوياتنا، بما يكفل إيجاد السبل الناجعة لمواجهة العقبات والعراقيل التي ظلت تحول دون تمكننا من وضع الأسس اللازمة لبناء الدولة ومؤسساتها، فنضع علاج المسألة الأمنية على رأس سلم الأولويات، ونشرع في اتخاذ ما يلزم من خطوات لإنجاز المصالحة الوطنية، ونضع حدوداً حاسمة لظاهرة الفساد وهدر أموال البلاد.

ونتحرك منذ البداية على أن نعطي أنفسنا مهلة تتراوح بين ثلاث وأربع سنوات، كحد أقصى، لإدارة حوار وطني حول ملامح الدستور الدائم الذي نتفق عليه، بدءاً من استفتاء الشعب حول خياره بخصوص نظام الحكم، ثم وضع الآليات اللازمة لصياغة الدستور، وفق ما تسفر عنه نتيجة الاستفتاء، وما ينتج عن الحوار الوطني بخصوص مختلف المسائل التي سوف نحتاج حولها إلى صيغ توافقية، ترضي مختلف الأطراف.

وقد جاء فيما ذكره بعض المنتقدين أن هذه المبادرة التي أدعو إليها، هي ذاتها المبادرة التي سبق أن حدثني بشأنها بعض النشطين والمهتمين، وأني قد رفضتها في السابق، ثم ها أنا ذا أبدل موقفي وأعود لأقبلها..

وأقول بهذا الخصوص أني لا أجد أي ضير في تغيير موقف لي، كنت اتخذته وأيدته، ثم تبين لي أنه خطأ، أو أن متغيرات الظروف والأحوال والمعطيات السياسية، لم تعد تسمح بوجوده على أرض الواقع..

وقد فعلت ذلك في عدة مواقف: ظللت فترة من أشد المؤيدين للمجلس الانتقالي، والمعارضين لانتقاده والدعوة لإسقاطه، ثم لما تبين لي في النهاية أن المجلس الانتقالي لم يعد صالحاً، وأن أداءه بات ينحدر إلى مستويات من الضعف والتخبط لم يعد ممكنا قبولها أو السكوت عليها، غيرت موقفي منه، ودعوت إلى التعجيل بالمضي نحو انتخابات المؤتمر الوطني، بأمل أن تفرز لنا الانتخابات مؤسسة مختلفة، تكون لها قوة الشرعية المستمدة من الاقتراع المباشر، وإرادة الشعب.

وقد كنت معارضاً أشد المعارضة للتعديل الأول الذي أحدثه المجلس الانتقالي على إحدى فقرات المادة (30) من الإعلان الدستوري، بالنص على تشكيل لجنة صياغة الدستور من (60) عضواً على غرار لجنة الستين التي وضعت دستور الاستقلال في سنة 1951، وذلك لرفضي أصلا فكرة العودة إلى تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم منفصلة، وقناعتي بأن هذا التقسيم فيه مجافاة للمعطيات السياسية والديمغرافية السائدة في البلاد. ولكني وجدت نفسي، تغليباً لما رأيت فيه مصلحة الوطن العليا، أتراجع عن هذا الرفض، وعبرت عن قبولي، ولو على مضض، بفكرة لجنة ستين لصياغة الدستور..

وقد كنت معارضاً للتعديل الثاني الذي وضع على الفقرة ذاتها من المادة (30) بجعل تشكيل تلك اللجنة يتم عن طريق الانتخاب، بدلا من التعيين.. ولكني إزاء ما بت أشاهده من تخبط المؤتمر الوطني وارتباكه، ووقوعه ضحية التصارع على السلطة، والتهديد الذي يمارس عليه من قبل الجماعات المسلحة، تراجعت عن موقفي المؤيد لتخويل المؤتمر صلاحية تعيين الأعضاء الستين للجنة صياغة الدستور، وبت أؤيد المضي قدما في  اتجاه جعل تشكيل تلك اللجنة يتم بطريق الانتخاب..

ثم أخذت أعمل مع كثير من المهتمين على صياغة قانون انتخاب ربما يكفل لنا الحصول على نتيجة معقولة، بضمان اختيار أفضل ستين شخصا من أقاليم ليبيا الثلاثة، وكنا نرى أن أفضل وسيلة لضمان تلك النتيجة هي تبني الانتخاب بنظام القائمة المغلقة، وتبني فكرة جعل كل إقليم من الأقاليم الثلاثة دائرة انتخابية واحدة، يتم التنافس فيها على عشرين مقعداً. ولكننا تابعنا كيف خضعت عملية صياغة القانون للمعطيات الرديئة ذاتها التي تتحكم في مسار وآليات اتخاذ القرار في المؤتمر الوطني، فأسفرت عن صياغة قانون رديء في تقديري بكل معنى الكلمة، لأنه في نظري لا يمكن أن يفرز لنا لجنة تتسم بالتجانس والتكامل في تمثيل أطياف وشرائح المجتمع ومكوناته، كما كنا نأمل من خلال نظام القائمة.

وهنا وجدت نفسي أتراجع عن موقفي السابق بخصوص لجنة صياغة الدستور، وأرفض المضي في تشكيلها بهذه الطريقة… لأني أحسب أن ذلك سوف يقودنا إلى تخويل هذه الأمانة التاريخية للجنة غير كفؤة وغير جديرة مطلقا بتحمل هذه المسؤولية. ومن ثم أخذت أتساءل عن إمكانية إيجاد مخرج أو بديل.. فكانت فكرة العودة إلى استئناف الحياة الدستورية وفق آخر ما انتهت إليه في يوم 31 أغسطس عام 1969. وهي فكرة تختلف تماماً عن الفكرة التي يدعو إليها أولئك الذين انتقدوا موقفي، من حيث إنهم يتحدثون عن العودة إلى دستور (51)، ويقصدون بوضوح وحسم العودة إلى النظام الفدرالي، الذي يقسم ليبيا إلى ولايات ثلاث.

وفي تقديمنا للمبادرة بهذا الخصوص قلنا إنها مجرد محاولة للبحث عن مخرج من المأزق الذي انتهت إليه البلاد، وأنها تصور لمرحلة انتقالية ثانية، تتيح لنا وضع خارطة طريق جديدة، نأمل أن تقودنا إلى الغاية المرجوة، وهي صياغة دستور دائم لبلادنا، نتوافق عليه جميعاً، ونتخذه قاعدة ومرجعية، لمختلف السياسات التي نضعها لبناء الدولة وقيادة حركتها نحو النمو والتقدم والازدهار..

وقد أوضحنا بما نرى فيه الكفاية أن المسألة أبعد وأعمق من مجرد دعوة للعودة إلى النظام الملكي، وأن ما يتعلق بنظام الحكم، ومثله أيضاً ما يتعلق بشكل الدولة ومرجعيتها التشريعية، سوف يبنى على ما تقرره إرادة الشعب، من خلال الاقتراع الحر المباشر.

وفي النهاية.. تظل هذه الأفكار والمبادرات اجتهادات شخصية لكل منا، مطروحة على النظر والحوار، من حق الآخرين أن يقبلوها أو يرفضوها، ثم نتفق على أن نحتكم بشأنها في النهاية إلى رأي الناس، فما تؤيده الأغلبية علينا أن نقبل به، ولو جاء بخلاف ما نؤمن به ونراه.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً