تونس: العصابات المنظمة تسرق قوت الضغفاء

العصابات المنظمة تسرق قوت الضغفاء
العصابات المنظمة تسرق قوت الضغفاء

 

أثارت انتفاضة أهالي الجنوب التونسي المحرومين من التنمية ما يمثله تزايد حدة الفوارق الاجتماعية من مخاطر، لا فقط على وحدة مجتمع كثيرا ما افتخر بتماسكه وتضامن فئاته بل على استقرار البلاد ونجاح التجربة الديمقراطية الناشئة والهشة، في وقت أظهرت فيه دراسات أن الفوارق الاجتماعية تعمقت بشكل حاد ومفزع خلال السنوات الأربع الماضية بعد أن ارتفعت نسبة الثراء الفاحش بـ18 في المئة فيما ارتفعت نسبة الفقر المدقع بنسبة 30 بالمئة، الأمر الذي نخر التوازن الاجتماعي ليقود إلى تضاريس اجتماعية جديدة تشكلت على أنقاض مفهوم “مجتمع الطبقة الوسطى” الذي راهنت عليه دولة الاستقلال منذ الستينات من القرن العشرين.

وألقى تزايد حدة الفوارق بين فئة الأثرياء أو ما يعرف في تونس بـ”المجتمع المخملي” وبين فئة الفقراء التي يطلق عليها “الشعب الكريم”، بظلالها على رؤية التونسيين لنوعية المشكلات التي تواجه المجتمع، حيث أظهر استطلاع للرأي أن 77 بالمئة من التونسيين يعتبرون الهوة بين الفقراء والأغنياء “مشكلة كبرى” تهدد استقرار البلاد و”تؤجج حقدا اجتماعيا” يعد أرضية خصبة للاضطرابات والانتفاضات والاحتجاجات.

وقال استطلاع للرأي أجراه مؤخرا “مركز بيو غلوبال” الأميركي إن “57 بالمئة من التونسيين يرون أن مستقبل أبناءهم على المستوى المادي سيكون أسوأ من وضعهم الحالي” باعتبار أن “سلم الارتقاء الاجتماعي” لم يعد مرتبطا بـ”العمل والكسب المشروع” وبـ”المساواة في الحظوظ”، وإنما مرتبط بعوامل أخرى أهمها “الربح السهل” و”انتهاز الفرص” و”الحظ”، حيث قال 59 بالمئة من التونسيين إن “الحظ” يعتبر “عنصرا أساسيا للارتقاء الاجتماعي من فئة إلى أخرى وللثراء”.

وتؤكد هذه البيانات أن التونسيين فقدوا الثقة في “المسالك المشروعة” لتحسين مستوى معيشتهم وباتوا أكثر اقتناعا بأن “كسب المال” و”الثراء” ليس مرتبطا بـ”العمل والجهد” وإنما هو مرتبط بـ”بظاهرة الفساد” التي استفحلت في البلاد منذ الإطاحة بنظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي في يناير/كانون الثاني 2010. كما تؤكد تدني ثقة التونسيين في الدولة، كراعية للتوازن الاجتماعي وحامية “للثراء المشروع” بعد أن تراجعت وظيفتها التعديلية وانتهجت سياسات “متوحشة” اقتصاديا زادت الفقراء فقرا والأثرياء ثراء إذ أرجع 49 بالمئة من التونسيين احتداد الفوارق الاجتماعية إلى “سياسات الحكومة”.

وتتطابق آراء التونسيين ومواقفهم مع ما يذهب إليه الخبراء الاقتصاديون الذين يؤكدون أن سياسات حكومة الائتلاف الثلاثي بقيادة حركة النهضة الإسلامية “ضربت وفي العمق ثقافة العمل والجهد كطريق لكسب المال المشروع وللثراء وفتحت البلاد أمام عقلية انتهازية دخيلة عن الثقافة التونسية وهي عقلية لا ترى طريقا للثراء أو للارتقاء في السلم الاجتماعي إلا عبر مختلف أشكال الفساد، من مضاربة في الأسواق وشبكات التهريب واقتناص الفرص والربح السهل الذي لا يخضع لأية رقابة ولا معايير ولا يتقيد بأية أخلاق”.

ويرى الخبير وأستاذ العلوم الاقتصادية بالجامعة التونسي أحمد الفريوي أن “ما شهدته تونس خلال السنوات الأربع من تفشي ثقافة الفساد المالي التي تشرع للكسب اللامشروع وتحتقر قيمة العمل والجهد لم تشهده منذ بناء دولة الاستقلال العام 1956 التي راهنت على الاستثمار في الموارد البشرية، في ظل ندرة الثروات الطبيعية، لبناء مجتمع متوازن تمثل الطبقة الوسطى عموده باستيعابها لأغلب الفئات فيما لا يمثل الأغنياء والفقراء سوى أقلية”.

ويضيف الفريوي “إن تراجع دور الدولة خلال السنوات الأربع الماضية وانسحابها شبه الكامل من السوق ومن المجتمع جعل من تونس فضاء اقتصاديا متوحشا، قويت فيه شوكة الفساد المالي بجميع إشكالها.. وإزاء ذلك الفراغ الناجم عن غياب الدولة استباحت شبكات نافذة وأشخاص أكثر نفاذا كل أخلاقيات الكسب المشروع الذي لا يتأتى إلا من خلال قيمة العمل، وتحولت تلك الشبكات إلى “دول” داخل الدولة، تحتكر موارد الثروات ومسالك الثراء لذلك ظهر مايمكن أن نسميه بـ”الأثرياء الجدد”، الذين اثروا ثراء فاحشا وفي فترة قصيرة لا فقط على حساب الفئات المتوسطة والفقيرة، وإنما أيضا على حساب الدولة بعدما رفضوا دفع الضرائب التي تعد المورد الأساسي للدولة”.

الأثرياء الجدد

بدت تونس خلال سنوات مابعد الثورة ساحة مفتوحة على مشهد اقتصادي شرس ومتوحش في حل من أي التزام باحترام القوانين، بل في حل من أية أخلاق كثيرا ما تؤطر مسالك الثراء، وتضفي عليها المشروعية الأدبية والاجتماعية، وتمثل حصنا منيعا ضد كسب المال الفاسد في مجتمع عربي مسلم يؤمن بقولة علي بن أبي طالب “ما جمع مال إلا من شح أو حرام”.

وشرعت السياسات الفاشلة التي انتهجتها حكومة الترويكا بقيادة حزب النهضة الأبواب أمام عصابات منظمة اخترقت كل الأسواق، ابتداء من قوت التونسيين من خضار ومواد غذائية أساسية إلى سوق التصدير والتوريد الذي يعد شريان الاقتصاد مرورا بسوق السيارات الفارهة. وبلغ الأمر إلى حد ظهور سوق الاتجار في السلاح الذي تحتكره مجموعات جهادية مرتبطة بشبكات الإرهاب إقليميا ودوليا.

فقد أظهر تقرير مؤسسة “ويلث إكس” السنغافورية المتخصصة في جمع المعلومات حول أثرياء العالم وتوزيع الثروة للعام 2013 أي بعد عامين على رحيل نظام بن علي أن عدد الأثرياء في تونس ارتفع بنسبة 16.2 بالمئة مقارنة بالعام 2012 ليبلغ عدد الأثرياء التونسيين الذين يملكون ثروات تفوق المليارات إلى 70 شخصا تقدر ثروتهم معا بـ9 مليار دولار (14 مليار دينار تونسي) أي ما يعادل 200 مليون دينار للشخص الواحد ما جعل تونس تحتل المرتبة السابعة من حيث مجموع الأثرياء في القارة الإفريقية والمرتبة الأولى ضمن بلدان المغرب العربي.

غير أن الخبراء الماليين يقولون إن النسبة العامة للأثرياء التونسيين ارتفعت خلال السنوات الأربع الماضية إلى حوالي 20 بالمئة لتستحوذ على حوالي 80 بالمئة من ثروات البلاد، في مجتمع تصل فيه نسبة الفقر في الجهات المحرومة وفي الأحياء الشعبية إلى 70 بالمئة، الأمر الذي يعد مؤشرا قويا على أن التونسيين لم يجنوا من سنوات الثروة سوى حالة عميقة من الفوارق الاجتماعية، في وقت كانوا ينتظرون فيه أن تقود ثورتهم إلى مجتمع أكثر توازنا بين فئاته من خلال تأمين الحد الأدنى من العدالة في تقاسم عائدات الخيرات.

ويرجع الخبراء هذا الارتفاع السريع لعدد الأثرياء في تونس مابعد الثروة إلى “فوضى الاقتصاد المتوحش المنفلت من أية ضوابط”، وهي فوضى انتشرت خلال السنوات الأخيرة نظرا لغياب المراقبة خاصة على الحدود التونسية الغربية مع الجزائرية والحدود الشرقية مع ليبيا.

ويرتبط “الأثرياء الجدد” بتنامي ظاهرة تهريب الأسلحة التي نشطت بكثافة خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب تهريب المخدرات والمنتجات الصينية، ومختلف المواد الاستهلاكية بما فيها المواد الغذائية.

ويعرف الخبير الاقتصادي معز الجودي “أثرياء تونس الجدد” بـ”أثرياء التهريب والإرهاب وتهريب السلاح والبضائع الذين تمعشوا من الثورة وضعف أجهزة الدولة الرقابية”.

ويشدد الجودي على أن “هناك مافيا كبرى تعمل في مجال المحروقات وغيرها ومليارات يتم استعمالها لتهريب السلع من الجزائر وليبيا ويستثمرون في تهريب السلع”، مفيدا أن “هذا الاقتصاد الموازي ينخر الاقتصاد الرسمي إضافة إلى أنه “يولد الإرهاب والتهريب ويفضي إلى تبييض الأموال”.

واحتلت تونس المرتبة الخامسة عالميا في تبييض الأموال، حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية.

ووفق تقرير نشره البنك الدولي في كانون الاول/ديسمبر 2013، يتكبد الاقتصاد التونسي سنويا خسائر بقيمة 1.2 مليار دينار (حوالي 1 مليار دولار) بسبب “التجارة الموازية” مع الجارتين ليبيا والجزائر. وذكر البنك ان التهريب والتجارة غير الرسمية يمثلان “أكثر من نصف المبادلات مع ليبيا”.

وتقول السلطات التونسية إن ممارسة التجارة الموازية ضخت خلال السنوات الأربع الماضية أكثر من 5 مليار دينار (حوالي 4 مليار دولار) لفائدة شبكات الإرهاب التي يقودها “الأثرياء الجدد”.

أنماط استهلاك تظاهرية

مع بروز “طبقة الأثرياء الجدد” اخترقت المجتمع التونسي ظاهرة مايعرف في علم الاجتماع بـ”أنماط الاستهلاك التظاهري” لتتفشى سلوكيات استهلاكية لا تعكس فقط حدة الفوارق الاجتماعية، وإنما تؤجج لدى أكثر من 70 في المئة من التونسيين المنتمين للطبقتين الوسطى والفقيرة نوعا من الحقد الاجتماعي، يرافقه سخط على السلطة السياسية التي خذلت غالبية التونسيين بعد أن ساهمت سياساتها الفاشلة وغير العادلة في تقسيم الخارطة الاجتماعية إلى “ثلاث جزر” كل جزيرة تمثل “مجتمعا قائما بذاته”: “جزيرة الأغنياء” التي تعلو سلم الهرم الاجتماعي، “جزيرة الفئات الوسطى المتآكلة” و”جزيرة الفقراء” الغارقة في مستنقع الدرك الأسفل من الهرم.

خلال أربع سنوات فقط زج الثراء الفاحش بالأثرياء الجدد في أنماط استهلاكية استفزازية بعد أن انسلخوا من “بيئتهم الاجتماعية”، إذ ينحدر 75 بالمئة منهم من فئات اجتماعية متواضعة، نزحوا من أحيائهم السكنية الشعبية ومن الجهات الداخلية ليلتحقوا بأحياء من سبقوهم في الثراء مثل حي النصر وأحياء المنازه الواقعة شمال تونس العاصمة، بل زاحموا حتى العائلات الأرستقراطية التي ورثت الثراء جيلا بعد جيل، خاصة في أحياء قرطاج على ضفاف مياه البحر الأبيض المتوسط، ليسكنوا في فلل فاخرة يتجاوز سعر الفيلا الواحدة 3 ملايين دينار (حوالي 2 مليون دولار) فيما يقطن 30 بالمئة من فقراء تونس في “بيوت” طينية وقصديرية هي أقرب إلى الأكواخ منها إلى المساكن.

وتبدو سياقة أحدث أنواع السيارات الفارهة إحدى ابرز أنماط الاستهلاك التظاهري لأثرياء تونس الجدد، لكونها تعد مقياسا للمكانة الاجتماعية المكتسبة فيما تعجز الأسرة المنحدرة من الطبقة الوسطى على اقتناء سيارة شعبية ولا تجد أمامها من حل لذلك، سوى التداين من البنوك.

وفيما يلتجئ الفقراء إلى أسواق الألبسة المستعملة المنتشرة في أغلب المدن والأحياء السكنية، يتظاهر الأثرياء بالألبسة المستورة من فرنسا وإيطاليا الحاملة، لشعار الماركات العالمية، مستنكفين عن الاقتراب من الألبسة المحلية.

وعلى الرغم من أن مستواهم التعليمي متدن وكثير منهم أمي، فإن الأثرياء الجدد يمثلون حالة استثنائية بالنسبة لأنماط الاستهلاك لدى غالبية التونسيين. فقد أظهرت دراسة أعدها المعهد التونسي للإحصاء أن أغلب الأسر عاجزة عن تحقيق التوازن بخصوص النفقات حيث أن 92 في المئة من إجمالي نفقات الأسرة متوسطة الحال تذهب للتغذية، فيما لا تقدر الأسرة سوى على إنفاق 8 بالمئة للصحة و8 بالمئة للباس، أما الترفيه فإنه لا يستأثر سوى بـ7 بالمئة من مجموع النفقات.

أما بالنسبة للأثرياء فإن الأنماط الاستهلاكية مختلفة تماما إذ تساعدها وفرة المال على “نوع من الإنفاق المتوازن المريح”، حيث تنفق الأسرة الواحدة 27 بالمئة من مجموع نفقاتها على التغذية و17 بالمئة على الصحة و26 بالمئة على الألبسة و21 بالمئة على الترفيه.

وتؤكد دراسة معهد الإحصاء أن الفوارق الاجتماعية تستبطن فوارق خطيرة لا تتعلق فقط بمستوى العيش وإنما تتعلق أيضا بنوعية العيش، إذ في الوقت الذي يتجاوز فيه مجموع نفقات الأسرة الثرية الواحدة 15 ألف دينار (حوالي 10 آلاف دولار) شهريا لا يتجاوز مجموع نفقات الأسرة المتوسطة الواحدة 1500 دينار (حوالي 1000 دولار) شهريا، فيما تعيش الأسرة الفقيرة على 150 دينار (حوالي 100 دولار) شهريا.

صيحة فزع

إزاء الخطورة التي باتت تمثلها حدة الفوارق الاجتماعية على استقرار المجتمع، أطلق عدد من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وخبراء في التنمية الاجتماعية صيحة فزع محذرين من أن “المجتمع التونسي يخطو نحو التفكك والتمزق الذي لا يقود إلا إلى احتقان يهدد السلم الاجتماعية”.

فقد أعلن الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي أن المركزية النقابية ستعمل مع حكومة الحبيب الصيد على “وضع أسس الاقتصاد التضامني”، باعتباره تجربة ناجحة في عديد البلدان قلصت من الفوارق الاجتماعية وعززت السلم الاجتماعية بين مختلف فئات المجتمع.

ويقول العباسي إن “التشجيع على بعث المشاريع المتوسطة في مختلف القطاعات بقروض ميسرة من شأنه أن يفتح الآفاق أمام العاطلين والفقراء وأيضا أمام الأجراء بعد أن تم استصدار قانون يسمح لهم بإجازة دون اجر من أجل بعث مشروع استثماري”.

واعتبر الائتلاف اليساري “الجبهة الشعبية” المعارض أن “أخطر ما يهدد استقرار المجتمع خلال السنوات القادمة هي الفوارق الاجتماعية التي زادت حدتها خلال السنوات الأربعة الماضية بعد أن برزت ‘ظاهرة فقراء الثورة’ مقابل ‘أغنياء الثورة’، وبدا المجتمع يتجه نحو انقسام اجتماعي نتيجة تلاعب عصابات نافذة اقتصاديا بقوت التونسيين”.

وتطالب الجبهة الشعبية حكومة الحبيب الصيد بخطة وطنية لمعالجة المشاكل الاجتماعية في الجهات الداخلية وفي الأحياء الشعبية “حتى يسترجع التونسيون الشعور بأنهم مواطنون لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات بقطع النظر عن مكانتهم الاجتماعية”.

ويشدد خبراء التنمية الاجتماعية على “ضرورة إرساء سياسات اجتماعية عادلة بين الجهات وبين الفئات تقوم على أساس منوال تنموي جديد يقطع مع الاقتصاد المتوحش والتسيب الضريبي، ويركز على المشاريع الصغرى التي تنسجم مع خصوصيات المجتمع التونسي وتستجيب لتطلعات التونسيين في تحقيق الارتقاء الاجتماعي الكفيل بالحد من الفوارق”.

ويقول الخبير أحمد الفريوي “إن الخروج من الأزمة الاقتصادية وتذليل الفوارق بين الجهات والفئات أمر ممكن إذا ما انتهجت حكومة الحبيب الصيد سياسات تقوم على مفهوم الاقتصاد التضامني الذي يقوم أساسا على إحداث مؤسسات استثمارية صغرى تتلاءم مع طبيعة المجتمع التونسي”.

اقترح تصحيحاً

اترك تعليقاً