(جامع الموتى) … فكرة متقدمة هل نعود إليها؟

(جامع الموتى) … فكرة متقدمة هل نعود إليها؟

كل من عاش في بنغازي، حتى أواخر خمسينيات القرن الماضي، يذكر ما كان يطلق عليه (جامع الموتى) وهو مكان يقع خلف (السور) الذي كان يوجد بعد مستشفى الجمهورية، وكان يمثل الحد الشرقي لمدينة بنغازي. وكان هذا الجامع مخصصاً لأداء صلاة الجنازة على الموتى، وفيه يتلقى ذوو الميت العزاء، وبعد أن ينفض المعزون، يذهب نفر من أهل الميت ومن رغب من الحاضرين حاملين النعش على أكتافهم حتى يوارى مثواه في مقبرة سيدي عبيد.

لقد كان هذا التقليد فكرة متقدمة وحضارية، إذ كانت تجمع بين أمرين: الأول إتاحة الفرصة لمن يريد مواساة أهل الميت وتعزيتهم للقيام بذلك في مكان قريب، يسهل الوصول إليه ومغادرته، دون تزاحم أو مضايقة، والثاني تسهيل عملية نقل الجثمان إلى المقبرة ودفنه دون شعور بأي حرج تجاه المعزين، الذين يكونون قد أدوا واجب العزاء وانفضوا.

ولا أذكر ولا أعرف متى توقفنا عن ممارسة هذا التقليد الممتاز، ولا من اتخذ قرار إغلاق أو هدم جامع الموتى، وكيف بات الناس مضطرين للذهاب بالجثامين إلى المقبرة، حيث يصلى على الجنازة، ثم يذهب الجميع إلى حيث توجد القبور، فيضطرون إلى الانتظار حتى يتم الدفن، ثم يشرعون في التدافع والتزاحم كي يؤدوا واجب العزاء لأهل الميت.

وقد أصبحت هذه العملية تسبب ما يعرفه ويشعر به الجميع من تعب وإزعاج وإرهاق، سواء للمعزين أو لأهل الميت. ولعل مما أخذ يزيد هذه المسألة صعوبة وتعقيداً بقاء المدينة تدفن موتاها في مقبرة واحدة، على الرغم من تزايد أعداد سكانها وتباعد مواطن سكناهم عن مكان المقبرة.

ولقد كنت على الصعيد الشخصي، اتخذت قراراً بعدم الذهاب لأداء واجب العزاء في المقبرة، مكتفياً بأدائه لدى أهل الميت أو حيث يقيمون مأتمهم، وذلك بعد عدة تجارب، كنت أذهب فيها إلى المقبرة، وأتحمل ما في ذلك من عناء ومشقة، وعندما تحين لحظة اصطفاف أهل الميت في طابور التعزية، أجد المعزين يتدافعون ويتزاحمون بشكل مقزز ومخجل ومؤسف، كي يصل كل منهم إلى الصف، فيؤدي ذلك الواجب وينصرف. ولقد كنت أجد كثيراً من الأسف والاشمئزاز من هذا السلوك الخالي من أي معنى من معاني الحضارة، وأي ذرة من الإحساس باحترام المكان الذي يوجدون فيه. ولذا فقد قررت أن أتوقف عن تكرار هذه التجربة، وبت أكتفي بالذهاب لأداء واجب العزاء في بيت الميت أو حيث يقيم ذووه مأتمهم، سواء قبل الدفن أو بعده.

ولقد مررت البارحة بأخر ما وصلت إليه هذه التجربة، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها مقبرة الهواري الجديدة، بعد امتلاء الأولى وإقفالها، وذلك أننا كنا قررنا الصلاة على فقيدنا في جامع المقبرة القديمة، فاكتشفت أن المسافة بين المقبرة القديمة والجديدة مسافة بعيدة لا يمكن قطعها مشيا على الأقدام، ووجدت أن المعزين الذين حضروا الصلاة على الجنازة، قد اضطروا إلى الذهاب إلى موقف السيارات لأخذ سياراتهم للذهاب إلى المقبرة الجديدة، حيث يدفن الميت.

وقد ذكرتني هذه التجربة الصعبة الشاقة التي لا معنى لها، بما كنا نسميه (جامع الموتى) في بنغازي، وتساءلت: لماذا لا نعود إلى تلك الفكرة الرائعة، فننشئ في أطراف مدينة بنغازي، (في الشرق والغرب والجنوب على سبيل المثال) أماكن تجهز وتخصص للصلاة على الجنازات، فيذهب أهل الميت بالجثمان إلى هذا المصلى، فتصلى عليه صلاة الجنازة، ثم يقفون لتقبل التعازي، وبعد انصراف المعزين، يذهب نفر محدود من أهل الميت وأصدقائه لدفن الجثمان في المقبرة.

وإني أتصور أننا، ونحن نفكر في إعادة تنفيذ هذه الفكرة في سنة 2013، سوف نجد من المهندسين المعماريين أو غيرهم من ذوي الاختصاص من يضعون أو يبتكرون لنا تصميماً مناسباً، يجعلونه ممهداً وميسراً لأداء الغرض منه، من حيث المسالك المؤدية إليه والخارجة منه، ومن حيث التسهيلات المناسبة لاستيعاب عدد كبير من سيارات المعزين، ناهيك عن المرافق الصحية التي تتيح لمن يريد الوضوء أو قضاء الحاجة فعل ذلك بيسر وسهولة.

إنها فكرة كانت موجودة على أرض الواقع، ولا تزال موجودة –كما نسمع- في مدينة درنة، حيث توافق أهل المدينة منذ زمن بعيد على أن تصلى صلاة الجنازة وتقام المآتم في مكان واحد هو جامع الصحابة… ولا نحتاج إلا لابتكار الصيغة المناسبة التي تستجيب لحاجات مدينة باتت مترامية الأطراف وتعج بالسكان وتزدحم بالسيارات، ونستلهم فيها كل ما يمكن أن توفره لنا إبداعات العمارة الحديثة والتقنية المتقدمة.

وهذه دعوة لسكان مدينة بنغازي في المقام الأول، ومن بعد للمسؤولين في المدينة (ويمثلهم الآن المجلس المحلي المنتخب)، لبحث هذه الفكرة وإمكانية تنفيذها، فهل تجد من يسمعها ويعيها، ويشعر بأهميتها؟  ننتظر الجواب.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً